Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"برلين ألكسندر بلاتز" لفاسبندر: التلفزيون حين يُدهش

خمس عشرة ساعة لاقتباس عمل عصيّ على الاقتباس

ملصق مسلسل "برلين ألكسندر بلاتز" لفاسبندر

من بين الأمور العديدة التي تميّزت بها رواية "برلين الكسندر بلاتز" للكاتب الألماني ألفريد دوبلن كونها عصيّة على التحوّل إلى فيلم سينمائي على رغم أنها كانت اُفلمت باكرا منذ العام 1931 بعد عامين من صدور الرواية للمرة الأولى وحقّق الفيلم نجاحا كبيرا لا يعود في الواقع إلى جودته بل إلى شهرة الرواية نفسها. المهم أن هذه الرواية التي توضع في مصاف أعمال مثل "يوليسيس" لجويس و"سفر إلى آخر الليل" لسيلين و"الدكتور فاوستوس" لتوماس مان، ظلت على الدوام شريكة لها في مصيرها غير السينمائي، وعلى الأقل حتى جاء في العام 1980 واحد من أكبر السينمائيين الألمان المحدثين لينكبّ على الرواية ويحوّلها صورا متحركة ولكن ليس على شكل فيلم سينمائي من ساعتين وأكثر، بل على شكل مسلسل تلفزيوني في نحو خمسة عشر ساعة. وفي الحقيقة التقط ذلك المخرج "سرّ الصنعة" مدركا أن المشكلة "السينمائية" مع ذلك النوع من الروايات، يكمن في الوقت والإيقاع وبالتالي "قرّر" أن عملا مسلسلا للشاشة الصغيرة سوف يكون أكثر إنصافا لمتن أدبي من هذه الطينة. ولسوف يتبيّن أنه كان مصيبا في حكمه. وهو دائما ما كان مصيبا في أحكامه على أي حال، كما كان مواكبا أساسيا للسينما المعاصرة ولا سيما بإقدامه في بعض أقوى أفلامه على الإقتباس من الأدب، كبيراً كان أو صغيراً.

خمسة أفلام قبل الإنتحار

ولم يكن ذلك المخرج سوى الألماني راينر فرنر فاسبندر، الذي رحل على أي حال عن عالمنا منتحراً في العام 1982، أي في وقت كان فيه كثر يتوقعون منه، بعد النجاح الهائل الذي حققه عرض مسلسله وعنوانه بالتحديد «برلين الكساندر بلاتز» على شاشات تلفزيون بافاريا، أن يكرّر التجربة مع عمل تلفزيوني آخر مأخوذ عن رواية أدبية. وكان الهمس قد جرى بأن فاسبندر سيحقق أربعة عشر حلقة تلفزيونية جديدة عن رواية «آل بودنبروك» لمواطنه الكبير الآخر الروائي توماس مان. نعرف أن هذا المشروع الأخير لم يتحقق، وأن اهتمام فاسبندر بالعمل للتلفزيون قد توقف مع تلك الساعات الخمس عشرة (الموزعة على 14 حلقة) التي يتشكل منها «برلين الكساندر بلاتز» لكننا لا نعرف، طبعاً أسباب ذلك مع العلم أن فاسبندر خلال العامين اللذين مرّا بين تحقيق المسلسل وانتحاره كان لديه من الوقت ما يكفيه لتحقيق أربعة أفلام كبيرة أخرى وعمل وثائقيّ. ومن بين تلك الأفلام "ليلي مارلين" الذي حققه منطلقا من السيرة الداتية لأصحاب الأغنية الشهيرة التي تحمل العنوان نفسه؛ و"لولا إمرأة ألمانية" و"سرّ فيرونيكا فوس" وأخيرا فيلمه الأخير "مبارزة" المقتبس عن واحدة من أقوى نصوص الفرنسي جان جينيه، "مبارزة في بريست". ووتيرة هذا العمل المتسارع لم تكن على أية حال غريبة عن فاسبندر الذي كان من عادته تحقيق فيلمين وأكثر في السنة منذ إطلالته على عالم السينما الطليعية في العام 1969 بأول فيلم روائيّ طويل له، ما جعله سيدا من سادة السينما في زمنه وجعل كثرا يدهشون لاختياره التلفزيوني بالنسبة إلى رواية دوبلن الشهيرة.

مهما يكن فإن الذين أدهشهم انكباب فاسبندر على تحقيق ذلك العمل للتلفزة لم يكونوا محقين في دهشتهم. كانوا، لفرط احتفالهم بسينمائية فاسبندر، ولفرط حديثهم عن وتيرته السريعة في إخراج أفلامه، (التي كانت سريعا ما تجد جمهورا كبيرا يتتبعها ومهرجانات وصالات تعرضها على الفور)، كانوا قد نسوا أنه سبق أن حقق أعمالاً أخرى للتلفزيون مباشرة، أو أعمالاً للسينما من إنتاج محطات تلفزيونية. غير أن «المشكلة» مع فاسبندر كمنت في أن الأمور كانت دائماً مختلطة لديه. لقد كان، في جملة أحاديثه الاستفزازية يعلن دائماً عن حب للسينما يستبعد، فرضياً، أي اهتمام بالتلفزة لديه. لكننا اليوم، مع نظرة تراجعية ترصد مسار فاسبندر، من خلال عمله الرائع «برلين الكساندر بلاتز»، سنتنبه إلى أن بعض أعمال فاسبندر الأساسية والكبرى إنما حققت، أصلاً، للتلفزة. يصدق هذا على «الرحلة إلى نيكلاسهاوزن» وعلى «رواد في انغلشتادت» (العملان حققا في 1970). كما على خماسية «8 ساعات لا تصنع نهاراً» الذي حقق 1972. وعلى «نورا هلمر» الذي صوره عام 1973، بالفيديو مباشرة فكان تجربة رائدة.

الشيطان في التفاصيل

في إمكاننا، طبعاً، أن نواصل هذه الحكاية، لنقسم عمل فاسبندر ككل إلى ثلاثة أنواع: أفلام للسينما، أفلام للتلفزة... وأعمال صنعت للوسيلتين معاً، أو كان يمكن عرضها في الوسيلتين. لكن المهم هنا أن نتوقف عند العمل الأكبر والأهم «برلين الكساندر بلاتز». فهذا العمل مأخوذ عن تلك التي نُعتبر دائما، واحدة من أشهر الروايات الألمانية. والتي تقع أصلاً في قرابة ألف صفحة. وتقول الحكاية أن فاسبندر رغب في البداية، أن يختصر الأحداث لتملأ فيلماً سينمائياً واحداً في ساعتين. لكنه، بعد تفكير طويل وبعد تردد وإذ كان، في وعيه الباطني، يريد أن يتحدى التلفزة بخوض تجربة ما كانت مؤهلة أصلاً لاستقبالها (بسبب كآبة الموضوع وحضور تيار الوعي غير القابل للأفلمة فيه)، ضمن إطار استفزازيته الدائمة... أجرى من الاتصالات ما جعله يحصل في نهاية الأمر، على عقد سخي مع تلفزة بافاريا، مكنه من أن يصور ثلاث عشرة حلقة بسرعة قياسية، مضيفاً إليها حلقة رابعة عشرة عنوانها «ملحق: بصدد حلم فرانز بيبركوبف»...

وبيبركوبف المذكور هنا هو بطل الشخصية الأساسية في الرواية – ثم المسلسل اللذين يتحدثان عن مرحلة ما بعد خروجه من سجن كان أودع فيه لأربع سنوات عقاباً على قتله زوجته. وهو إذ يخرج يفاجئه صخب العالم الخارجي وتنكّر الجميع له. لكنه الآن يريد أن يعيش على رغم كل شيء. ويريد أن يبقى نزيهاً من دون أن يقدم أية تنازلات. بيد أنه على رغم قيامه بالكثير من المهن الصغرى ومن محاولاته الدؤوبة، بتشجيع من صديقة بولندية يتعرف اليها، في إحدى الحانات ويرتبط بها، يجد نفسه، تحت وطأة ضغط المجتمع والظروف وقسوة البشر، مساقاً إلى درب الجريمة من جديد... كما يجد نفسه دمية في يد الآخرين، ولا سيما في يد رجل العصابات الشرير رينهولد الذي تحت مزاعم الرغبة في مساعدته يُدخله في متاهات الفساد ويحاول تملّكه وتملّك إمرأته الجديدة، لكن براءة بيبركوبف تكون هي امنتصرة في النهاية ويلقى رينهولد شر المصير.

هذا هو، في اختصار، منطلق موضوع هذه الرواية وهذا المسلسل. وللوهلة الأولى قد يستغرب القارئ أن يكون هكذا موضوع قد تمكن من أن يملأ كل تلك الحلقات التلفزيونية، فهو بعد كل شيء موضوع ميلودرامي بسيط من نوع كان رائجا في ذلك الزمن، لكن تلك البساطة وتلك الميلودرامية كانتا خدّاعتين، حيث خلف ذلك الموضوع كانت تكمن رواية أخرى تماما. رواية عن مكان وعن تفاصيل الحياة في ذلك المكان: ساحة الكسندر التي كانت خلال الثلث الأول من القرن العشرين تمثل مركز الثقل في حياة برلين وكان الهم الأساس لدوبلن أن يرسم تفاصيل تلك الحياة والبؤس الأخلاقي الذي تعيشه الساحة والمدينة جزءا من طبيعة الحياة في ذلك الزمن البائس من تاريخ ألمانيا. وتلك التفاصيل كانت في الحقيقة جوهر الرواية وهو الأمر الذي أدركه فاسبندر فعرف كيف يوازي تماما بين الحدث "السطحي" وحياة المدينة، وهو الأمر الذي لم يدركه الفيلم الاول الذي حُقّق من قبل. وهكذا إذ كان متوقَّعا أن يأتي العمل، وقد حُوّل إلى هذا المسلسل، بطيئاً مملاً صعباً، طلع من بين يدي فاسبندر وفي أمانة تامة مع نص دوبلن وروح النصّ، شيئا آخر تماما، عملا فنيا كبيرا. بين يدي فاسبندر اتخذ العمل سماته الحية والحيوية ليصبح، لمن يعرف كيف يشاهده، واحداً من أجمل وأقوى الأعمال التلفزيونية التي قدمها مخرج سينمائي أوروبي، تعامل مع التلفزة بجدية تعامله مع السينما... وأدرك باكراً أن الوسيلتين لا بد أن تلتقيا يوماً، شرط أن يكون الإبداع رائد ذلك اللقاء.

المزيد من ثقافة