كأن الزمن توقف داخل مقهى الأندلس الطرابلسي في عام 1957 تاريخ تأسيسها، وكثيرةٌ الشواهد على ذلك، الكراسي ذات الجلد البني، الواجهات الخشبية، الجرائد الورقية، ووقار الشعر الأبيض.
مقهى "الأندلس" ليس الوحيد في عاصمة شمال لبنان الذي ينتمي إلى فئة المقاهي النخبوية، وإنما هو نموذج عن تلك الأماكن التي أصبحت لصيقةً بحياة الرواد الذين اعتادتهم الزوايا والأركان. ويتربع هذا المقهى على زاوية مثلثة، تضمه إلى جانب مثيلاته "البينكي" و"النيجرسكو"، التي ساهم موقعها على دمج شرائح اجتماعية مختلفة. ولعبت تلك المقاهي لفترة طويلة دوراً في الدعوة إلى إلغاء النظام الطائفي، وتنظيم التظاهرات من المثقفين الملتزمين بقضايا المجتمع.
مقاهي الآباء والأبناء
يدير "الأندلس" حالياً خليل الذي يعتبر أن هذا المقهى "درّب وخرّج كثيراً من الأجيال". استلم خليل عن والده إدارة أحد أكثر مقاهي طرابلس عراقة، فهو الشاهد على تاريخها في مرحلة ما بعد الاستقلال. كما شجع هذا المقهى المواهب الطرابلسية في مجال لعب الشطرنج، وحلقات الدراسة لطلاب الجامعات.
تحتضن مقاهي النخبة شريحة كبيرة من المثقفين، أساتذة الجامعات والمتقاعدين والموظفين الذين يقصدونها، ويدربون أبناءهم على زيارتها بصورة يومية، فهي واحة للتنشئة والتفكير المشترك على صوت مرتفع. إلى جانب ذلك، تزدهر بعض الألعاب التي نفتقدها كـ "الشبكة" و"الكلمات المتقاطعة".
يفتخر أصحاب المقهى بأنهم يؤمّنون جواً من السكينة لزبائنهم، فأقل زبون من زبائنهم يقصد المكان بصورة يومية منذ 40 سنة على الأقل. ولن يفرط بثقة زبائنه لذلك سيستمر بالصمود معهم بوجه الثقافة الاستهلاكية، فهذه المقاهي لا تعتمد على "النرجيلة أو المعسل والإنترنت"، وإنما على "جَمعة الأصحاب".
تحتضن هذه المقاهي أناساً يختلفون فكرياً، فبعضها غلب عليه تاريخياً طابع معين، فمثلاً يسود في "الأندلس" فكر قومي عربي، فيما يغلب الفكر الماركسي على "البينكي"، ويحتضن "النيجرسكو" التجار والمصرفيين والمهن الحرة.
أما الآن، فقد أصبحت تلك الأماكن أكثر اختلاطاً، وبدأت الحدود الفكرية بالذوبان. ويبرز ذلك من خلال عناوين وانتماءات الجرائد التي يقرأها المرتاد. ويغلب منهج الحوار والتنوّع بين الأصحاب الحاضرين وعائلة المقهى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تشهد هذه المقاهي أوقات ذروة، عند الصباح الباكر عندما يتجه الموظفون إلى أعمالهم، وكذلك في ساعات العصر والمساء بعد الخامسة، فتزدحم بالحضور والأصوات والأفكار.
"لا يوجد في هذه المقاهي دم جديد، وإنما تكرار لماضٍ مجيد"، لذلك أدى الاعتياد على زيارة المقهى إلى تكرار الوجوه في الداخل بصورة يومية. ويتندر الحاضرون أن غياب أحدهم يشكل دافعاً للاطمئنان عليه.
وشكلت هذه المقاهي لفترة طويلة، مكاناً تنعزل فيه النخب المثقفة عن الواقع المرير، وهو أمرٌ لا ينفيه روادها. لذلك فإن وجود هذه المقاهي بطابعها القديم، يبعث الحياة وبصورة مستمرة، في الاتهام المتكرر للمثقفين بأنهم يعيشون عزلة عن واقعهم ومحيطهم.
مقاهي الفكر المشترك
تسيطر الهموم الآنية الاقتصادية والسياسية على أحاديث النخبة الحاضرة، فلبنان يعيش خطراً وجودياً كبيراً، وقدرة المواطن على الصمود إلى تراجع كبير. لذلك يتحفظ طلعت الأخرس على تسمية هذه المقاهي بـ "مقهى المثقفين على غرار تجربة كبار الفلاسفة في الغرب"، وإنما نحن أمام مقاهي فكر سياسي تحضر فيها عناصر مثقفة، يشكل بعضهم حلقات شبه ثابتة تشهد على تغييرات فكرية.
يلاحظ الأخرس الذي يقصد المقهى منذ عقود، أن أبناء الأطراف الذين يأتون إلى "الأندلس" في تراجع مستمر، بعدما كانوا يشكلون عنصر غنىً للمقاهي وللنقاشات.
أما المصرفي السابق مروان مرعي، فيتحدث عن "هموم المتقاعدين الذين يشكلون الغالبية"، فهم يعيشون حالة قلق على مستقبل البلاد والأبناء. وبدأت الظروف في التأثير في مواقف الأفراد، ولا حديث لهم سوى "كيف سيتحصل على أمواله المحجوزة في البنوك؟".
ساهم الهم المعيشي والخوف على الصحة من فيروس "كورونا" المستجد إلى "تراجع ترف النقاشات الفكرية المجردة"، في مقابل تمدد الثقافة الاستهلاكية التي تعززها التكنولوجيا.
لا يمكن الجزم بأن "مقاهي النخبة" لن تتمكن من مقاومة سُنّة التغيير، إلا أن حياتها مقرونة بحضور روادها. من هنا، يشكل رحيل أي عنصر من عناصرها فقدان جزء منها، لأنها تمتاز بالبُعد الإنساني، وهو أمرٌ نفتقده في "مقاهي النرجيلة والإنترنت المعاصرة".