منذ خمسينيات القرن الماضي وستينياته، حينما كان شارع الحمراء البيروتي "شانزليزيه الشرق" ولبنان "سويسرا الشرق"، كان للسهر نصيبه الأساسي من هذه الصورة الإعلامية أو الإعلانية وربما التي تحمّل بعض الحقيقة. فقد كان السياح الأجانب والعرب يملأون الشوارع والمطاعم والحانات في بيروت وفي المدن السياحية الجبلية.
بعد الحرب الأهلية وانطلاق ورشة إعادة الإعمار، عاد للسهر البيروتي ألقه الذي خسره إبان الحرب، فاشتهرت شوارع بعينها بهذا النوع من السياحة، إضافة إلى وسط البلد الذي أريد منه أن تكون بيروت "مدينة عريقة للمستقبل". وقد سار الأمر بنجاح حتى العام 2005، تاريخ اغتيال الرئيس رفيق الحريري الذي تلته حرب تموز المدمِّرة (بين حزب الله وإسرائيل 2006)، ومن ثم الانقسام السياسي بين فريقين أبقيا البلد على حافة الهاوية حتى العام الحالي حين سقط في الهاوية، في الأقل على المستوى الاقتصادي، مع انطلاق "ثورة" اللبنانيين ومن ثم قرار الحكومة تعليق سداد ديونها السيادية. ولهذا كله تأثيره في السهر، فتبدّلت معانيه وتغيّر السهر من محل للترفيه والتسلية واللقاءات والندوات الأدبية والشعرية، إلى سهر سياسي قلِق ومتوتر يشبه الأوضاع العامة في البلاد. فالساهرون مواطنون أيضاً، وما يؤثر في المجتمع العام يؤثر في مجتمع الساهرين وفي السهر.
كورونا... أخيراً
ليس إعلان وزير الصحة اللبناني حمد حسن انتقال لبنان من مرحلة احتواء فايروس كورونا إلى مرحلة الانتشار، هو السبب الأول والوحيد لإصابة اللبنانيين ومنهم رواد السهر الليلي بـ"الهلع"، العبارة التي انتشرت في كل مكان إما سخرية أو تعبيراً جدياً عن حالة اللبنانيين.
الكورونا قشة في كومة قشّ الأسباب التي قد تدفع اللبنانيين إلى الهلع في هذه الآونة. بدءاً من الانقسام السياسي العام وصولاً إلى الغلاء الذي شمل البضائع كلها من دون استثناء، إلى سعر صرف الليرة مقابل الدولار، وحجز أموال المودعين في البنوك، وتفاقم البطالة نتيجة صرف العمال أو إقفال المؤسسات والمصانع، ومن ثم "الانتفاضة" أو "الحراك" أو "الثورة" والتوقعات المرجوّة وما يتوجب أن تحققه من نتائج، سواء سلباً أو إيجاباً.
كل هذه المشكلات وبالأحرى المعضلات تترك تأثيرها في تفاصيل الحياة اليومية للبنانيين كجماعات، وتترك تأثيرها فيهم فرادى، فهي تصيب كل واحد منهم بالقلق من الآتي الضبابي. ومن بين ما تترك تأثيرها فيه عالم السهر البيروتي قبل وبعد اتخاذ وزير السياحة اللبناني رمزي مشرفية قرار إقفال الملاهي والحانات مدة أسبوع قابلة للتمديد بسبب كورونا المشؤوم.
مدينة عريقة للسهر؟
لو افترضنا أن بيروت مدينة "عريقة" للسهر، وقد تم تصنيفها في بدايات العقد الأول من القرن الحالي إحدى الوجهات العالمية المفضّلة لمحبي السهر، يمكن القول إن هذه الميزة قد تأثرت بشكل كبير في ما يجري في لبنان من أحداث، وكأن على السهر في بيروت أن يطفو على بحر السياسة وتقلباتها والهلع الإعلامي على أنواعه وتأثيره العام.
كانت الشوارع التي تنتشر فيها حانات السهر الليلي والمطاعم تزدهر في المدينة من وسطها إلى شوارع متصلة بهذا الوسط.
في ما مضى كان السهر الليلي في حانات هذه الشوارع وسيلة للهرب من الضغوط اليومية التي تتعلّق بالعمل ومستوى الإنتاج الفردي والانخراط في الازدهار المالي الذي نعمت به بيروت "السلام" خلال محاولة استعادة دور لبنان المركزي في المنطقة (1995- 2005). أي أن الساهرين كانوا يتخففون في الليل مما راكموه من ضغوط الأعمال في النهار.
الأمر اختلف الآن، فبات السهر اعتياداً أكثر منه طقساً، وصارت أحاديث السهرة تتناول السياسة ومجريات الأحداث. فلا يتخلى الساهرون عما عايشوه خلال يومهم كما كان الحال سابقاً، بل باتوا ينقلون إلى داخل حياة السهر ما عاشوه في يومهم الحافل والزاخر بالتوتر والقلق والترقّب والتحليل. فمن يعيش في بيروت هذه الأيام لا بد أن مخيلته المبدعة وحاجته إلى التسلية والترفيه والترويح عن النفس، ستنضب وستقسو وسيخامرها يأس مقيم لا خروج منه إلا بالهرب، إلى أين؟ إلى السهر المترّنح على باب الفضاء البيروتي السياسي.
ساهرون جدد
لكن هذا التوصيف لا ينطبق على جميع ساهري بيروت، فهناك فئة من الساهرين الشباب والمراهقين ممن لا تشغلهم مجريات الأحداث السياسية أو الاقتصادية، يتابعون حياتهم اليومية والليلية كالمعتاد، كما لو أن شيئاً لا يحدث. غالبية هؤلاء طلاب في جامعات خاصة، من الطبقة الوسطى، ويتحصلّون على مصروفهم من أهلهم. وجزء منهم موظّف في أنواع الأعمال الجديدة المرتبطة بعالم الإنترنت، أو في مؤسسات مالية أو في الإدارات العامة، وكذلك في أعمال خاصة أقبلوا عليها قبل الأزمة الحالية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويسهر هؤلاء الشباب (شبان وشابات) في شارعين أساسين (بدارو ومار مخايل)، حيث توجد حانات ومطاعم تحاكي متطلباتهم في الديكور والموسيقى وأنواع المشروبات التي تُقدَّم.
لذا، يجد المراقب أن الساهرين قد انقسموا أيضاً، بين الراغبين في السهر من أجل السهر في شارعي بدارو ومار مخايل، حيث ازدحام الحفلات الموسيقية والشبان والشابات المندمجين بالسهرة، وأولئك الساهرين "الجديين" الذين يخالطون كتّاب وأدباء وشعراء وصحافيين من أجيال أخرى، وهم أنفسهم يعملون في مثل هذه المجالات وفي أنواع أخرى من الفنون، كالرسم والإخراج السينمائي والمسرح، في شارعي الجميزة والحمرا.
رقص اجتماعي آفل
منذ سنوات قليلة كان الأمر مختلفاً بوضوح. كان السهر في الحانات أو في المنازل مناسبة لعرض الأفكار الأدبية والثقافية من جهة، ومناسبة "للرقص الاجتماعي" على ما يصف الروائي ميلان كونديرا نمط حياة شباب ما بعد ثورة الإنترنت. كانت المباراة في حمأتها حول من يظهر أكثر براعة مثل "راقص اجتماعي"، وبين من يقدم فكرة لامعة وذكية، ومن يقرأ قصيدة باهرة فيها صور جديدة و"متحضرة"، وقد خرج من السهرات عدد كبير من الشعراء الشباب، الذين أطلق عليهم إسم "الشعراء الجدد". وبالتأكيد، كانت السهرة مناسبة للتخلي عن القلق، والتعبير عن الفرح الذي يتحقق بلا سبب محدد. الفرح من أن الآتي سيحمل مفاجآت سارة. ثم دخلت السياسة عالم السهر، فأفسدته ونخرته كما ينخر العث قماشاً.
في سهرات بيروت هذه الأيام تدور الأحاديث عن التوقعات السياسية، فيقوم كل شخص بالإدلاء بتوقعاته، ويروح المتحدّث في السهرة- التي كان الحري بها أن تكون مساحة للحرية والتخلّي- يستعرض أفكاره وقراءاته وقدرته على التحليل والوصول إلى جواب. ويعانده الجالس معه أو يوافقه مضيفاً على أفكاره أفكاراً. والجميع يبدون متعبين قلقين وغير مندمجين في ما بينهم أو مع محيطهم الليلي الساهر. وبدلاً من أن تكون الحانة مكاناً للتقارب تصير مكاناً للتشتت والنقاش وتبادل الآراء وبشكل حاد في كثير من الأحيان، بسبب اختلاف الآراء حول الحلول المفترضة للمعضلات اللبنانية الكثيرة والشائكة.
كان الحريّ بالسهر في بيروت أن يكون وهماً ولعبة، لا أن يكون جدياً ومعقوداً بالحال السياسية. لكن بيروت الآن آخذة بامتصاص الصور الجميلة التي كانت ترسم لها، تلك التي كانت تتعايش مع السياسة تعايشاً، لا تقتحم فيه إحداهما الآخر.
ذهبت الصور الملوّنة والمصنوعة من أجل حياة فرحة، وتركت الخلافات السياسة الرمادية والقاحلة لتعمّ في فضائها وتنتهكه. وهذا لن يكون بلا تأثير في الساهرين الذين يتنفسون في هذا الفضاء ويعيشون فيه.