Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

 الذاكرة والحنين المراوغ ... في "زيارة أخيرة لأم كلثوم"

علي عطا يجمع في روايته بين المطربة الكبيرة والخالة

المطربة ام كلثوم (يوتيوب)

الحُلم بفرادته، الذاكرة بكل هشاشتها، والواقع بكل أعبائه، تفاصيل تتضافر معاً لتشكل موزاييك التشكيل الدرامي في رواية "زيارة أخيرة لأم كلثوم" للكاتب علي عطا (الدار المصرية اللبنانية- القاهرة) ولعل ما يستحق التوقف في هذا النص، كما في الرواية  الأولى للمؤلف "حافة الكوثر"، هو القدرة الصارخة على مواجهة الألم وتعريته، بل الذهاب إليه بشكل اختياري تماماً. إن مواجهة الألم هنا لا تحمل استدعاء له من الماضي بقدر ما تعكس إصراراً على منازلته وكشفه.

 بيانُ هذا لا يحضر فقط على مستوى الذات في ماضيها وحاضرها، وأسئلتها الشاقة، بل يمضي غائراً في جغرافية الأماكن وتاريخها، عبر تأمل التحولات المكانية والزمانية للبشر والأشياء واستدعاء الجذور الباطنية البعيدة. القارئ يجد نفسه من جديد أمام شخصية "حسين عبد الحميد"، الراوي في "حافة الكوثر" وصديقه طاهر الذي يسرد عليه حكاياته، أيضاً هناك دعاء وسلمى، وما تحمل قصة كل منهما للبطل من مسرات وأوجاع. يعمل حسين صحافياً في مكانين، ويعاني من اضطرابات نفسية مستمرة يواجهها بالكتابة، وبالبوح إلى صديقه طاهر، وبمحاولته المستمرة التخفف من الألم عبر تعرية ذاته أولاً.

لعل ما تجاوزته رواية "زيارة أخيرة لأم كلثوم" عن "حافة الكوثر"، هو الحفر عميقاً ثم العودة مع اختيار المراد قوله بلا وجل أو مواربة ، وإذا كانت فكرة مواجهة شبح "الاكتئاب" قوية الحضور في الرواية الأولى، فإن مواجهة الأحداث والأشخاص والأماكن تشكل ديمومة الحدث الرئيسي في هذا النص، حيث يُمكن الاستدلال على هذه الفكرة بدءاً من العنوان، أم كلثوم هنا هي خالة البطل التي تنازع سكرات الموت، وتربطه بها علاقة قوية، ولها آراء ومواقف مختلفة كأن تفخر بأن السادات هزم موشيه ديان مرتين، يقول: "ستكون خالتي أم كلثوم آخر الراحلين من إخوة أمي الأشقاء وغير الأشقاء". انطلاقاً من هذه العبارة تبدأ مراجعة الماضي بكل ما فيه، التبئير فيه بعيداً، تأمله مرة أخرى وفق وجهة نظر أنضجها الوعي. ولا تخلو حالة المراجعة تلك على مدار الرواية التي بلغت 68 فصلاً قصيراً، من التورط بفعل الحنين المراوغ الملتبس على البطل السارد نفسه. هذا الحنين يمكن رصده عند حديثه عن الأماكن، عزبة عقل، المنصورة، القاهرة ، وكأنه يتعمد تأريخ ذاكرته كي لا يتلاشى ما ظلت تخزنه من تفاصيل يشتبك فيها الأمس واليوم، لنقرأ: "ماذا عم الأقفاص المصنوعة من جريد النخل؟ بات وجودها نادراً يا حسين... حرفتك القديمة تقترب بسرعة من الاندثار، إن لم تكن قد اندثرت بالفعل. ومع ذلك كثيراً ما تجد نفسك في الحلم تعود إليها... عزبة عقل نفسها تغيرت ملامح بعض شوارعها، وباتت غريبة بالنسبة إلي لغياب معظم ناسها، الذين كنت أعرفهم، خصوصاً شارع المحطة الفرنساوي... هذا النفق يسميه الناس كوبري عزبة عقل... على جانبيه باعة ومتسولون. إلى الآن لايزال هناك باعة ومتسولون".

الذاكرة والانهيار

يمكن القول إن مراجعة الماضي بكل ما فيه، يحمل في ثناياه وقفات كثيرة أمام تحولات منعطفية أدت إلى الانهيار في كثير من الأحيان، انهيار على مستوى الذات، إخفاق البطل معنوياً في علاقته بزوجته الأولى دعاء، ثم بزوجته الثانية سلمى على الرغم مما بينهما من حب وانسجام فكري، إخفاقه المادي أيضاً نتيجة التحولات التي تعرضت لها مهنة الصحافة وأدت إلى إغلاق الصحيفة التي يعمل فيها، ثم إخفاقه النفسي في انزلاقه نحو متاهات الاكتئاب المنهكة.

هذه الإخفاقات لم تكن بمنأى عن تحولات بلد كامل، تتغير أماكنه وقيمه، وتطغى المفاهيم المادية على سائر القيم الأخرى؛ ولعل هذا ما لم يتمكن البطل من تجاوزه، وايجاد صيغة جديدة لتقبل أو صياغة علاقة جدية مع  الانكسارات الخاصة والتحولات العامة. يستسلم البطل حسين للاكتئاب لأنه يحس بعدم قدرته على المراوغة والاستمرار في تحمل ثقل العالم، يسقط أرضاً، ثم يقف من جديد راجعاً نحو الأمس، وكأنه يستنطق كل ما في ماضيه ليقف عند أساس العلة في لحظات، وليخلص ذاكرته من مجاز لحظات أخرى. يعزز هذا القول تناص البطل السارد في أكثر من فصل مع رواية "صورة عتيقة" لإيزابيل اللندي، إذ يُدرك قارئ هذه الرواية مدى تورطها مع فعل التذكر واستنادها إليه كمرجعية موثوق بها لإنقاذ اللحظة الآنية من الانفلات واللاشي.

يُمثل فعل التذكر في الرواية فعلاً مؤلماً تحضر في مواجهته الكتابة بكل ما فيها من إطلاق العنان للخيال مع انشغال البطل بها. ففي كثير من الحالات يبدو حسين كما لو أنه تعرض لخيانة كبرى من ذاكرته، وهذه الخيانه تجعله يشعر بألم داخلي مبرح، لأنه لا يستطيع معرفة تفاصيل مهمة، وهو لا يُخفي مرارة عدم التذكر بل يقول: "ربما يكون ذلك قد حدث... ربما لم يحدث. يقيناً لا أتذكر" أو أن يقول في موضع آخر وهو يستعيد تفاصيل فراقه عن سلمى: "سأنسى ذلك كله، سأنساه تماماً، كمن أشفق الله عليه فنزع منه الذاكرة".

اختار علي عطا أن يبني روايته وفق فصول قصيرة، تمتد مثل فروع شجرة، كل فرع  يفضي إلى آخر، وفي الوقت نفسه له نهايته المستقلة، المتصلة بالماضي والحاضر. أبطال الرواية لا يبدون غرباء عن واقعهم، ولا عن القارئ، إنهم أبطال حقيقيون من لحم ودم يمكن مشاهدتهم، والتحاور معهم من دون وجود مسافة مفتعلة. البطل الراوي حسين يروي حكاياته مع ضمير الأنا، مع استخدام مونولوج داخلي في بعض المقاطع السردية، أما بقية الأشخاص فيقدم حكاياتهم مثل لوحات متكاملة لكل منها تفاصيل تشبهها، الحديث عن الجد توفيق، أو الأب مثلاً يوجز عالمه بحيث يُمكن للقارئ تخيله بيسر، كذلك في حديثه عن صديقه السوداني المهاجر إلى أوروبا طاهر الحاضر الغائب على مدار الروايتين، هذا الطيف النبيل الذي يُمثل للبطل محور الثقة والأمان، حتى في سياق الأحلام التي يشاهده فيها يظل حضوره طيفياً ومُلهماً يبعث على البوح والصدق، فالرواية كلها مواجهة في سردها إلى طاهر، كما أن البطل السارد يحكي مع طاهر كما لو يخاطب نفسه كأن يصف لحظة مشاهدته زوجته سلمى بعد فراقهما: " رأيت سلمى السكري أمس... التقت عينانا... لم أفكر  في أن أتحاشى ذلك اللقاء يا طاهر".

وتكمن أهمية هذه الرواية في أنها تؤرخ لذاكرة تباعدت عن أصحابها، تضم أحداثاً سياسية، مع وقائع شخصية. تغيرات المكان جغرافياً مع سؤال السارد عن زمن تصاعد الأصولية في مصر، وسبب مهادنة تنظيم الضباط الأحرار لجماعة الإخوان المسلمين المحظورة في العهد الملكي. تجمع انكسارات الفرد مع تحولات الوطن وتبدل أحوال أهله. تؤلف بين الاكتئاب الفردي وبين العبث الجماعي، بين فقدان الصحافيين مصادر رزقهم في ظل توقف الصحف، وإغلاق مواقع الصحف الإلكترونية، وبين عجز البطل السارد عن استيعاب هذه التحولات السريعة والمؤلمة التي تتركه في عراك مستمر مع الأحلام، حيث تبدأ الرواية بحلم مؤلم، وتنتهي مع حلم آخر، ثم يظل حضور اسم "أم كلثوم" في العنوان الذي يجمع بين الخالة وبين المطربة الخالدة إشارة مهمة إلى ذاكرة فردية جماعية تستدعي زمناً مضى، وتتشبث بتوثيقه.

المزيد من ثقافة