Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ذكرى تنحي مبارك... أعراض انسحاب الوصول إلى "الذروة"

المصريون يتمتمون بالعفو ويضطرون إلى الصفح... إلا من بقايا هنا وهناك

يبدو الوضع الآن مختلفاً بشأن الرئيس الأسبق حسني مبارك في الذكرى التاسعة للتنحي عن الحكم (أ.ف.ب)

على مدار السنوات التسع الماضية، شهدت ذكريات وعواطف ومشاعر المصريين تراجعاً تدريجياً في درجات الحنين ومقادير الاشتياق. وبقدرة قادر، تحولت النوستالجيا الثورية لـ"أدرينالين" الميدان و"دوبامين" هتافات العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، إلى رغبة جماعية لنسيان ما كان، وتبدلت في بعض الأحيان إلى تمني "ياريت اللي جرى ما كان".

وكان الجانب الأكبر من المصريين يعتقد أن الرياح الثورية في يناير (كانون الثاني) 2011 ستأتي بما تشتهي الغالبية من حياة هنيّة ورفاهية اقتصادية. لكن مع التحولات السريعة والانكشافات الكثيرة في أشهر ما بعد أحداث الميدان، تطايرت الآمال وتبعثرت الأهداف وأخذت مشاعر الاشتياق والرغبة في إحياء مجريات الـ18 يوماً الثورية في التبخر رويداً رويداً.

رواد الميدان

رواد الميدان ورفاقه الذين فرقتهم أيديولوجيا الإسلام السياسي حيناً، وميثولوجيا الاشتراكية الثورية حيناً، وسيكولوجيا القادة الثوريين حيناً، ومعهم القاعدة العريضة من المصريين، تضاءل احتفاؤهم بالأحداث عاماً بعد عام. اختلف واختل سرد أحداث "جمعة الغضب"، وتناقض وتضارب تفسير ما جرى في يوم "موقعة الجمل"، وتنازعت وتخالفت توصيفات ما جرى في الميدان انتهاء بيوم 11 فبراير (شباط) عام 2011، والمعروف بـ"يوم التنحي".

يوم التنحي

ذكرى هذا اليوم، "يوم التنحي"، اعتبرتها الغالبية في حينها "ذروة" الأحداث الثورية. لكن تتبع طريقة الاحتفاء بهذا اليوم وأساليب الاسترجاع على مدار السنوات التسع الماضية، دال على موقف القاعدة العريضة من المصريين من الأحداث التي ظنوها ربيعاً. فمن احتفالات صاخبة عقب إعلان رئيس جهاز الاستخبارات العامة (ونائب رئيس الجمهورية لأيام معدودة في أحداث 2011)، اللواء عمر سليمان، تخلي الرئيس مبارك عن الحكم وتكليف المجلس الأعلى للقوات المسلحة إدارة شؤون البلاد، إلى خفوت حدة الاحتفال وظهور بوادر الانشقاق في العام التالي، حيث "محاكمة المخلوع" وسط ذهول الجميع، وشدّ وجذب بين كل الأطراف الثورية من دون استثناء، إلى مسيرات واشتباكات بين مؤيدي الرئيس السابق ومعارضيه في الذكرى الثانية في عام 2013، ومنها إلى عام 2014 بعد سقوط حكم جماعة الإخوان، وانتقال إحياء الذكرى من أرض الميدان، التي اكتفت بمسيرات عشرية لأنصار الجماعة بكاء على الفرصة الذهبية التي ضاعت، إلى أثير العنكبوت، حيث نقل رفاق الأمس - فرقاء اليوم- خلافاتهم ممثلة في تغريدات وتدوينات تصبّ اللعنات على بعضهم البعض، وتبادل تهمة "إضاعة فرصة التنحي الذهبية".

 

وفي عام 2015، "لم يحضر أحد"، لا احنفاءً ولا احتفالاً، مع استمرار بقايا محاولات أنصار الجماعة بالتذكير بـ"ثورة متبخرة" و"فرصة ضائعة"، والدقّ على أوتار إسقاط (الرئيس) السيسي أو مطالبته بالتنحي. وفي العام التالي 2016، بات واضحاً تماماً أن ذكرى التنحي لم تعد تعني الكثير. صحيح ظلت الأطياف الثورية تبكي على أطلال الميدان و"لبن" الحرية والعدالة الاجتماعية المسكوب، وانقسم المصريون بين مسامح للرئيس السابق ومتسامح مع ما أسموه "قضاء مبارك أهون من قضاء الجماعات الدينية"، وفريق ثالث واقع في حيرة غير قادر على تحديد موقفه أو تفسير مشاعره تجاه التنحي.  

وفي العام التالي 2017، بدأت الصورة تتضح رويداً، وبات أصحاب المشاعر المتضاربة أكثر قدرة على مواجهة ما تموج به أنفسهم. عادل سعيد (61 عاماً، محاسب متقاعد) يقول "كنت أسعد مواطن في مصر يوم 11 فبراير 2011. ورغم أنني لم أشارك في ما جرى في يناير 2011 من تظاهرات وغيره، لكنني كنت أشجّع وأبارك خطوات الشباب. وفي عام 2012، انتخبت مرشح الإخوان، لسببين: الأول، رغبة في إبعاد كل من يتعلق بنظام مبارك، والثاني ظناً مني أن الإخوان سيراعون الله فينا. وما اقترفه الإخوان خلال عام من حكمهم، مع تكشف المؤامرات الخارجية التي يتم تدبيرها ضد مصر، والتي ما زالت تحاك حتى يومنا هذا، أصبحت أكثر تسامحاً تجاه الرئيس السابق مبارك. صحيح أنا غاضب منه وأحمّله جانباً كبيراً مما نحن فيه هذه الأيام، من فوضى أخلاقية وتدنٍ تعليمي وانتشار للفكر الديني المغلوط، لكن أعترف أنه كان محنّكاً في إدارة الأمور". أما ذكرى التنحي، فيقول عنها "أشاهد فيلماً عربياً قديماً، وأحاول ألا أفكر كثيراً فيما جرى".

جس نبض الشارع

وقد جرت العادة أن يجسّ الإعلام الغربي نبض الشارع المصري ويقيس درجة حرارته الثورية في مثل هذه الأيام من كل عام على مدار سنوات ما بعد يناير 2011. في عام 2017، تفجّرت تقارير إخبارية عن المصريين المنقسمين بين فئة شبابية مميزة تحن إلى الثورة والغضب، وفئة شعبية آخذة في الاتساع، بدأت أعراض الحنين لعصر مبارك تبدو عليها. ليس هذا فقط، بل بدأت صور الرئيس السابق مبارك - والتي نُزعت بضراوة وحماسة في أيام الأدرينالين الثوري- تعود بين الحين والآخر في مسيرة محدودة لجماعات تسمي نفسها "أبناء مبارك" أو "آسفين يا ريس"، لا سيما احتفاءً بعيد ميلاده في شهر مايو (أيار).

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الملاحظ أن الظهور الحذر لصور مبارك لم يعد يستدعي مشاعر الغضب أو الحنق من المواطنين العاديين في الشارع، بل بدأت همهمات الحوقلة وهمسات عبارات المسامحة تتعالى رويداً، لدرجة أن البعض بات متقبلاً مطالبة البعض من أنصار مبارك عودة اسمه إلى محطة مترو الأنفاق التي صدر حكم قضائي في أبريل (نيسان) عام 2011 بتغييرها من "مبارك" إلى "الشهداء"، تمجيداً لأحداث يناير وتبجيلاً لمن قضوا فيها! المثير أنه في عام 2017، وضع أحدهم ملصقات عليها اسم "مبارك"، وطمس بها لافتات محطة "الشهداء". وعلى الرغم من أن الفاعل ظل مجهولاً، فإن المعنى يبقى في بطن الفاعل.

الفاعل وتوجهه المؤيد أو المحب أو حتى المتسامح مع الرئيس السابق مبارك، أخذ في التوسع والتمدد على مدار السنوات التي تلت أحداث وحوادث ومجريات يعتبرها كثيرون كاشفة، وربما فاضحة.

عودة الرموز

هذا التيار المتنامي شهد معاودة ظهور تدريجي لعدد من رموز حكم الرئيس السابق مبارك. وعلى الرغم من أنها عودة بالغة الحذر، فإنها تبقى كذلك دالة على تحولات المزاج العام وتقلبات الرأي العام.

رموز، مثل أستاذ القانون الدولي ووزير التعليم العالي السابق ووزير الشؤون القانونية والمجالس النيابية السابق، الدكتور مفيد شهاب، يظهر في ملتقيات ثقافية وندوات نقاشية محدودة الجماهير. كذلك الحال بالنسبة إلى وزير الثقافة السابق، فاروق حسني، الذي يدلي بحوارات لصحافيين موثوق فيهم ويحضر فعاليات مختارة بعناية.

 

عناية كبيرة يوليها بعض الصحافيين ومذيعي "التوك شو" لتمرير بعض الرسائل التي يصيغونها في إطار إعطاء كل ذي حق حقه، أو أن اختلاف وجهات النظر أو الخلاف في الرؤى لا ينبغي أن يؤثر على كتابة التاريخ. وفي العامين الماضيين، ومع حلول يوم 11 فبراير (شباط) تزداد هذه النبرة المقتصرة على عدد لا يتجاوز أصابع اليدين من الإعلاميين. لكن الدلالة مهمة! فشتّان بين أشهر ما بعد الثورة والقوائم السوداء التي تم إعدادها للإعلاميين والفنانين الذين ناصبوا أحداث يناير العداء أو ذكروا الرئيس السابق مبارك بالخير، وبين القدرة على المجاهرة بحديث إيجابي عنه.

سعة صدر

ويبدو أن عدم هروب الرئيس السابق مبارك من مصر هو وعائلته، أو محاولته دس الفتنة في صفوف الجيش المصري لترجيح كفة بقائه في الحكم، أو حتى عدم قبول التضحية بأعداد كبيرة من المصريين نظير التمسك ببقائه في الحكم، أمور أسهمت في تزايد سعة صدر أعداد متنامية من المصريين بعدما راحت زهوة الأدرينالين الثوري وتبددت أحلام يقظة التغيير الآني، على صوت الارتطام الشديد بأرض الواقع.

أرض الواقع تشير إلى تسلل واضح لظاهرة سرد الذكريات وفتح صناديق الأسرار في ذكرى التنحي من كل عام. عدد من المحللين والمنظّرين والصحافيين يظهر في استوديوهات التحليل وبرامج الحوارات يحكي عن "اللحظات الأخيرة قبل وأثناء وبعد تنحي مبارك"، وحيث إنه لا وجود لمعلومة موثقة أو مصادر مؤكدة تؤكد أو تنفي، يمضي السرد إلى حال سبيله، ويعاد صندوق الأسرار إلى مخبئه للعام التالي.

ركود الغضب

العام 2018 لم يشهد أحداثاً تذكر في ذكرى التنحي. ويبدو أن الإعلام الغربي تنبّه إلى ركود الغضب الشعبي الموجه للرئيس السابق، وتنامي مساحة التسامح، بل وظهور علامات تتراوح بين الحنين والعفو، بل وتبرير ما جرى في عهده، عبر إلقاء الكرة في ملعب الأسرة، لا سيما قرينته السيدة سوزان مبارك ونجله جمال مبارك. وبين الحين والآخر تظهر موضوعات صحافية وتقارير تلفزيونية تدور في فلك "حنين المصريين إلى أيام مبارك".

هذا العام، تحلّ ذكرى التنحي والغالبية لم تتوقف كثيراً أو قليلاً عندها. وباستثناء أصحاب المواقف الثورية الناشطة أو التوجهات السياسية الواضحة أو الأيديولوجيا الخالطة بين الإسلام والسياسة، فإن من يتذكر المناسبة يتمتم ببعض الكلمات التي تعكس إما عدم اكتراث أو تغليب الحاضر والمستقبل على الماضي، أو يظهر قدراً من التسامح يتفاوت بين "عفا الله عما سلف" و"الله يمسيه بالخير كان موفر لنا حياة معقولة" أو "الله يسامحه. هذا تاريخ".

تاريخ التنحي قد يكون يوماً واحداً، لكنه في كل عام يكشف عن تغير جديد وتطور حديث في توجهات المصريين وأمزجتهم السياسية، لكن يبدو أنهم دائماً يرجحون كفة العفو مع ذكر محاسن مخلوعيهم.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات