Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"بلاد الثلاثاء"... قصائد الفاجعة السورية بعين فلسطينية

خالد سليمان الناصري بين شحصية الأنا وضمير الجماعة

الشاعر الفلسطيني خالد سليمان الناصري (تكوين)

يسعى الشاعر الفلسطيني خالد سليمان الناصري في مجموعته الشعرية الثانية "بلاد الثلاثاء"، دار المدى (2020)، إلى تركيز بؤرة مادته الشعرية حول حدث شخصي، أي ولادة أنا المتكلم في يوم محدد من الأسبوع، هو نفسه يوم اندلاع الحروب التي تأكل أعمار من يعيشون في هذه المنطقة من العالم. وهو بهذا المعنى يزجُّ بقصيدته في منحى غنائي، على الرغم من أن المجموعة الشعرية تبدو، في جلِّ قصائدها، أقرب إلى التراجيدي والفاجع والتصويري والوثائقي الذي يشكِّل من حدث الحرب السورية المستمرة تأويلاً للفاجعة الشخصية (الفلسطينية) وتلك التي يعيشها السوريون منذ اندلاع الانتفاضة السورية، وتحولِها إلى حروب بالوكالة ليس للسوريين ناقة أو جملٌ فيها!

يفتتح خالد الناصري مجموعته بسطور يستخدم فيها ضمير الجماعة للحديث عن الذات والآخرين، وفيما يبدو أنه اعتصارٌ لقصائد المجموعة، وإلماعةٌ، في الوقت نفسه، إلى ما سيأتي من فواجع ونوازل توثقها القصائد وتعيد توليفها للتعبير عن التراجيديا السورية.

"نحنُ الذينَ جِئْنا من بلادٍ، تحدثُ الحُرُوبُ فيها كلّ ثلاثاء. تفوحُ من شَعْرِنا رائحةُ البارودِ، وإذا طَقْطَقْنَا أصَابعَنا نَسمعُ صَوتَ رصاصٍ. في آذانِنا تُبقْبِقُ فُقاعاتُ غَرْقَانا، وفي عُيُونِنا دائماً دهشةُ فجرٍ. مُصابون بالرّبوِ، وإذا أَرَدْنا المشيَ، نتعثَّرُ حتَّى بخُطُوطِ المُشاة. يكفي أن يمضيَ علينا يومان دون أن نستحِمَّ، لتخرجَ منَّا رائحةُ الجُثثِ." (ص: 9)

هذه الرؤية الجبريَّة للتاريخ، وأحداثه، هي نتاج التجربة الشخصية والجماعية، والشعور بانسداد الأفق، واستمرارية السقوط الفردي والجماعي في دائرة حرب جهنميَّة لا تتوقف. فلا بارقة أمل في هذا الواقع، أو في هذا الشعر. ولذلك يلجأ الشاعر إلى الاقتباس من أبي العلاء المعري، الغارق في اليأس والفجيعة والخذلان، مثله مثل الشاعر وأبناء زمنه. يدعو فيلسوف المعرَّة في "مقدمة رسالة الملائكة" إلى النسيان، والتخلِّي، والمحو، فلا جدوى لأي شيء في مواجهة صمت العالم، وعبثية القيام بأي فعل.

"وحقَّ لمِثْلي أن يُسألَ، فإن سُئلَ، تعيَّنَ عليه ألا يُجيبَ، فإن أجابَ، ففَرضٌ على السامع ألا يَسمعَ منه، فإن خالفَ باستماعِهِ، ففريضةٌ ألا يكتبَ ما يقولُ، فإن كَتَبَهُ، فواجبٌ ألا ينظرَ فيه، فإنْ نظرَ، فقد خبطَ في عشواء". (ص: 13)

 

انطلاقاً من هذه المقدمة المتأخرة، أو الخلفيَّة التي يضعها الناصري لمجموعته، أو الاقتباس الذي يضيء عمله الشعري، يكتفي الشاعر بتوثيق الفاجعة، وتقديم إلماعات تشير إليها، أو تقديم تلخيص لعدد من الوقائع الدالَّة الكبرى على  الحرب السورية، والتي تمثِّل رعب هذه الحرب وقسوتها التي يعجز الشعر، أو أية وسيلة تعبيرية أخرى، عن تصويرها؛ بل إن الشعر يبدو مستحيلاً إزاء هذه الجريمة (جثة حمزة الخطيب المقطَّعة والمُمَثَّل بها (حيث تُضرَب الذاكرة المتورِّمة المثقوبة بالهراوات والرصاص، ص 39)، وحنجرة إبراهيم القاشوش المجزوزة، حيث الذاكرة تُغنِّي ولكنَّها إذا ما غنَّتْ، اِقْتُلِعَتْ حنْجَرَتُها، ورُمِيَتْ في النهر، (ص: 44)، وضحايا غاز السارين في مجزرة خان شيخون الذين يشهقون التماساً لبعض هواء، حيث يطلب القتيل من القاتل أن يعطيه رشاشه ليتعكَّز عليه في طريقه إلى البيت، ص: 79). ففي مواجهة الجريمة، والشعور بالعجز، وإشاحة العالم بصره عما يحدث، ينكص الشعر على عقبيه ليسأل فيلسوف المعرَّة عن رأيه الذي ينطوي على النسيان والمحو، وترك هذا العالم المنهار المتهاوي يتدثَّر بالصمت والفاجعة. ربما يكون بديل الصمت هو كتابة قصيدة سوداء تشير إلى الحرب عبر بناء صورة استعارية للحرب، تحضر فيها علامات الحرب، ولكن لا تحضر فيها الجريمة بكامل وحشيتها، كما رأينا في تصوير فواجع قتل حمزة الخطيب وإبراهيم القاشوش وضحايا غاز السارين والبراميل المتفجرة. فلكي نحتمل الحرب، في الشعر، وفي الحياة أيضاً، علينا أن نبني لها رمزيَّةً تخفف من قسوتها، وعنفها. إنه إذاً نوع آخر من الصمت والنسيان والمحو الذي يدعو إليه أبو العلاء المعري.

"كُرةُ ثلجٍ تتدحرجُ ببطءٍ/ من أعلى الجبلِ إلى الحضيضِ/ وببطءٍ تأخذُنا معها على الثلجِ الأبيضِ/ عصفورٌ/ ينزِف على الثلجِ الأبيضِ/ كلبٌ أسودُ يقتفي رائحةَ الدمِ/ على الثلجِ الأبيضِ/ تجمَّدتْ مشتعلةً/ سيجارةُ المُتشرِّدِ/ أمَّا أنا/ فعلى الثلجِ الأبيضِ/ كتبتُ قصيدةً سوداء". (ص: 32- 33)

هذا التعبير الموارب عن الحرب يقابله تصريحٌ في عنوان قصيدة "المحو" التي تخفّف من فاجعة الحرب عبر بناء صورة موازية أيضاً، تشير إلى ويلاتها، ولكنها تركز بؤرتها التعبيرية على عمل العنكبوت وهي تقتنص أسراب الذباب التي تهاجم جثث القتلى. ثمَّة في هذه الصورة التعبيرية، وفي هذا البناء المجازي، كوميديا سوداء تكشف عن عمق الفاجعة، وجحيم المجزرة.

"على خيطِ الدمِ النازفِ/ من جثَّةٍ ملقاةٍ على طرفِ النهرِ/ بَنَتِ العنكبوتُ بيتَها واصطادتِ الذبابَ/ واصطادتِ الطنينَ/ تخيَّلوا لولا العنكبوتُ/ أيُّ طنينٍ هائلٍ سنسمعُ ذلكَ اليومَ/ حين استيقظَ نهرُ قويق/ فوجدَ على ضفَّتَيْهِ مائةَ قتيلٍ/ طُوبَى للعنكبوتِ/ لأرجلِهَا وجواربِها وأحذيتِها/ لعيونِها ونظَّاراتِها الشَّمسيَّةِ". (ص: 81)

إن الشاعر، على الرغم من محاولته الوفاء لوصية المعري، لكون ثقل الذاكرة المُروَّعة يجعل الشعر مستحيلاً، على صعيد الواقعة، وكذلك على صعيد النوع الأدبي (لأن الشاعر مضطرٌ إلى اللجوء إلى التوثيق، والخبر، ولغة الصورة الفوتوغرافية)، يفشل في النهاية بسبب ضخامة الفاجعة، والرغبة في الصراخ للتعبير عن الألم والقهر والعجز المستديم في إيقاف المجزرة. وتلك، كما أعتقد، هي مشكلة الفنون جميعها في تصوير الحروب والتعبير عن تجربتها، خصوصاً إذا كان الشاعر، أو الروائي، أو المسرحي، أو السينمائي، أو الرسام، قريبين من ويلات الحرب، يشاهدونها كل يوم بأم أعينهم أو على الشاشات التي لا تكفُّ عن قذف ما في جوفها من صور رهيبة لمشهد الحرب الدامية.

ويمكن أن أضيف إلى ذلك أن الحرب السورية، التي ما زالت مستمرة تطحن برحاها الحجر والبشر، قد ولَّدت شكلاً آخر من الكتابة الشعرية في قصيدة النثر العربية، شكلاً يستعين بالرؤى الجهنمية، والنثر التجديفي والترجُّح بين التضرُّع إلى الله واتهامه بالتخلي عن العالم، في هذه المقتلة السورية الممتدة على مدار عشر سنوات. ويمكن النظر إلى كتابات الشاعر الأردني الراحل أمجد ناصر (1955- 2019) الأخيرة، وكتابات الشاعر السوري نوري الجراح، خلال السنوات الأخيرة أيضاً، كمثال واضح على ذلك، حيث تستعين هذه الكتابات بميراث إنساني عريق من التعبير عن اليأس والخذلان، وإدارة البشر والله، الظهر لشعوب تذبح وتباد وتهجَّر. ثمَّة إشارات إلى "الكوميديا الإلهية" لدانتي و"رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري، لتوفير بعد إنساني ممتد Universal لهذا التمثيل الشعري للجريمة. في هذا السياق أيضاً من التعبير عن المأساة الكبرى للشعب السوري، يقع ديوان "بلاد الثلاثاء"، الذي يعبر عن عالم ينهار ويتمزق، أجساداً وأرواحاً، بلاداً وبشراً، تاريخاً وجغرافيا. إنه تعبيرٌ عن الفاجعة وهي تتمرأى أمام عيوننا على الشاشات التي تنقل مشهد القتل والذبح واقتلاع الحناجر وقطع الأصابع والأيدي وبتر الأعضاء، وقصف البشر بالبراميل المتفجرة، وغاز السارين.

المزيد من ثقافة