الشاعر والناقد السوري حسين بن حمزة، المولود في الحسكة، والمرتحل من لبنان أوائل الألفين الى ألمانيا عام 2017، بعد أكثر من 10 سنوات إقامة، منذ عام 1995، حيث عمل في الصحافة الثقافية في الصحف اللبنانية، يصدر كتابه الشعري الثالث بعنوان "كمن يريد أن يمحو"، والصادر حديثاً (عن دار راية للنشر، بيروت). وكانت صدرت للشاعر مجموعتان شعريتان هما "رجل نائم في ثياب الأحد"، و"قصائد دون سن الرشد".
لا يضير الشاعر حسين بن حمزة، والناقد أن يقال عنه إنه من الشعراء العرب المقلّين الذين يصرفون نصف أعمارهم للتصويب وإعادة النظر بقصائدهم، بل بحولياتهم، على نحو ما عرف به زهير بن أبي سلمى أو علقمة في العصر الجاهلي، وأحمد شوقي وأبو القاسم الشابي وعلي محمود طه في العصر الحديث. حسبه أنه اجتهد وطوّر وغيّر وجرّب، وتملّى كثيراً بعمل مخيلته ولغته المتينة وذوقه المتطلب، والميال الى الإيحاء بالإيجاز، وأخرج من الشعر ما يستحق النظر فيه والبقاء.
الشعر والتجريب
في ظاهر المجموعة الشعرية ثلاثة أجزاء، الأول وهو غير معنون ومحوره ما وراء الشعر، أو "كمن يريد أن يمحو"، والثاني بعنوان "ألماني يتجول في قصائدي" والثالث بعنوان "طائر بعكازين". ولكن القصائد بمجملها كانت مصوغة بهاجس أعم، وهو الحساسية التي تسبق كتابة الشعر، وتلك (الحساسية) التي تعقب تكوين الشعر، إضافة الى هواجس متفرعة عنها، مرتبطة حيناً بتجربة الهجرة، ومتصلة حيناً آخر بمشاعر الوحدة والانقلاع من الجذور. ولئن كانت الهواجس الأخيرة مألوفة في الشعر العربي المعاصر، فإن هاجس شاغل تأليف القصيدة والتفكر في ما وراء الشعر يدخلان في باب التجريب، ما دام أن الشعراء، بصورة عامة، يتجنبون الخوض في مسألة تكوين الشعر، والغوص في أي العناصر أو العوامل الخارجية أو الداخلية (اللغوية والبلاغية والفنية) تكون حاسمة في هذا التكوين وأن هذا الكلام يكون شعراً.
"رغمَ كسلي الطويل/ وتلذذي بخلوّ رأسي من أي فكرة/ وجدتُ وقتاً/ لكتابةِ قصيدة صغيرة/ يهطُلُ فيها مطرٌ خفيفٌ لا يسبقُهُ رعدٌ/ ويمحو كلماتِها" .
في القصيدة الأولى يعالج الشاعر حسين بن حمزة، وتحت عنوان لافت "طقس"، مسألة جمهور القراء الخاصين، إذ لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة ("أحبّ أن أقرأ قصائدي لشخصيْن أو ثلاثة لا أكثر" (ص:9)، ويلتقطون من القصيدة (الغائبة غالباً) استعارات مدفونة فيها، وكأن لحظة التلفظ بالقصيدة إن هي إلا احتفال، بل "طقس" تُتلى فيها كلماتٌ تخدر السامعين، ويُطربون لها. ولعل مجرد إلقاء الشعر، وتلقيه يشكّلان "تعويذة صامتة/ تكفي لكيْ أميلَ أنا أيضاً إليهم/ وأغرق/ مغمضَ العينين/ في بحيرة نومهم".
ألعاب وقصائد
وفي قصيدة أخرى يحكي الشاعر كيف أنه كتب قصائد كثيرة، "على قفا فواتير، وإيصالات البنك، وعلى أطراف طاولات، وهوامش جرائد، وغيرها، ولكنه أضاعها جميعاً. على أن القصيدة التالية بعنوان "أكتبُ كمن يريد أن يمحو" تترجم عن سعي الشاعر إلى صرف اهتمام القراء عما يتوقعونه (نص شعري حقيقي) بأحد ألعاب تجريب الكتابة الشعرية، فالشاعر إذ يحكي كيف أنه، لدى كتابته القصيدة، يحمل على حذف الأسطر ومحو الكلمات وتنحيف القصيدة، حتى تصير "جملة هزيلة وخافتة"، وتظل القصيدة "مجرد فكرة ميتة في رأسي". وعلى هذا النحو، يتسع فضاء الإيحاء أمام القراء ويجهدون في ملئه بتصورات عن الشعر المفتقد والمنتظر عبثاً.
وكذلك فإن لعباً آخر يضاف إلى سابقه، وهو تخيّل ما يمكن أن تكون عليه قصيدة لا تقوم على الحذف، ولا تكون قصيرة، وتنطوي على كل المواصفات التي تجعلها "تغرق معي في البكاء"، يفلح في مضاعفة انتظار الشعر، في ما يمكن تسميته إيقاظ حساسية للشعر بخاصة عنوانها الخفوت، تسبق تكوينه، أو ما يدعى ما قبل الشعر. وإن لم يسعفه اللعب الآنف، يبتدع لعباً آخر، وهو التداعي انطلاقاً من صورة شعرية وحيدة هي "زرقة البحر"، وتشكيل عبارات وجمل شعرية متفرعة ومتوالدة، على هذا النحو، يليها لعب أيضاً تحت خانة "نصائح"، يتسنى له بموجبها أن يكتب قصيدة مرتكزة في بنيانها على أفعال أمر ونهي، نظير ما يقترحه الشاعر السريالي تريستان تزارا لتأليف قصيدة يحاكي فيها تقنية الكولاج في الرسم المعاصر.
"أكتبْ عن الحبّ أيها الشاعر/ ولكنْ الجمْ عاطفتك/ تجنّبْ تلك الكلمات التي تخدعُ الشعر بريشِ البلاغة فيُحلّق/ ولا تُثقلْه بالصوَر المحلاة/ فيعلقَ في دبقِها الكثيف/ دعِ الحب يمشي على الأرض/ ويجرحُ قدميْهِ الرقيقتيْن/ بأحجارِ النثر!".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في ما يجربه الشاعر حسين بن حمزة، وما يوحي به، إنما يكون شاغله الأساس الشعر الحقيقي، والبحث عن مكمنه الحقيقي الذي تلفت الألعاب، المذكورة أعلاه، إلى نقيضه، أو إلى فروعه، فتترك للقارئ فرصة التمعن في أبعاده، والتقاط ما يراه الشاعر، أو الناظم، جديراً بالقيمة وتجعله بذلك شريكاً في عملية تشكيل القصيدة وتكوينها. وإلى جانب الألعاب ثمة قصائد في الحب يجعل الشاعر فيها الحبيبة محوراً لحياة النساء قاطبة ولحياته وحركته، يجيز لنفسه الغزل بفمها وبقميصها وبقامتها النحيلة ونزعة انفرادها بالمحبوب وبمعطفها وبكل ما يشي بها من بعيد أو قريب. ههنا يبدو الشاعر العاشق متوارياً خلف ذات المحبوبة، منسحقاً، ومتناهيَ الصغر لتعظم هي، وتحضر بقوة الشعر."أنا زرٌّ صغيرٌ في أعلى المعطف/ قريباً من قلبكِ/ حيثُ يدخلُ دوماً/ رجالٌ وحيدونَ وحزانى/ يحطّمونَ كل شيء/ قبلَ أن يغادروا".
ومن ثم، ينتقل الشاعر إلى أجوائه الغنائية والوجدانية، لا سيما في الجزءين الأخيرين من المجموعة الشعرية، وفيهما، يبسط مآلات تجربة الغربة التي يحياها منذ أعوام عدة في الغرب (ألمانيا)، وما أحدثته من صدوع في نفسه، جعل متنفسها في قصائد مشغولة بفرادة المتناول وزاوية النظر اللتين تقدران، برأيه، على حمل مضامين التجربة وتحفظان للشعر جدّته ورصانته."وها نحنُ/ أنا وقصائدي/ نستضيفُ شخصاً غريباً/ ونسمحُ لهُ أنْ ينتهكَ وحدتَنا الثمينة/ ولكن لحسن الحظ/ كان هو مثلنا/ أنا والقصيدة/ وحيداً/ وما إن وجدَ لنفسه ملجأً في القصيدة/ حتى سحبَ كرسياً.../ وجلس!".
ويعرج الشاعر، في قصيدتين طويلتين نسبياً (لاجئون 1 ولاجئون 2) على مأساة اللجوء التي يجد نفسه، إلى جوار إخوان له من جنسيات مقهورة، مسوقين إليها فراراً إلى مصير خيرهُ أشد إيلاماً من شر البقاء تحت سطوة المحتل والطاغي. يترجم تلك المرارة شعور بالندم على مغادرة البلاد، يعكسه تكرار أداة "ليت" 13 مرة في القصيدة: "ليتنا بقينا لاجئين داخلَ أحلامنا القديمة.../ ليتنا بقينا مكدّسينَ كأسماك السردين/ في المعسكرات وآلات الرياضة ومدارس الصيف الفارغة/ ليتَ الصحف ونشرات الأخبار/ لم تنشرْ صوَرنا التي لن ينتبهَ لها أحد أنها لا تضمّ منْ غرقوا منّا..." .
مناخات معِينة
ولكن الملاحظ أن الشاعر حسين بن حمزة لا ينساق وراء اليسر في مقاربة الموتيف، أو الموضوع، ولا ينسى توفير مناخات مناسبة للقصيدة، أو يجد لها أطراً زمنية، أو مشهدية تمنح الصور الشعرية المبثوثة أبعاداً ودلالات كثيرة. "إنها تمطرُ هنا/ بدون فلاشات البرق/ بدون أن يدحرج الرعدُ صخوره في السماء/ إنها تمطرُ برتابة وصمت/ كأن ذلك يحدثُ في لوحة...".
وفي ختام المجموعة يعود الشاعر لمأثوره في المقطعات الشعرية الصغيرة التي تقرب من قصائد الهايكو، وأوسع منها قليلاً، حيث يتيح للقارئ مجالاً أوسع للتأمل في الصور الشعرية أو المشاهد التي تتكفل فتح أفق شعوري خليق بالبقاء. "سيكونُ عارُنا مثلَ ورودٍ مطرزة على قماش/ لنْ تكبر/ ولنْ تصغُرَ/ ولكنها لنْ تذبُلَ أبداً...".