Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"إسمع صوتنا أيها السيد" لمالكولم لاوري: تجاوز مربك للذات

صاحب "تحت البركان" يحاول يائسا إستكمال كتابه

ماكولم لاوري (1909 – 1957)

ما الذي يجب أن يحدث عادة حين ينتهي المبدع من تأليف كتابه ويشعر أنه لم يعد لديه ما يقوله فيه رغم رغبة جامحة تدفعه إلى ذلك؟ لا شك أن كثرا من الكتّاب يمرون بمثل هذه التجربة وربما بالنسبة إلى كل عمل يبدعونه. ونعرف من خلال سيرهم أو ذكرياتهم، كيف تكون استجاباتهم. وهي استجابات متنوعة لعل أكثرها عادية هو أن الكاتب يختتم نصّه لينتقل بعد حين إلى عمل آخر يحاول أن يقول فيه ما لم يعرف، أو يقدر على قوله في الكتاب السابق. والحقيقة أن الكاتب الإنجليزي مالكولم لاوري الذي اشتهر خاصة بروايته الكبرى "تحت البركان" مرّ بهذه التجربة خاصة بعد إنجازه هذه الرواية الني تعتبر، منذ صدورها في العام 1947 من علامات الحداثة الأدبية في القرن العشرين. بيد أن مشكلة لاوري مع هذه الرواية كانت مختلفة إلى حد ما.

فالرواية كما شعر بها صاحبها وسيوافقه على ذلك النقاد والقراء، رواية بدت مختلفة منغلقة على ذاتها لا تتحمل لا إضافة ولا مواصلة ولا تفسيرا ولا أي شيء. هي من تلك الأعمال النادرة في تاريخ الأدب التي تبدو نسيج وحدها ولا تطرح أي مشروع تال من بعدها. بل من بعدها يختم المبدع كلّ عمله تماما. وبالفعل سكت كاتبنا هنا بعد "تحت البركان" سنوات لكنه كان يتمزق في داخله وقد بدا عاجزا عن مواصلة الكتابة. لكن المفاجأة أتت بعد موته بأربع سنوات حين نُشر له في العام 1961 كتاب لاحق لم يكن أحد يدري عنه شيئا. وقُدّم الكتاب وعنوانه "إسمع صوتنا أيها السيّد" باعتباره مجموعة قصصية. لكنه لم يكن مجموعة قصصية. كان بالأحرى مجموعة من سبع نصوص منها ما هو ملاحظات على العمل الأدبي، ومنها ما هو أقرب إلى أن يكون أدب رحلات، ومنها ما يتابع حتى حياة الكاتب وزوجته في دارهما... ولكن من طرف خفي كان كل ما في الكتاب محاولة للقفز فوق "تحت البركان" للتساؤل لمَ لم يمكن لصاحبها أن يواصل الكتابة؟ ولماذا سدّت له تلك الرواية كل الآفاق؟

تنوّع الأقنعة

يمتليء الكتاب في معظم نصوصه بالأقنعة وبكتّاب يحملون أسماء مزيفة وبرحّالة يخوضون ما قد يبدو أول الأمر رحلات غريبة – في الزمان والمكان – عبورا لباناما أو تجوالا في إيطاليا أو إقامة في كندا... وقد لا تحضر الذات مباشرة في النصوص. ولكن هل كان في وسع قارئ لها أن يشك للحظة أن الكاتب المقيم مع زوجته في فانكوفر ليس لاوري نفسه؟ وهل كان يمكن للكاتب سيغبورن وايلدرنس أن يكون شخصا آخرا؟ وكذلك حال مارتن ترومبوغ... وغيره؟ أبدا طالما أن الأسئلة التي لا يتوقف هؤلاء عن طرحها على أنفسهم ليست سوى تلك التي من المؤكد أن لاوري كان يطرحها على نفسه وتحديدا حول مسألة الإبداع وعلاقتها بحياة المبدع... سواء كان يجتاز قناة باناما كبحار أو يتأمل علاقة ما مستحيلة بين فيل ومبنى الكوليزيه، أو يتحرى عن دوافع القيام برحلة إلى بومبيي توقفه عند آثارها....

في كل تلك التجوالات والرحلات، سواء أقامت بها ذات غير مسمّاة تتساءل، أو كاتب مختَرع... كان ثمة عشرات الأسئلة، لكنها تدور جميعا من حول سؤال واحد هو سؤال الكتابة. لماذل نكتب؟ لمن نكتب؟ وما هي حدود الكتاب؟ ولماذا قد يحدث للعمل أن ينغلق فجأة على نفسه موصلا عمل الكاتب إلى لحظة نهاية قد ترضيه أحيانا وتريحه، لكنها في أحيان أخرى، كما في حال صاحب "تحت البركان" توصله إلى دمار نهائي... أسئلة، أسئلة أسئلة ولكن دائما دون أجوبة.

سوء تفاهم

فهل نحن أمام واحد من ضروب سوء التفاهم العديدة التي أحاطت دائما بمالكولم لاوري وحياته وعمله الأدبي؟ مهما يكن نعرف أن سوء التفاهم الرئيس بشأن لاوري فقد نشأ أولا من خلال تشبيه الكثيرين له بأرنست همنغواي، وثانيا من خلال اعتقاد كثر أن لاوري أميركي لا إنجليزي هو الذي عاش، بالفعل، ردحا من أيامه في الولايات المتحدة وبعضها في كندا، وأنه أسوة بزميليه ويليام فولكنر وسكوت فيتزجيرالد أغري ذات يوم بالعمل في هوليوود، ولكن ككاتب سيناريو، دون أن تلتفت هوليوود باكرا إلى روايته الكبرى « تحت البركان». ونقول باكرا، لأن جون هستون، المخرج الأميركي الكبير الذي عرف باقتباساته الفيلمية عن الأدب الكبير، حقق في أخريات سنينه فيلما رائعا انطلاقا من تلك الرواية، فيلما أعاد لوري وأدبه إلى واجهة الأحداث.

لقد شبه لوري، دائما، بأرنست همنغواي، ولكن، في حين كتب هذا الأخير خلال حياته روايات جميلة وجيدة، فان أيا من أعماله، على توازن مستواها، لم يعتبر أبدا مأثرة أدبية كبرى من مآثر هذا القرن. أما «تحت البركان» فإنها مأثرة أدبية حقيقية من المؤسف أن كاتبها لم يعرف كيف يضع مأثرة غيرها رغم تأليفه لعدة كتب وروايات أخرى، ومن هنا سيظل لوري يعتبر «مؤلف عمل كبير واحد» وهو لئن اعتبر واحدا من كبار كتاب الرواية الذين أنجبهم القرن العشرين، فإنما يعود ذلك إلى روعة تلك الرواية وحدها.

ولد مالكولم لوري العام 1909 في مدينة بيركنهيد الانكليزية، وأبدى منذ صغره ولعا بالبحر وكراهية للمدارس. ومن هنا لم يكن غريبا أن ينخرط في البحرية وهو بعد في السابعة عشرة من عمره، ويسافر إلى شتى الاصقاع وصولا إلى الشرق الأقصى حيث شهد اندلاع الثورة الصينية وأصيب برصاصة في ساقه. ولقد كانت تلك الاصابة سببا لعودته إلى الدراسة ما أن رجع من سفره الطويل، فالتحق بجامعة كامبريدج ونال دبلوم الدراسات الفنية في الوقت الذي راح فيه يتجول في أوروبا طولا وعرضا ويكتشف في نفسه توقا للكتابة (كسفر من نوع آخر كما قال هو نفسه).

من المكسيك إلى هوليوود

في 1932 كان لوري في الثالثة والعشرين حين نشر روايته الأولى «اولترا مارينا» وتزوج للمرة الأولى، وبدأ ادمانه على الكحول واهتمامه بالابتعاد جديا عن بريطانيا فتوجه إلى نيويورك وباريس وبدأ يوجد لنفسه مكانة في العاصمتين اللتين كانتا في ذلك الحين عاصمتي الثقافة العالمية دون منازع. كانت تلك المرحلة هي المرحلة التي قادته إلى هوليوود، لكنه سرعان ما سئم العمل هناك كـ «مرتزق» فبارح هوليوود متوجها إلى المكسيك، حيث ولدت لديه فكرة روايته الكبرى «تحت البركان». غير أنه عاد من المكسيك مباشرة إلى هوليوود مذعنا وهناك تعرف إلى مرغريت بونر التي أضحت زوجته الثانية وسنده الرئيسي. وأقام الإثنان في كندا، طوال السنوات التي اشتغل فيها على روايته الكبرى التي أصدرها في 1947 فحققت من فورها نجاحا لم يتنبه له لوري كثيرا، لأنه في ذلك الحين بالذات كان قد غرق نهائيا في إدمانه الذي سيقضي عليه بعد ذلك بعشرة أعوام عاشها بين كحول وسفر وأزمات نفسية. وكل هذا تواصل لديه حتى 1953 حيث عاد ليستقر نهائيا في قرية انجليزية هادئة هي التي مات فيها العام 1957 مكللا بالمجد بسبب تلك الرواية الاستثنائية التي أثارت حماسة النقاد والقراء في كل بلد ترجمت إلى لغته، حيث اعتبرت رواية «إنسان القرن العشرين دون منازع» حسب تعبير الناقد موريس نادو الذي كان من أول الذين عرّفوا بمالكولم لوري في فرنسا. مهما كان فان نادو يقول إن أسوأ ما في «ما تحت البرلكان» هو أنها القت بظلها الكثيف على أعمال أخرى لمالكولم لوري كانت تستأهل مصيرا أفضل من المصير الذي انتهت إليه، في ظل الرواية الكبرى. ومن هذه الأعمال «اولترامارين» بالطبع، ولكن أيضا «لونار كوستيك» و«مظلما مثل القبر الذي يرقد فيه صديقي» ثم خاصة كتابه الأخير: «إسمع صوتنا أيها السيد».

المزيد من ثقافة