يرى الآثاري التونسي الموظف في مؤسسة التراث الوطني: سعدي، في المنام، شيخاً يتخلّق من الكثيب، وينبئه أنه جده الأكبر الذي ينتظره منذ قرون. وتمضي هذه الفانتاستيكية في رواية نزار شقرون "دم الثور: الباب المفقود من كليلة ودمنة" (دار الفارابي، دار الوتد) ليخبر الجد حفيده أنه هو أنفه الذي جُدِع جزء منه في الحروب الصليبية، وجزء يوم سقوط غرناطة، وأن قبرهما واحد. ويوصي الجد بأن يبحث سعدي عن قبر العقل، وبأنه سوف يحتاج في بحثه إلى المفتاح، فكلمة السر الموجودة في عالم الأسرار، ملفوفة في ضمادة مطلية بدم الثور. ويشرح الجد أن القبر كتاب قد يكون مدفوناً في ضريح أو في قعر سفينة غارقة، والقبر صندوق مقفل جاء من الشرق، وعمّر قروناً في الأندلس – كما سيتضح – إلى أن هُرّب مع الأجداد وعاد إلى الشرق ثانية، وتاهت أصوات الباحثين عنه.
تبدأ الرواية من الطائرة التي تُقِلّ سعدي إلى عمّان، حيث يلتقي بالصديقين اللذين سبق أن حضر معهما مؤتمرات كثيرة تتصل بالآثار: المصري أيمن الشناوي، والسوداني طه البشير. وفي مطار عمان تكون بصحبة أيمن الصحافية الفوتوغرافية الإسبانية كارمن التي تفضل أن تُقدَّم بالأندلسية الأخيرة.
قبل أن نمضي أبعد في الرواية، ينبغي أن يشار أولاً إلى ما تتسم به كتابة نزار شقرون بعامة، الروائي منها وغير الروائي، من النصاعة اللغوية التي يتفاعل فيها الفصيح المُدِلُّ بنسبه مع الفصيح المعاصر الموسوم باليسر. وإلى جانب ذلك، يتألق تعدد اللغة الروائية إلى لغات. فبعد لغة البداية الفانتاستيكية التي رأينا، تأتي اللغة الثانية على لسان سعدي حين انتقل من حديث المنام والجد إلى جلسة في البار مع أيمن ووصف البيرة وغناء سيد مكاوي، وسرد حكاية أيمن وزوجته بهيجة، وسرد حكاية اللقاء الأول بين الراوي سعدي وأيمن وطه. وتلي اللغة الثالثة حين ينثال وصف الإسكندرية بخفة ورشاقة وبراعة وإيجاز ولطافة، لكأننا أمام لطشات فرشات وضربات سكين في لوحة ساحرة. وسيظل هذا التعدد اللغوي يسم الرواية إلى أن تنضاف إليها لغة رابعة في النهاية، حين نبلغ الباب المفقود من "كليلة ودمنة".
إلى بغداد، وبالسيارة في زمن الحصار، ينطلقون: الرجال إلى مؤتمر آثاري، وكارمن سعياً خلف رائحة "دم الثور" في العراق. وكانت قبل ذلك تسعى في إيران، وبذا يتواصل الفانتاستيك في الرواية إلى أن يصير واقعاً.
توقظ كارمن في سعدي ذكرى ما عاش من الحب الاستثنائي مع زينة في الرباط، إبان مؤتمر هناك. وها هي قلادة كارمن مثل قلادة زينة التي قالت له: "أنت صاحب كلام، أخاف عليك من الغرق، أنت لا تستطيع غير الغوص في الماضي، وبحرك من الحجارة، أما أنا فبنت الحاضر، وبحري ملتقى المتوسط بالأطلسي".
الإسم الغريب
على الحدود، وبانتظار إجراءات الدخول إلى العراق، تسأل كارمن سعدي: هل تعرف روزبه؟ وتشير إلى فصّ قلادتها قائلة: هنا ينام روزبه، فمن يكون صاحب هذا الاسم الغريب؟ إلى أن تشرح كارمن، سيكون أيمن قد أخبر سعدي أنها تبحث عن كتاب تحسب أنه على قيد الحياة. وتكون هي قد قدمت نفسها كباحثة في الآثار، ولكن في البصمات المطموسة في التاريخ، وفي ما يخفي ما كتبه الإخباريون في كتب التاريخ، بأمر من ولاة الأمر. والتاريخ بالنسبة إلى كارمن ليس إلا جيفة، وتاريخ الدم لا ينتهي.
في سهرة على شاطئ دجلة، تحدّث كارمن الزملاء الثلاثة أن روزبه هو ابن النار، والنار أكلته قطعة قطعة، وأنها سافرت إلى طهران لتقوم بتحقيق مصور عن مهرجان للزهور، حيث تعرفت على شرارة التي رافقتها في رحلة إلى شيراز وإلى فيروز آباد، كي تكشف طلاسم جدها. وفي شرح شرارة لكارمن تاريخ فيروز آباد، كانت تعود إلى "كليلة ودمنة"، وذكرت أن كاتبها هو روزبه، وهذ هو الاسم الفارسي لعبدالله بن المقفع، وقالت: "اسمعي يا كارمن، هذا الكتاب ناقص، وللأسف لا أحد يهتدي إلى ذلك إلا الحكماء. هذا الكتاب سبب قتل روزبه، ولا يعقل أن يُقتل ويُترك الكتاب بين أيدي الناس".
مع الفانتاستيك، وبعده، هي ذي البوليسية تلفح الرواية. وقد حدثت كارمن جدها – ألا يُناظر جد سعدي؟ - عن شرارة وروزبه، فأخبرها أن النسخة المتداولة من (كليلة ودمنة) لا تتطابق مع المخطوط الأصلي الذي كان بحوزة راهب يهودي من أسرة مزراحي الوراق في مكتبة قرطبة القديمة، ولا أحد يعرف مصير الراهب ولا المخطوط بعد حرقها. وقد مات جد كارمن موصياً حفيدته بأن تلاحق رائحة ماء الورد، وذلك بالبحث عن "دم الثور". ويُرجف سعدي أن الكلمة نفسها "دم الثور" هي ما أوصاه جده بالبحث عنها، فأية مصادفة، وأية أقدار، وأي فانتاستيك؟
في رأي كارمن، كيلا أقول في رأي الكاتب، أن ابن المقفع كان يلعب لعبة الموت، حين حاول أن يتخفى خلف ترجمته لكتاب الفيلسوف الهندي بيديا، ولم يتخفّ خلف أقنعة الحيوانات: الترجمة نفسها قناع!
يتحدث سعدي عن قتل الأسد للثور شتربه بعدما أوقع دمنة الأسد في الفتنة، وبذا كان على ابن المقفع أن يضيف الباب الثاني من "كليلة ودمنة"، باب الفحص عن أمر دمنة، ليحاكمه. أما كارمن التي أمسكت في إسبانيا بطرف الخيط من حكاية دم الثور، فتتساءل عما إن كان على ابن المقفع أن يثأر للثور بعدل، وعما إن كانت إضافة باب المحاكمة لا تحقق العدل، ودم الثور سيظل طازجاً مادام القاتل (الأسد) حياً؟
تلتفت الرواية بتأثر عميق وبنظر عميق إلى تفاصيل العيش في ظل الحصار على العراق، وتشبك ذلك بحكايات ما بعد انسحاب الجيش العراقي من الكويت. وعبر ذلك يكون تواصل كارمن الملغز مع أبو محمد الواسطي مدير بيت الحكمة.
بين بغداد والأندلس
تصف كارمن بحثها عن الكتاب غير المنقوص، بأنه بحث عن الخيط الذي كان يربط بين بغداد والأندلس، وبأنه بحث في سبب سقوط غرناطة. وهذا كله هو أيضاً بحث سعدي عن الكتاب. وفي السهرة التي جمعت كارمن وسعدي بالواسطي، يؤكد أن الباب المفقود من الكتاب هو أهم باب فيه، وبسببه قتل ابن المقفع. وتتلاطم السهرة بحديث كارمن عما أكده لها كل من صادفتهم في بحثها عن الكتاب الكامل، أن النسخة الوحيدة منه ربما سرقت، وغالباً ما تكون في بغداد. لكن الأهم هو حديث الواسطي عن اختلاس برزويه للكتاب من خزانة ملك الهند، وعن أن للكتاب ظاهراً وباطناً، وعن أخطر ما فيه وهو تصريحه بأن العقل أساس الملك، فإذا غاب العقل تزعزع العدل، والعدل هو محتوى الباب المفقود، والنسخة المتداولة من "كليلة ودمنة" قروناً تفتقر إلى مطالبة ابن المقفع بالعدل. وفي السهرة المتلاطمة أيضاً أن النسخة الأصلية من الكتاب جرى تهريبها من بغداد إلى الأندلس، وظلت تنتقل قروناً من خزانة إلى أخرى. وبعد تهجير المسلمين أخفيت في قبو في قرطبة، حتى عثر عليها الوراق اليهودي. أما من ورّط الواسطي في البحث عن الباب المفقود فهو الشاعر مطيع بن إياس الذي عاش في العصرين الأموي والعباسي، وكان صديق ابن المقفع، وحافظ على النسخة الأصلية التي سلمه إياها ابن المقفع عندما أُمر بالتوجه إلى سفيان بن معاوية الذي زلزل صوته: "والله يا ابن الزنديقة لأحرقنك بنار الدنيا قبل نار الآخرة". بينما أطبقت رائحة لحم ابن المقفع المشوي على سماء بغداد.
من شارع المتنبي الشهير بمكتباته وكتبه حصلت كارمن على أقدم نسخة مطبوعة من "كليلة ودمنة". وأخذ سعدي يقضي المساءات في قراءة النسخة. وهنا، تقدم الرواية ما لعله التحليل الأوفى والأجمل لكليلة ودمنة. فسعدي يرى في الكتاب بناء معمارياً تتحول فيه "الحكاية إلى عمارة، والحكايات المثلية الصغرى إلى دورٍ صغيرة داخل هذه المدينة المسورة! ليست هناك حكاية تستقل بالمعنى والعبرة خارج صلاتها بالحكاية الأم". ويشبه سعدي الكتاب بالفسطاط الواسع الذي تدور في كل غرفة منه أحداث مستقلة ظاهرياً، لكنها مؤثرة في الحكاية الأم التي تدور في القاعة الكبرى للفسطاط وفي أروقته.
يتتوج البحث عن "الباب المفقود" بالعثور عليه عند الواسطي الذي يُقبض عليه بعد أن يوصله إلى كارمن، فالعيون الأمنية الساهرة ترصد ما بينه وبين كارمن التي تعجل في الفرار مع الثلاثي أيمن وطه وسعدي. ويلي ذلك نص "الباب المفقود" الذي تتناسل فيه الحكايات: حكاية ملكة النحل يقصّها خادم التاجر الذي خلّف شتربه في الوحل، حكاية المؤذن مع الديك يقصّها بندبة على النمر، كما يقص عليه حكاية الإسكافي مع زوجته، حكاية ما وقع للقرد مع الفيل يقصها النمر على بندبة، وهو معلم الأسد وكاتم سره الذي يقص على أم الأسد حكايته هو مع بندبة...
إنها رحلة جديدة لكتاب "كليلة ودمنة" الذي ترحّل من العربية إلى السريانية واليونانية والعبرية واللاتينية، كما ترحل من قبل من السنسكريتية إلى الفارسية الفهلوية إلى العربية. ولعلها سانحة لكي نتذكر أثر هذا الكتاب في القصص الخرافي العالمي، وفي الصدر منها قصص لافونتين (1621-1695)، كذلك أثر الكتاب في الأدب العربي: من رسالة أبي العلاء المعري (الصاهل والشاجح)، إلى آخر كتاب تراثي وضع على لسان الحيوان: فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء لابن عرب شاه، إلى (الأسد والغواص) المجهول المؤلف، إلى ألف ليلة وليلة نفسها في الحكايات التي تضمنتها وجاءت على ألسنة الحيوان. وكان محمد عبد الجابري قد قال إن "كليلة ودمنة" هو الكتاب المدرسي الأول في الثقافة العربية، وهو المرجع الأول في تكوين العقل العربي منذ عصر التدوين إلى عصر النهضة ومنتصف القرن العشرين.
لقد كان "كليلة ودمنة" من الكتب الأولى التي تربيتُ عليها، وما أكثر ما عدت إليها، حتى اجتمعت في مكتبتي طبعات عديدة لها، من التي حققها عبدالوهاب عزام وأصدرتها دار المعارف، إلى طبعة الأب لويس شيخو في ثوبها الدمشقي، إلى طبعتين تونسيتين، أولاهما أصدرتها مؤسسات بن عبدالله، والثانية أصدرها عمر بن سعيدان عام 1982. لكن تلك الطبعات وسواها، ينقصها جميعاً هذا الذي اندغم فيه الخيال بالواقع، والحب بالكتابة، ونشدان العدل بملحمية المثقف الشاهد والضحية، مما أبدعه نزار شقرون في روايته "دم الثور: الباب المفقود من كليلة ودمنة".