Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تسعون "مسيرة الملح": أين ذهب إرث غاندي؟

المتطرفون الهندوس يريدون "هند عظيمة" من بنغلادش إلى أفغانستان خالية من المسلمين

المهاتما غاندي في طليعة مسيرة الملح (غيتي)

في عام 1858 تمكنت أساطيل بريطانيا العظمى من إخضاع شبه القارة الهندية ووضعها تحت سلطة حكمها الاستعماري، لتبدأ بعد ذلك سنّ مراسيم احتكارية تجارية-صناعية، من ضمنها قانون احتكار استخراج الملح وبيعه، حيث فرضت على كل من يخرق هذا الاحتكار من الهنود عقوبة السجن.

ومع تعاظم الكساد ووتفشي البطالة والفقر بين الطبقتين الوسطى والدنيا، برزت بوادر انتفاضة شعبية لدى الهنود ضد الممارسات الاستعمارية. واستباقاً لاشتعال نيران الثورة ضدها، ضيقت بريطانيا القيود على الهنود، ومنحت الشرطة حرية إلقاء القبض على كل من تشتبه به، وسجنه من دون محاكمة، ما أدى إلى ارتفاع منسوب الغضب والتململ.

تزامنت هذه التطورات مع عودة محام هندي يدعى "موهنداس غاندي" من جنوب إفريقيا، حيث كان شاهداً على العنف المفرط الذي استخدمه الجيش البريطاني لاخماد ثورة "قبائل الزولو" ضد الحكم العنصري. ومن خلال معايشته ومعاينته لمشاهد القمع الوحشية، تكونت لدى غاندي مفاهيم فلسفية حول كيفية مواجهة العنف، ليتشكل لديه، في نهاية المطاف، وعي إنساني مفاده أنّ النضال السلمي هو السبيل الأمثل في مواجهة القوة العسكرية البريطانية الغاشمة.

حمل غاندي هذا الوعي الإنساني معه غداة عودته إلى الهند، وبدأ في نشر مفهوم الـ"ساتياغراها"، أو حركة المقاومة السلمية ضد الوجود الاستعماري البريطاني، والتي حدد جوهر فلسفتها بـ"اللاعنف": أعظم قوة متوفرة للبشرية. وقد انعكس ذلك الوعي الإنساني في المقاومة على حياة غاندي الشخصية، إذ عاش متواضعاً متسامحاً، حتى لقّبه شاعر الهند الأبرز "رابندراناث طاغور" بالـ"مهاتما"، أو الروح العظيمة، دلالة على روح المحبة الإنسانية التي هيمنت على حياة الزعيم الهندي.

مسيرة الملح

تعد "مسيرة الملح"، التي انطلقت في 12 مارس 1930، أبرز ملامح "ساتياغراها". فقد قاد غاندي جموعاً حاشدة من مدينة "أحمد آباد" وسط الهند، متجهاً نحو مدينة "داندي" على ساحل بحر العرب، متحدياً ضريبة الملح التي فرضها البريطانيون، قاطعاً مسافة 400 كيلومتر خلال 24 يوما. وكان المهاتما خلال كل مراحل المسيرة، يغرس في ضمير أنصاره ضرورة التحلي بروح التعاون والزهد والتسامح والانخراط في طريق اللاعنف. ولدى وصوله داندي، وأمام الحشد الكبير الذي انضم إليه من مختلف المناطق والمشارب، قبض غاندي حفنة من ملح البحر وقذفها في الهواء، مطلقا شعاره الخالد: "أيها الهنود اصنعوا الملح". ومنذ تلك اللحظة، بدأ العد التنازلي لانحسار الاستعمار البريطاني عن الهند، إذ اندلعت موجات من العصيان المدني والتظاهرات في مدن شبه القارة كافة، ضمن مسيرة كفاح مدني طويل دامت 17 عاما، لتنتزع الهند استقلالها في عام 1947.

ومنذ عام الاستقلال، جرت مياه كثيرة في قنوات الهند. فقد خاضت سفينة البلاد بحرا متلاطما من التحولات الهائلة سياسيا واقتصاديا واستراتيجيا، شهدت خلالها حروبا واضطرابات وأزمات داخلية، ليس أقلها اغتيال رئيسين للوزراء (هما إنديرا وراجيف غاندي) وقبلهما "المهاتما غاندي" نفسه على أيدي متطرفين.

"أيها الهنود اصنعوا الملح". أربع كلمات أطلقها المهاتما غاندي في ختام "مسيرة الملح"، دشنت مبدأً سلمياً جديداً في مفهوم مقاومة الشعوب المغلوبة لمستعمريها، وكانت كفيلة بدحر جيوش الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس خارج بلاده.

الهند القوية

خلعت هند اليوم، رداء الضعف الذي كانت عليه عشية "مسيرة الملح"، وبدأت تتبوأ مكانة متقدمة كقوة صاعدة في عالم القرن الواحد والعشرين؛ عسكرياً واقتصادياً وديمغرافياً، وحتى ثقافياً وسياسياً. باختصار، تمكنت الهند خلال العقود الماضية من ترسيخ قوتها إقليمياً، وفرض نفسها لاعباً دوليا في مسرح الكبار، وباتت مرشحةً فوق العادة لاحتلال مقعد دائم في مجلس الأمن الدولي.

فعلى الصعيد العسكري، تجسد مفهوم القوة بشكله الأبرز في التجارب النووية الخمس التي أجرتها الهند عام 1998. صحيح أن نيودلهي فجرت أولى قنابلها النووية عام 1974 في صحراء راجستان، إلا أن تجارب عام 1998 أكدت جهوزيتها واستعدادها لدخول نادي الدول العظمى النووية. وبذلك الإنجاز بات لقواتها المسلحة التي يبلغ تعدادها زهاء 1.4 مليون جندي مظلتها النووية. يضاف إلى ذلك جهود تحديث أسلحة الجيش الهندي التقليدية، فقد تم تدعيمه بغواصات متطورة، وحاملة طائرات ثقيلة، وطائرات مقاتلة وحوامات حديثة، ونظم حرب إلكترونية من مصادر متعددة؛ فرنسية وأميركية وروسية وإسرائيلية. ويشرف الجيش الهندي كذلك على برنامج محلي لتصنيع الصواريخ البالستية العابرة للقارات المجهزة بالرؤوس النووية، ناهيك عن برنامج فضائي طموح من الطراز الرفيع. وترمي الهند من وراء تدعيم قدراتها الاستراتيجية، توجيه رسائل ردع إلى كل من باكستان والصين اللتان خاضتا حروباً عدة مع الهند، وكذلك لفت نظر الولايات المتحدة إلى أهمية شراكتها كمركز ثقل موازن في مواجهة التنين الصيني، وكذلك الاضطلاع بدور القوة المهيمنة على حوض المحيط الهندي. وتشير زيارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الأخيرة إلى الهند خلال عامه الانتخابي إلى الأهمية الكبيرة التي تعلقها واشنطن على هذه الشراكة الاستراتيجية.

وعلى الجبهة الاقتصادية، أصبحت الهند خامس أقوى اقتصادات العالم العام الماضي، متجاوزة بريطانيا وفرنسا، بفضل تمتع البلاد بمعدلات نمو مرتفعة تراوحت ما بين سبعة وثمانية بالمئة في العقدين الماضيين. وبات للهند اليوم شركات متعددة الجنسية تتمتع بأسماء رنانة، مثل "تاتا" و"ماهيندرا" و"ريلاينس" و"إنفوسيس". ويعد قطاع الخدمات المعلوماتية محركاً رئيساً للنمو الهندي، إذ تتربع البلاد بفضله اليوم على عرش سوق البرامج المعلوماتية جنباً إلى جنب الولايات المتحدة.

وتطمح هند اليوم إلى أن تكون "صيدلية" العالم و"مكتبه"، كما هي الصين ورشة العالم ومصنعه. وبخلاف الصين التي سيبدأ عدد أيديها العاملة في الانخفاض قريبا، ستستمر الهند في ضخ المزيد من الأيدي العاملة حتى حدود أربعينيات هذا القرن على الأقل، لتكون بذلك "خزان العالم" للعمالة منخفضة الأجر. ومع أن تزايد عدد السكان يعني في بلد مثل الهند المزيد من الفقراء (إذ يعيش فيها 350 مليون نسمة بأقل من دولار في اليوم) إلا أن لا أحد يرغب في تجاهل بلد يناهز تعداده المليار ونصف المليار، وتحديدا سوقه الاستهلاكية الهائلة التي تمثلها طبقته الوسطى.

وثمة عنصر آخر للقوة الديمغرافية يتمثل في هنود الشتات. صحيح أن هجرة النخب الهندية إلى الخارج يمثل "هجرة أدمغة"، إلا أن هؤلاء المغتربين "يضخون" المليارات كل عام إلى أهاليهم في الداخل، كما أنهم يمثلون لوبيات ضغط حقيقية في بعض الدول، كما هو حال هنود الولايات المتحدة البالغ عددهم ثلاثة ملايين والذين يشكلون لوبياً حقيقياً قادراً على التأثير في سياسة واشنطن الخارجية. كما تتمتع الهند بنفوذ من خلال إشعاعها الثقافي الذي يستند إلى صناعة سينما بوليوود بانتاجها القياسي من الأفلام والذي بات له جمهور في الأسواق الخارجية، ولا يفوتنا أن ننسى قوة الهند الناعمة المتمثلة في الموسيقى والرقص والغناء.

إصلاحات سياسية مستمرة

يشجع الاستقرار السياسي الملحوظ الذي تنعم به الهند في ديمومة سياساتها العامة. فمنذ عقود، ومهما كان لون الحزب الحاكم، ظل البلد ينتهج السياسة نفسها في الاقتصاد والسياسة الخارجية والخيارات الاستراتيجية-العسكرية. ويساهم هذا الاستقرار في تعزيز وتعميق الإصلاحات الديمقراطية والفدرالية بشكل مستمر. فعلى سبيل المثال، اختار الحزب الشيوعي الهندي بُعيد الاستقلال النهج الثوري المسلح، لكنه ما لبث أن عاد عن نهجه لاحقا، واحتكم إلى المؤسسات التي وضعها دستور عام 1950 وشارك في الانتخابات وفاز في بعض الولايات. وعلى المنوال نفسه جنحت "حركة المنبوذين" إلى صناديق الاقتراع بعدما لجأت في بداياتها إلى العنف المسلح.

كما نجح الإصلاح الفدرالي في عملية الإدماج الوطنية على غرار اللعبة الانتخابية. فإلى جانب التاميل في الجنوب والسيخ في البنجاب، ارتفعت أصوات مجموعات إثنية عدة مطالبة بالانفصال منذ منتصف القرن الماضي حتى ثمانينياته. لكن لم يبق من هذه المطالبات في الوقت الحاضر، إلا إقليم كشمير وبدرجة أقل منطقة آسام، حيث بعض الحركات الانفصالية. ويعود الفضل في إخماد الأصوات الانفصالية إلى نجاح الهند في تطوير نظامها الفدرالي؛ إذ شرعت منذ سنوات الاستقلال الأولى في إعادة رسم حدود الولايات الاتحادية لكي تتماشى مع النطاقات اللغوية حسب رغبات سكانها، فيما تم استحداث ولايات أخرى تلبية لخصوصيات العديد من المجموعات الإثنية.

وقد تبنت الهند غداة نشأتها، نظرة منحازة إلى العالم الثالث، فكانت تدافع عن فلسفة عدم الانحياز بوصفه نهجا ثالثا مستوحى من فكر غاندي، وكانت تنادي بتحرر الشعوب المستعمرة واللاعنف وحظر السلاح النووي. ولقد سادت نزعتها المثالية هذه طوال السنوات الـ17 التي أمضاها نهرو رئيساً للحكومة محتفظا خلالها لنفسه بحقيبة الشؤون الخارجية، حيث غلّف دبلوماسيته بإطار إنساني لأن نزعته القومية كانت جزءًا لا يتجزأ من النزعة الكونية العميقة. وكان نهرو يستمد هذه الصفة العظيمة من "أبيه الروحي" المهاتما غاندي الذي وصفه بالقول: "غاندي كان قوميا متحمسا، وفي آن واحد، إنساناً يحمل رسالة ليس للهند فحسب بل للعالم أجمع. كانت نزعته القومية تحمل بعدا عالميا شاملا بعيدا عن أي نية عدائية". لكن مع ما نشهده اليوم من عنصرية ضد المسلمين في الهند يحق للمرء أن يتساءل: أين أصبح إرث غاندي ونهرو؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

جذور التطرف القومي

للإجابة على هذا التساؤل ينبغي تشريح الجذور التاريخية للنزعة القومية المتطرفة في الهند. فقد ظهرت هذه النزعة، تاريخياً، جراء الشعور بانعدام الأمن، منذ أن أحست الهند بالخطر وبأنها "مكشوفة" غداة العدوان الصيني في عام 1962 على حدودها الشمالية وما نتج عنه من قضم لمساحات كبيرة من الأرض. وتعمق الإحساس بالخطر إثر الحربين الضاريتين مع باكستان عامي 1965 و1971، وكذلك في أعقاب "حرب كارغيل" ضد المتمردين الإسلاميين الذين اجتاحوا السلاسل الجبلية الوعرة في كشمير عام 1999. وتزامن هذا "الانكشاف" الاستراتيجي، مع تخلف اقتصادي نهاية سبعينيات القرن الماضي، عندما بدأت فورة الارتقاء الصناعي-التجاري لدول ما يسمى "نمور آسيا" وعلى رأسهم الصين، التي تركت الهند وراءها ترتع في الفقر ومفتقدة لإمكانيات التصنيع الحديث.

وبمرور الوقت، تمكنت هذه المخاوف من إضعاف الروح المعنوية والنفسية للهنود، ما فتح الباب واسعا أمام تفشي نزعة قومية متطرفة، تعهدت رعاية "الروح المعذبة" لغالبية الهنود (80 بالمئة منهم هندوس)، من خلال خطابها المرتكز على وهم تفوق الهند من الناحية الإثنية-الدينية تعويضاً عن ضعفها الاستراتيجي-الاقتصادي. وترسيخاً لخطابها المتطرف أُطلقت هذه الحركة المتطرفة شعار "قولوا بكل فخر نحن هندوس"، الذي تبناه "حزب بهاراتيا جاناتا" في بداية تسعينيات القرن الماضي، حين بدأت تتصاعد أعمال العنف ضد المسلمين، بدعم صريح من الحزب، في سبيل استقطاب المزيد من أصوات الناخبين للاستيلاء على السلطة، وهو ما تحقق لوقت قصير في عام 1998، قبل أن يعود ليستولي عليها منذ عام 2014 وصولاً إلى اليوم. ويبقى العامل الأكثر إثارة للقلق في تمدد الحركة القومية المتطرفة في الهند، أنها استطاعت خلال الأعوام الماضية اكتساح الانتخابات بانتصارات ساحقة على أعرق الحركات السياسية، حزب المؤتمر، سليل غاندي وآل نهرو.

العرق الآري مجدداً

وهكذا، بعدما كانت الهند داعية إلى سبل الأخلاق، صارت نزّاعة إلى المقاربة الواقعية. ويحاجج المتطرفون القوميون الهنود بأن الغرب لم يكن يصغي إلى بلادهم لما كانت تجنح إلى النزعة السلمية وفقاً لمبادئ غاندي-نهرو، وأنها لم تؤخذ على محمل الجد إلا بعدما تسلحت نوويا في عام 1998. لكن، ألم يكن للهند أن تستخدم قوتها المتنامية في أغراض إيجابية، من مثل ترسيخ القيم المتصلة بالتعددية، بدلاً من تبني سياسيات إقصائية كما تفعل حالياً؟

إن غض حكومة رئيس الوزراء ناريندرا مودي الطرف عما يجري للمسلمين اليوم، يُبين مدى حاجة الهند إلى التفكير في أوجه استعمال فائض قوتها. فمودي وغيره في الحركة القومية المتشددة، ينظرون إلى الهند على أنها أوسع من حدودها الحالية، وأنه يتعين إعادة بناء "الهند العظيمة" التي يؤمن الهندوس المتشددون أنها تشمل نيبال وبنغلادش وباكستان وجزءاً من أفغانستان. لا بل يذهب اعتقاد الهندوس إلى أن الهنود شكلوا مجموعة عرقية واحدة تنحدر من العرق الآري، وعليه، من الطبيعي أن يتحدوا في مجتمع إثني يجمعهم. لذا ليس غريباً أن يُنظر إلى تعديل قانون الجنسية الأخير، الذي يحمل عنوان "حماية الأقليات" الدينية والإثنية الآتية من أفغانستان وباكستان وبنغلادش (تشمل الهندوس والسيخ والبوذيين والبارسيين والمسيحيين وأتباع الطائفة الجاينية، لكنه يستثني المسلمين) على أنه محاولة لضم أكبر عدد من الآريين إلى الهند.

ولعل أوضح الأمثلة على عنصرية توجهات "حزب بهاراتيا جاناتا" الفكرية هو "المانيفيستو" الصادر عنها في عام 1923 والذي رفض فيه كاتبه، "فيناك دامودار سافاركار" مؤسس فكر الحركة القومية الهندوسية المتشددة، بشكل واضح أفكار "المهاتما غاندي" حول هند متعددة وعلمانية، داعياً إلى ضرورة العمل على "إنهاء ثقافة الاستسلام بين الهنود". وتكشف بعض الأفكار التي ضمّنها سافاركار في كتاب أصدره لاحقاً في عام 1949، عن عنصرية بغيضة، ذلك أنه اعتبر أن "النازية أثبتت بلا شك أنها المنقذ لألمانيا". وعلى الرغم من تأييده المطلق للنازية إلا أن سافاركار لم يتردد لاحقاً في تأييد إقامة دولة يهودية في فلسطين، جراء خلفيته الانتهازية المتعلقة بالموقف العدائي من المسلمين. وقدم الرجل رؤية خاصة للمتطرفين حول "الوحدة الوطنية والاجتماعية" جعلت الهندوسية مركزاً دينياً، مضيفاً إليها طوائف أخرى تنصهر فيها، مثل السيخية والجاينية والبوذية لتحقيق "الأمة الهندوسية" مستبعدا المسلمين والمسيحيين. واعتبر منظر المتطرفين الهندوس، أنه من رحم تلك الطوائف المنصهرة يمكن أن تنشأ "الهند الموحدة" ما يؤسس لفكرة التوسع الجغرافي والديموغرافي التي تطبق اليوم.

لكن لماذا كل هذا العداء تجاه المسلمين تحديداً؟ يورد سافاركار في كتابه "هندو راشترا داراشان"، ما يُطلق عليه مصطلح "الغزو الإسلامي"، وهو خطاب يستدعي غرائز الهندوس بطريقة شعبوية تشبه إلى حد كبير شعبوية المتطرفين الغربيين اليوم. إذ تركز الحركة المتطرفة الهندوسية على الفترة ما بين عامي 1000 و1500 ميلادية، معتبرة إياها "فترة اضطهاد المسلمين لسكان الهند"، حين فرض الفاتحون وأجبروا "سكان المنطقة على اعتناق الإسلام ورحّلوا غيرهم"، ما يبرر جعل المسلمين اليوم خارج حسابات الأمة الهندية.

شاهين باغ

في مواجهة الحركة القومية الهندوسية المتطرفة اليوم، تشكلت "شاهين باغ"، وهي حركة نشأت على يد نساء مسلمات في مدينة دلهي ضد قانون "حماية الأقليات" الذي يريد من خلاله "حزب بهاراتيا جاناتا" الحاكم نزع الجنسية من مسلمي الهند وتحويلهم إلى مواطنين درجة ثانية. وقد اتحد المسلمون والهندوس ومثقفون وطلاب وأحزاب معارضة في الاحتجاجات السلمية التي اندلعت شرارتها في ضاحية "شاهين باغ" بمدينة دلهي. وانتظمت الحشود جنبا إلى جنب، في صورة أعادت إلى الأذهان "مسيرة ملح" غاندي، حيث ردد المشاركون أناشيد وطنية وأجزاء من دستور الهند، ورفعوا صور زعيم الاستقلال المهاتما غاندي، و"بي.آر. أمبيدكار" الأب الروحي للدستور، الذي ينص في متنه على أن العلمانية هي أحد أعمدة الهند إلى جانب التعددية.

في أواخر أيامه حصد غاندي ثمار "مسيرة الملح" برحيل آخر المستعمرين البريطانيين. لكنه شهد بالمقابل دعوات إلى قيام وطن قومي للمسلمين، فحاول إقناع محمد علي جناح، زعيم المسلمين، بوجوب العودة عن هذه الفكرة والبقاء ضمن هند موحدة. وجراء هذا الموقف المدافع عن الأقليات ومن بينهم المسلمين، تلقى غاندي ثلاث رصاصات غادرة أودعها صدره أحد المتطرفين القوميين الهندوس، ليفارق الحياة في يناير 1948. لكن إرث غاندي لم يذهب معه وإنما استمر مع نهرو وآله من بعده. ذلك أن إنجازات العظماء تكبر وتستمر بفضل رسالتها السامية الجامعة، فيما يسقط المتطرفون، مهما بلغت قوتهم، في آثام الإقصاء والعنف.. وفي مواجهة المتطرفين العنصريين الذين يحاولون اختطافها، تنتظر الهند ومعها العالم، غاندي آخر أو حتى نهرو ثانياً لتستعيد وسطيتها ووجهها الحقيقي وإرثها الذي جُبلت عليه.

المزيد من تحقيقات ومطولات