Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الحجارة الكريمة أسرار بلوراتها تفوق سحرها

تركيبتها الذرية الفريدة جعلتها أشد المواد خروجاً عن المألوف

كلما رأيت أشعة ليزر، تذكر أنها وُجِدَتْ بفضل الحجارة الكريمة (تيك نت. كوم)

في مطلع السبعينيات من القرن الماضي، على الشاشات البيضاء التي كانت تحتكر سحر الأشرطة السينمائية، شدت المغنية الأميركية شيرلي باسي بأغنية "الألماس إلى الأبد" Diamonds Are Forever التي رافقت مقدمة فيلم للعميل السري الشهير جيمس بوند [آنذاك، بطولة شون كونوري] حمل العنوان نفسه. ويقصد ذلك العنوان أن سحر الألماس وجاذبيته وفتنته للعيون والأدمغة، تبقى أبد الدهر.

ومن خواتم الألماس إلى عقود العقيق، مروراً بأقراط الأذن المزينة بفصوص الـ"سافير"، أُسِرت عقول الناس دوماً بالحجارة الكريمة. ربما يرجع ذلك إلى ألوانها الغنية أو حوافيها الحادة أو أَلَقِها المتلألئ عند مرور أشعة الضوء فيها. أيًّا كان أمرها، تُعتبر البلوّرات الطبيعية [للحجارة  الكريمة] من المواد غير العادية التي تحتويها الأرض، إذ تجد الطبيعة طُرُقاً متنوعة في رصف ذرات الحجارة الكريمة في أنماط يكاد انتظامها يقارب الكمال، وينجم عن ذلك بلورات صافية وناعمة نحب أن نطيل النظر إليها. والمفارقة أن السبب الذي يعطيها جمالها الساحر (المتمثل في الانتظام الكامل لتركيبتها الذرية)، هو نفسه ما يجعلها فائقة الأهمية في الصناعة والتكنولوجيا، إذ يسيطر النظام الكامل على التركيبة الذرية والجزيئية الداخلية للبلورات، ويشكّل ذلك منبعاً للمزايا البصرية والإلكترونية الخارقة التي جعلت البلورات أحد أهم معطيات التكنولوجيا المعاصرة.

في 1960، ابتكر ثيودور مايمان أول أشعة ليزر، واتخذت آنذاك شكل ياقوتة. ينتمي الياقوت إلى حجارة الـ"سافير" التي تكون شفافة في هيئتها التامة النقاء، إذ تتألّف من بلورة مفردة من أوكسيد الألمونيوم. وتتفاوت تراكيب حجارة الـ"سافير" اعتماداً على نسبة ما يخالط تركيبتها من تلوّث بمعدن الكروم، إذ يمتص ذلك المعدن الملوِّث موجات اللونين الأزرق والأخضر، ما يعطي الياقوت لونه المُشَرَّب بالحُمرَة.

استفاد مايمان من تلك الخاصية وعمل على مضاعفتها لصنع حزمة ضوء أحمر مُتَحكَّم فيها تماماً. واستند ذلك إلى تقنية تعمل على ضرب الياقوت بضوء أزرق، ما يؤدي إلى تحريك ذرات الكروم التي تمتص موجات ضوئه وطاقته، فتنتقل تلك الذرّات إلى مستوى آخر في الطاقة، يكون أشد ارتفاعاً وتوتراً. وكي تعود إلى مستواها الأصلي، تعمل تلك الذرات على التخلص من الطاقة الفائضة التي باتت تختزنها، فتطلقها على هيئة موجة من اللون الأحمر.

واستطراداً، لا يمثّل الأحمر النابع من ذرات الكروم في الياقوت كل اللون الأحمر في أشعة الليزر التي أطلقتها تلك البلورة، إذ إنّ الإلكترونات المستثارة في الكروم [تحت تأثير الضوء الأزرق] تعطي ضوءها الأحمر الخاص، لكنها أيضاً "تلتقط" بعض موجات اللون الأحمر العابرة قربها، ما يؤدي إلى إدخال تلك الإلكترونات في حركة اهتزاز [لنقُل رقصة اهتزازات] معينة تترافق مع إطلاقها لوناً أحمر من نوع خاص، يتألف من مزيج الأحمر العابر وذلك الصادر من إلكترونات ذرّات الكروم بحد ذاتها.

وبذا، يتحد "الأحمران" في موجة واحدة متناغمة. ثم تعمل تلك الموجة الحمراء "الموحدة" على استثارة ذرات أخرى مجاورة في الكروم، كي تطلق [الذرات الأخرى] موجة حمراء خاصة بها وتلتقط موجات حمراء عابرة بقربها، لكنها تكون أكثر تضخماً. وهكذا، تنعقد حلقة متواصلة قوامها سلسلة من الاستثارة والالتقاط والتضخيم، ما يوّلد... أشعة الليزر. وفي تلك السلسلة التي لا تكفّ عن التصاعد، تطلق الذرات المستثارة موجات حمراء خاصة بها، وتلتقط دوماً موجات حمراء عابرة قربها، ثم تعود لتثير ذرات أخرى، مع تضخيم مستمر في كميّات الطاقة التي ترافق تلك الموجات. [لنلاحظ أن الضوء مزيج من موجات الألوان وكميات من الطاقة تُقاس بوحدة تسمّى "فوتون" Photon].

درع من الياقوت

 

في السياق ذاته، يجدر القول إنه من المستطاع تكرار السيناريو الآنف الذكر من سلسلة موجات اللون والطاقة المتضخّمة [ليزر] باستمرار، بواسطة استعمال مواد أخرى. ويعني ذلك أن أمرها لا يقتصر على الياقوت حصراً. واستطراداً، يُطلِق كل نوع من المواد موجات ليزر خاصة به، يكون لها لون وطاقة مختلفة عمّا يصدر من مواد أخرى.

وعملياً، لم يعد الياقوت شائع الاستخدام في توليد الليزر حاضراً. وإذا كان بعضكم يملك قلماً يصدر أشعة حمراء، ربما يستخدمه مؤشّراً مثلاً، فالأرجح أن ذلك الضوء متأتٍ من البطاريات الكهربائية الثنائية القطبية، وليس من الياقوت! ومن الشائع استخدام الكهرباء الثنائية القطبية في الحواسيب، وقد تمرّس العلماء في إنتاجها بكميات كبيرة، بل ينتج الملايين منها معاً وبتكلفة زهيدة، ويُفسّر ذلك سبب رخص أثمان أقلام الليزر الشائعة، وأنها أقل بما لا يقاس من ثمن عقد ياقوت!

قد لا يخطر في بالك أن أشعة الليزر "القاتلة" تشكّل نظاماً فائق الحساسية وقابل للاضطراب بسهولة، لكن الواقع يفيد بأنها شديدة التطلّب. وعلى غرار المُكوّنات الضوئية كلها، يستوجب عملها أن تكون تركيبة منظومتها فائقة الانتظام. وإذا حدث أدنى اضطراب، يؤدي ذلك إلى تداخل الموجات وبعثرتها وتبدّدها. وتُضاف إلى ذلك، ضرورة العمل باستمرار على تعزيز قوّة النظام الذي يُطلق موجات الليزر عبر إضافة مستمرة لكميات مضبوطة تماماً من الطاقة. وإذا زادت الكميّات المُضافة من الطاقة أو نقصت ولو قليلاً، فسيؤول ذلك إلى خلخلة نظام الليزر بأكمله. واستطراداً، غالباً ما يُسَوّر نظام إطلاق الليزر بدروع لحمايتها من الأشعة التي قد "تدخل" على تلك الموجات وتخلخلها.

في ذلك المنعطف، تبرز أهمية حجر كريم آخر، هو... العقيق، إذ يعمل ذلك الحجر بطريقة تشبه عمل الواقي المُعتِمْ الذي نُلصقه على زجاج السيارة للحد من دخول أشعة الشمس، فيوضع العقيق في نظام الليزر كي يعمل على الحد من اقتحام أشعة إضافية غير مرغوبة إليه. وفي الوقت ذاته، فإنه لا يعيق انطلاق موجات الليزر. بقول آخر، يحمي العقيق التوازن الدقيق والهش الذي يتطلّبه نظام إطلاق موجات الليزر. ومثلما يحميك الواقي المعتم من أشعة الشمس لكنه يسمح لك بالرؤية عبره، كذلك يمنع العقيق دخول موجات أشعة غير مرغوب فيها [كي لا تُخلّ بعمل نظام الليزر]، لكنه يسمح بانطلاق موجاته. إذاً، أليس عادلاً مكافأة ذلك الحجر الحارس للتوازن، عبر ارتداء عقد عقيق؟

الألماس من أسرار الكمبيوتر

 

غني عن القول إنّ الألماس يشكّل المعيار في خواتم الزواج. ولعلك سمعت أن الألماس من المواد الأشد قسوة في الكرة الأرضية، لذا يستعمله العلماء مقياساً لمدى صلابة المواد. في المقابل، الأرجح أنك لم تسمع حديثاً عن قدرة الألماس على نقل الحرارة، إذ إنها تفوق قدرة النحاس بحوالى خمسة أضعاف، ما يجعل الألماس متفوّقاً على مواد كثيرة أخرى في ذلك المضمار. ويملك ذلك الأمر دلالة كبرى في الإلكترونيات التي تتعامل مُكوّناتها مع كميّات كبيرة من الطاقة، فتغدو فائقة السخونة. وبهدف تجنّب ذوبانها أو احتراقها، تتطلّب المكوّنات الإلكترونية الحساسة في الكمبيوترات وجود مواد تستطيع نقل الحرارة إلى أمكنة بعيدة نسبيّاً منها، وبسرعة كبيرة.

وفي ذلك السياق، يصح القول إنّ الألماس يشكّل حلاً مكلفاً لتلك المشكلة الحرارية، لكن يصلح تماماً أن يُستخدم في بحوث صناعة الإلكترونيات التي تستلزم استعمال أفضل المواد المتوفرة في الاختبارات الرامية إلى صنع أفضل الأدوات الإلكترونية.

وفي الصورة الواسعة، يتألّف الألماس من شبكة كثيفة من ذرّات الكربون [مع الإشارة إلى أن الكربون يُعتبر المادة الأشد انتظاماً واستقراراً في تركيبته الذريّة]، تكون متلاحمة مع بعضها عبر روابط صلبة تكاد لا تنفصم عراها عن بعضها بعضاً، ما يجعلها فائقة المقاومة لإدخال تغيّرات على هيئتها وشكلها.

بعبارة أخرى، يمثّل الألماس مادة فائقة الصلابة، تتمكن قوتها من "تفريق" المنظومات الذريّة للمواد الأخرى، من دون أن تتعرض [مادة الألماس] للالتواء أو التكسر. وكذلك، تسهم قوة الروابط  الذريّة بين ذرات الكربون في إعطاء الألماس صلابة قياسية، بمعنى أن ذرّات تتماسك معاً إلى حد أنها تفضّل الارتصاف والتحرك كمجموعة متراصة، ولا تتفرّق فرادى.

المفارقة أن السبب الذي يعطيها جمالها الساحر (المتمثل في الانتظام الكامل لتركيبتها الذرية)، هو نفسه ما يجعلها فائقة الأهمية في الصناعة والتكنولوجيا

واستطراداً، تظهر تلك الخاصية ذاتها في مسألة نقل الحرارة. من الناحية العلمية، تصدر الحرارة عندما تهتز الذرّات بشكل قوي. وفي حالة الألماس، وبأثر من خاصية التحرّك الجماعي للذرات مع بعضها بعضاً، كأنها دبابة صلبة، يؤدي إدخال أي اهتزاز إلى تحرك منظومة ذرّات دفعة واحدة.

ويطلق العلماء تسمية "فونون" Phonon [ولنميّزه فوراً عن "فوتون" الضوء الذي ورد أعلاه]، على حركة الاهتزاز المتواصل لشبكة متراصة من الذرّات. لذا، يستطيع الـ"فونون" نقل الحرارة عبر مسافات كبيرة [بالمقاييس الذريّة] في الألماس الصافي. وكذلك لا تتبدد الاهتزازات الحرارية ولا تضيع ولا تتناثر إلى وحدات صغيرة متفرقة. بعبارة أخرى، تنتقل الحرارة عبر حركة الـ"فونون" بسرعة لأنها تحرّك شبكة ذرات متراصة إثر شبكة ذرّات متراصة أخرى. وفي تلك الحركة الاهتزازية، لا تضيع طاقة الحرارة لأن الشبكة التي يحرّكها الـ"فونون" تتكوّن من ذرات كربون [خفيف نسبياً] مترابطة مع بعضها بعضاً بروابط فائقة القوّة. ويعطي ذلك الأمر الألماس خاصيته المتميّزة في الصلابة ونقل الحرارة.

واستطراداً، تملك تلك الطريقة في نقل الحرارة أهمية كبرى بالنسبة إلى الرقاقات الإلكترونية في الكمبيوتر التي تكون مكوّناتها مضغوطة في مساحات ضيقة، وبالتالي فإنها تسخن بسرعة. لذا، يعمد العلماء إلى وضع ألماس اصطناعي تحت تلك المُكوّنات، كي تعمل على نقل السخونة بسرعة بعيداً من تلك المُكوّنات الحساسة، ما يحافظ على قدرتها واستمراريتها في العمل. وإذا حدث لك مشاهدة كمبيوتر خارق ("سوبر كمبيوتر")، تذكّر أن تتقصى الألماس الثمين الذي يبرّده!

 وكخلاصة، لطالما أدرك الناس أن الحجارة الكريمة تمثّل هدايا خاصة تقدمها الطبيعة، إذ تنأى خواص تلك المواد بنفسها بعيداً من خصائص المواد الأخرى كلها، في النقاء والتفاعل مع الضوء، ما أثار إعجاب البشر كلهم بصفائها وندرتها.

في الوقت ذاته، وتحديداً بسبب انتظام تركيبتها المتكامل، تُعتبر الحجارة الكريمة من الأدوات الأساسية في البحوث الفيزيائية، وكذلك الحال بالنسبة إلى البحوث المتصلة بهندسة الإلكترونيات.

إذاً، عندما تنجذب عيناك إلى حجارة كريمة متلألئة، حدّق بها عن قرب. فلعلّها تخاطب أيضاً الجانب العلمي في شخصيتك، بقدر ما تستثير حبّك للجمال!

اقرأ المزيد

المزيد من آراء