هنا، وفقط هنا، تتحول رائحة البارود إلى طقس يومي. طقس لا يمكن الاستغناء عنه أو الإنفكاك منه. تنسل تلك الرائحة، تنث، تزحف، تجتاح، تحتل أركان المكان والروح. لكن كثافتها ما تلبث أن تتهافت.. فهنا، وهنا فقط، تطرد الرائحة الرائحة. هنا يمكن لك أن تغرس وردة في مكان سقوط القنبلة. هنا، وهنا فقط، يمكن أن يصبح كل إنسان وريثا حقيقيا لجان باتيست غرونوي، الباريسي الهامشي الذي يمتلك أنفا سحريا، يستطيع بواسطته تحليل، وتخزين، واسترجاع العطور مهما تعقدت تركيباتها.
نفخ باتريك زوسكيند روحا جديدة في غرونوي هذا، على صفحات روايته “العطر”، فبدت وكأنها صيغة حياة لكل من يعيش في المدينة التي عرفت يوما باسم “سيدة البخور”، بسبب ازدهار موانئها بتجارة أنواع العطور والبخور.
رائحة البارود وعطر البخور، أين يمكن أن يأتلفا في مكان آخر غير غزة؟
في هذا الشريط الضيّق جنوب الساحل الفلسطيني (41 كلم طولا وبين 5 و15 كلم عرضا) تتمادى الرداءة وتمتد النصاعة في اتجاهين متضادين. أكثر من مليون فلسطيني يعيشون، ويعتاشون، ويحبون، ويتوالدون، فوق رقعة من الأرض لا تزيد عن 360 كلمتر مربع. على كل فرد في هذه البقعة أن يواجه مصيره مرتين: مرة ضد احتلال جبّار يحاصر ويقصف ويقتل، ومرة بوجه أوحادية الاختيارات، التي تجعل طلب الموت أيسر من رغبة الحياة.
كأن غزة تعيش منذ دهر في نفق تعرف بداياته ويستحيل اكتشاف نهاياته، وهي التي شكّلت الأنفاق شرايينها التي تضخ الماء والهواء في رئات أهلها.
غزة المعاصرة التي تختصرها بضعة أخبار يومية، تنقل إلى العالم وقائعها المريرة، هي غزة الكنعانية التي كان اسمها "هزاتي"، والتي أصبحت مع العرب المسلمين "غزّة هاشم"، نسبة إلى جد الرسول (ص) هاشم بن عبد مناف، الذي زارها ودفن فيها، وأسماها المصريون القدماء "غازاتو"، لينطقها الإنجليز في عهدهم الاستعماري "جازا".
دالت دول على غزة، واستوطنتها شعوب، فكانت شاهدة أحيانا وشهيدة دائما، منذ أن دخلها الفراعنة فاتحين، أو منطلقين منها إلى بلاد الشام، فكانت قاعدة لهجوم جيش الملك تحتمس الثالث. وفي عام 332 ق.م، دخلها الإسكندر الأكبر بعد حصار قاس، ليسلمها ورثته المتصارعين إلى البطالسة، ثم يعود المصريون للإستيلاء عليها، قبل أن تهزمهم على أرضها الدولة السلّوقية في سوريا.
لكن الأمر لم يدم طويلا لأهل الشرق، إذ خضعت المدينة لحكم الرومان بقيادة الإسكندر جانيوس، الذين دام عهدهم حتى فتحها العرب المسلمين عام 1187. فبدأت منذ ذلك الحين مرحلة جديدة، تقلّب فيها الحكّام على المحكومين، من الصليبيين، إلى العثمانيين، فالإنجليز، فالإسرائيليين.
يقص التاريخ حكاية غزة، وكأنه يروي سيرة حضارات، بدأت مع بناتها الأوائل، من العرب المعنيين، إلى السبئيين، فالعناقيّين، والآدميين، والعموريين، والكنعانيين، الذين نسبت إليهم أرض كنعان أي فلسطين، فجاء بعد دهر أحد أحفادهم، لكي يتلو صلاة جينية باسم هؤلاء جميعا.
فباسمهم قال محمود درويش في "مديح الظل العالي":
"ولدت قرب البحر من أم فلسطينية وأب أراميّ.
ومن أم فلسطينية وأب مؤابيّ.
ومن أم فلسطينية وأب أشوريّ.
ومن أم فلسطينية وأب عروبيّ.
ومن أم، ومن أم... على حجر يقيّد فوقه الرومان أسرى حربهم، ويحررون جمالهم مني...
أنا الحجر الذي شدّ البحار إلى قرون اليابسة".
حكاية غزة لم تكتمل، ولن تكتمل... فناسها رواة كبار، يكتبون كل يوم فصلا جديدا، تصطخب فيه الروائح والأرواح، ويبتدعون من المأساة بلسم الشفاء... فقرون اليابسة يمكن أن تروّض صخب البحار، ويمكن للعطار أن يصلح ما أفسده الدهر...
في سوق العطارين بغزة، تقرأ "اندبندنت عربية" بعين الكاميرا فصلا من فصول حكاية غزة.