Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

نوري الجراح يغوص في قلب المأساة السورية... بنفَس ملحمي وغنائي

ديوان "لا حرب في طروادة" يستعيد رموزا اسطورية

الشاعر السوري نوري الجراح (يوتيوب)

مجموعة شعرية جديدة بعنوان" لا حربَ في طروادة" صدرت حديثاً  للشاعر السوري نوري الجرّاح، عن دار المتوسّط، وهي تضاف إلى العديد من أعماله الشعرية من مثل "الصبي"، و"مجاراة الصوت" و"كأس سوداء" و"القصيدة، القصيدة في المرآة"، و"طفولة موت"، و"صعود أبريل"، و"حدائق هاملت"، و"طريق دمشق"، و"الحديقة الفارسية" و"يوم قابيل"، و"يأس نوح"، و"مرثيات أربع"، و"قارب إلى ليسبوس"، إضافة إلى مختارات من قصائده التي صدرت مترجمة إلى لغات أجنبية كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والهولندية وغيرها.

ولكن قبل الكلام على مجموعة الشاعر الجديدة (لا حرب في طروادة) لا بدّ من الإشارة إلى أنّ صوت الشاعر الجرّاح في المأساة السورية، المتمادية فصولاً منذ ما يقارب العقد من السنوات، بدا بارزاً بل صارخاً في برّية العالم ومنتدياته، وكانت مجموعته الشعرية "قارب إلى ليسبوس" وقبلها "مرثيات أربع" و"يوم قابيل"، تجسيداً شديد التأثير لملامسته العميقة معضلة النزوح السوري عبر البحار، والموت الجماعي غرقاً في لجّتها بعيداً من شاطئ الأمان الأوروبي، أو الخلاص بفضل قارب يمدّه لهم أحد جيرانهم الطرواديين، في أوائل القرن الواحد والعشرين، فتنجو أرواحهم، ونعمَ النجاةُ من جهنّم الحرب والمنتفعين منها في وطنه الأم، على ما يقوله الشاعر: "لم أكنْ في دمشق / لم أكنْ في شارع / ولا في متجر / لم أكن في محطّة / ولا في شرفة تطلّ على قطار / لم أكن مسرعاً ولا مبطئاً / أبعدَ من يدي، كنتُ ومن عيني الغريقة في الزمن راقداً على قلقٍ في تراب الموعد/ ويدي تنزفُ".

إذاً، يتّخذ الشاعر الجرّاح، من مأساة بلاده وتجربته الشخصية فيها، المادة الأولى لكتابته الشعرية بعد أن كانت، قبيل الحرب، تتمحور حول معاناة إنسان ضائق بالوجود وباللامعنى السّائد زمنه، والمعتصم بحبل الحبّ خلاصاً: "يومَ كان الصمتُ أبيض وصخور البحر صبحَ هارب... يومَ أحملُ حياتي حمولةَ شخصٍ يشقّ نهاره بالفأس/ يومَ كنتُ / يومَ وصلتُ متأخّراً وصرختُ في المطلعِ / ورأيتُكِ غائمةً في الصّور/ يومَ أكسرُ العاصفةَ وأبذرُها/ في ترابِ الممرّ…" (2008).

خصوصيات شعرية

إلاّ أنّ مداخلة المعنى والموضوعات لإدراك خصوصيات اللغة الشعرية لدى شاعر، غزير الإنتاج وعميقه إذ يقول كذلك الذي أنا بصدده، لا أحسبها فعّالة على ما يقول تزفيتان تودوروف "ليست الدوالّ على أشياء (العالم) ولا الأفكار من الكلام الشعري، وإنما هو كلّ الوسائط التي يستخدمها الشعراء وتجعلنا ندرك ماهية هذا الكلام (الشعري)، من مثل: الصور الشعرية، وألاعيب الزمان والمكان، والمعجم الفريد، والنعوت، والانزياحات والتسميات الشعرية، والتناغمات اللفظية (الجرس)، والترادف، والتجانس، والقوافي، وتفكيك الكلمة ...". أما أنا القارئ فأضيف إلى الأخيرة، آليات الترميز التي يعتمدها الشاعر الجرّاح، في كتابه واستخدامه الأساطير وشخصياتها لإضفاء المزيد من التغريب أو التبعيد، على منهج بريشت الدرامي، وتنويعه بين بنية النشيد وبين القصيدة، وبين الإيقاع الخفيّ والبيّن، وبين الإيقاع الداخليّ الذي توفّره الصيغ والتراكيب الجمَلية التي تتشكّل منها الأسطر الشعرية.

وليس يعني كلّ ذلك أنّ ثيمة الهجرة والتهجير والتشرّد وموت الكائن السوري هرباً من الحروب والطغيان هي موضوعات لا يُعوّل عليها لتقييم شعر الجرّاح ونقده، وإنما لا يمكن أن تعدّ معياراً وحيداً للحكم على طبيعة اللغة الشعرية التي صيغت بها الموضوعات وباتت في مجموعة شعرية وأكثر. ومن أجل ذلك أحاول أن أعالج كلّ مظهر من مظاهر لغته الشعرية، على حدة، طمعاً في تكوين تصوّر عام، وموضوعي قدر الإمكان عن خصوصية أسلوب الشاعر نوري الجرّاح، وعن إبداعيّته الشعرية المتمثلة في كتابه الأخير.

اللافت الأوّل في الكتاب "لا حرب في طُروادة" هو تقسيم المجموعة الشعرية إثني عشر نشيداً، أطلق الشاعر على كلّ نشيد منها تسمية "أنشودة"- ولربما قصد التقليل من الدلالة الدرامية الماثلة في النشيد، والإيحاء ببعض الخفّة الملازمة كلّ صيَغ التصغير على وزن "أفعولة" مثل: ألعوبة، أضحوكة، أرجوزة- وهذا أوّل مسار الانزياح الدلالي المترتّب عن نوع القصيدة الذي يقترحه الشاعر المنشئ، ويكشفه المناخ الدلالي المأساوي والقاتم الذي يلفّ القصائد والمقطعات التي تتكوّن منها كلّ أنشودة (أو نشيد). والواقع أنّ الشاعر لا يلبث أن يؤكّد لعب الانزياح هذا، من خلال العناوين المراوغة، حين وضع عنواناً لأول أنشودة وهو "الملهاة الدمشقية"، وعنواناً فرعياً أصغر، تحته "لسان الجحيم". فكيف تكون ملهاةٌ في جحيم الحرب السورية المتمادية، وهلاك البشر والحجر فيها، وانسحاق إنسانية الإنسان فيها وسلبه حرّيته وأمانه وأرضه وكرامته وفرديّته على ما يوحي به شعر نوري الجرّاح؟

اللافت الثاني في المجموعة الشعرية هو تعدد مستويات الرمز، وتجاور نوعين من الشعر في مدوّنة واحدة مما يغني شعرية النص، ويسهم في تكثير إيحاءات الصور الشعرية المتكوّن منها كلّ مشهد شعري، أو مقطع شعري من المقاطع التي يتشكّل منها النشيد أو الأنشودة. وأعني بمستويي الرمز: الأول والسطحي، ويتمثّل في تنسيب الكلام الشعري لشخصيات من التراث الأسطوري اليوناني، من تلك التي خاضت حرب طروادة من مثل: آخيل، وهوميروس، أبو الإلياذة، وإيكاروس، وعوليس بطل الإلياذة، وسيدوري، وأوديسيوس، وبروميثيوس. أما المستوى الثاني فهو المضامين، بل الخطابات الشعرية التي يبلغ بعضها حدّ الرؤيوية – بمعنى أنّ المشاهد المنقولة في الأناشيد الإثني عشر، والحالات الوجدانية التي تكشف عنها شخصياتها التي تتلبّسها ذات الشاعر، والأجواء الملحمية، التي تعقب القتال والقتل والتشريد، في الغالب، وتبيّن آثارها في البشر والحجر والحيوان ومشاهد الحياة الواقعية، في آن، تحمل على الاعتقاد أنّ الحالة أشبه بساعة الحشر أو بدنو القيامة. "هل قلتُ بالإيماءةِ ما أرعَبَ الكَلماتِ،/ وأوحشَ المتكلّم؟ / هل قلتُ ما لم أقلْ أبداً؟!/ أنا أليعازرُ الطّارقُ بابَ القيامة." (ص:24).

رمزية مضاعفة

لا تراه الشاعر نوري الجرّاح يقنع برمزية أولى، مستفادة من استعارته أصواتاً لشخصيات أسطورية من التراث اليوناني، في غالبيتها العظمى، ومن التراث المسيحي والتوراتي بصورة عامة، وإنما نجده مستخدماً دلالة هذه الشخصيات من أجل تحيينها، (أي العمل على ترسيخها في زمن القول) وتحييزها (أي موضعتها في مكان القول الراهن)، والانطلاق من ذلك كله لبناء وجهة نظر شعرية فريدة. وبهذا المعنى يكون الشاعر قد لامس الآلية التي لطالما اعتمدها الشعراء التموزيون (بدر شاكر السياب، خليل حاوي، أدونيس، يوسف الخال، جبرا إبراهيم جبرا...) في استخدام الرموز الأسطورية بدلالاتها القديمة بغية إثراء لغتهم الشعرية بأمداء غير متوقعة، ولكنّه يتفرّد عنهم بكونه لا يتوانى عن خلط الشخصيات الرمزية من أزمنة عديدة، من التراث اليوناني -الأثير لديه- والتراث المسيحي والعربي والأوروبي، فيوقّعها جميعها في إطار وحالة وجودية تعانيها ذات الكائن الشاعر الدمشقيّ، والمتشبّع من جمالاتها، فيصنع منها جميعاً نسيج لغته الشعرية، المنصهرة على هذا النحو، فيستحقّ التعبير عن جمالات هذا الانصهار، ومآل انكساره أو احتراقه في جحيم الحرب المستعرة.

"وأجلسُ على حجرٍ في المدينةِ، لأروي للدماشقةِ، وهم يكيلونَ الحريرَ بالأشبارِ خاطفينَ أبصارَ الجنوييّن وألبابَ البنادقةِ. وخيالَ القرطاجيين، وأروي للتّركِ والألبانِ والخَرَزِ وحتّى الصّقالبة الذين وصلوا من أقاصي الشّمال، ورسُلَ إليزابيت القادمينَ من بحر الظّلماتِ... ويضيئوا السّنة بفستانها الدمشقيّ؟

وفي الخلاصة،/ بعدَ الجحيمِ، والجحيمِ، والجحيمِ / أأنا أنا؟/ وهمُ صاحبي الّذي لم يصلْ،/ وظلّي الّذي أهديْتُ للطّريق؟/ وما الفرقُ لو كانَ يقاسُ بالأَشْبارِ، بينَ إيثاكا، ورافينا، ودمشقَ التي تحترقْ؟" (ص:28)

صوت هوميروس

اللافت الثالث، في عمل الشاعر نوري الجرّاح، ولغته الشعرية أنه يتأرجح بين نوعين بارزيْن من الشعر، الشعر الملحمي الذي تتولّى روايته إحدى الشخصيات الأسطورية، عبر الضمير الغائب، وينقل من خلاله الشاعر، بصوت هوميروس، على سبيل المثال، مستعظماً فيه أفعال القتل التي تتوالى كأن لا نهاية لها: "سأعتذرُ لكم يا أبطالي الصّرعى:/ "آخيل" بكعبهِ المجنّحِ؛/ "هكتور" بصدْرِهِ الطُّرواديّ العريضْ؛ وأنتَ يا "أغاممنون" بلحيَتِكَ البيضاءَ/ وسيفِكَ المسلّط على رقابِ البحّارةِ الهاربينَ منَ المعركة..." (ص:51). والشعر الغنائي الوجداني العالي النبرة الذي يغلب على ما عداه، ويندفق غزيراً عبر كلّ آليات الترميز وشخصياتها، ليعبّر عن ألمه العميق من فقده بعضاً من هويّته الحقيقية التي كان يوفّرها المكان له، فتراه يستخدم لتلك الغاية أسلوب النفي للإثبات: نفي الوجود الحقيقي في المكان، لإثبات الوجود اللفظي والرمزي، ونفي "الحرب في طروادة" لإثبات الحرب في دمشق، ولتأبين قوافل جثامين الرجال في مدينته، ورمي الآس على الموتى، وما يستحثّه ذلك الشعور من أسى عميم، هو صدى البكائيات المكبوتة، والنحيب الجارح على الأحبة والراحلين من دون وداع إلى أرض غريبة ومضيافة، في آن."نحنُ لسنا هنا، إلاّ أننا أشباحُ منْ كانوا؛/ لسنا منْ عرَفوا أنفسَهم، /ولا من اكتشفوا،/ أو تاهوا، /...نحنُ لسنا هنا." (ص:32).

وأياً يكن القناع الذي ارتداه، سواء أكان إيكاروس، أو البحّار، أو أوديسيوس، أو نرسيس، أو بروميثيوس، فإنّ الشاعر نوري الجرّاح أفلح في تنويع ذاته، من أجل أن تتسع لدفق حالاته الوجودية وانكسارات غربته، وتصوّراته عن العالم وهويّته العميقة، ومكانة الفنّ فيها، وعن الأبوّة والبنوّة، وحضور العناصر الخمسة في تكوين عالمه، وإعلاء الأنا في مقابل الشعر، وكل ذلك من خلال لغة شعرية مخففّة العبارة، وباذخة الحرارة.

أما اللافت الرابع، والذي يشكّل ركناً متيناً في أسلوب الجرّاح الشعري، فهو الإيقاع الداخلي المبنيّ بدوره على ثنائيات متكاملة وضدّية، حيناً بعد آخر، تتراوح بين الحبّ والحرب، والحضور والغياب، والحياة والموت، وبين الشرود والإقبال، والمرح والحزن، وما يقع بينها من حالات يترجمها معجم دقيق وكثير الإيحاء وصور من المجاز والبديع ثرّة.

"الرّوحُ شبحٌ يطاردُ شخصاً في ازدحامٍ مشبوه،/ الروّحُ منزلٌ غائمٌ /الرّوحُ فأسٌ في غابةٍ". (ص:124) أحسب أن نموذج القصيدة الوارد هنا، والقائم على صيغتي التكرار والتداعي، لا يقوم في أغلب القصائد التي يتشكّل منها الكتاب، والتي غالباً ما تعتمد في بناء قصيدة النثر. وهذا يعني أن شاعرنا، نوري الجرّاح، متمرّس في إخراج عالمه الشعري، بفضل آلياته ووسائطه الكثيرة التي انصهر فيها فنّ الدراما، بأعلى مقامات الشعر الوجداني الغنائي الصافي، وأفلح، فوق ذلك، في إخفاء لمساته الإيقاعية التي جعلت شعره يدنو من إيقاع التفعيلة ولا يتماهى به، بفضل جرس الكلام الشعري، وإصرار الشاعر على تحريك كلّ الكلام الشعري، وحثّ القارئ، بالتالي، على التفاعل مع نغمات الحركات، والتفاعل مع المدّات الغالبة في القصائد والمطيلة أنفاس قارئيها، على حد قول أبي نواس.

"فتيانٌ يتمدّدونَ الآنَ صرعى على صِراطٍ يتلألأُ بدمائهمْ،/ وآباءٌ يتفحّصونَ الجراحَ في الأبدانِ،/ ومنشداتٌ على أطلالٍ محترقةٍ،/ وبكاءُ أشجارٍ صغيرةٍ/ ونحيبُ سَواقٍ:/ يا رائحينَ إلى دمشقْ،/هاتوا دمشقَ بلمسةِ المنديلْ،/هاتوا القمرْ بالمكحلهْ،/والشّمسْ بالقنديلْ./أنا أليعازَرُ... الطّائفُ بقدميْنِ مجرّحتيْن على صخورٍ ابتلعتْها الأمواجُ / في لُجَجِ تُبْرُق، رأيتُ الخطوةَ الغريقةَ،/ والفادي،/ رأيتُهُ مسجّى،/ وعرائسُ البحرِ هائماتٌ بهالَتِهِ." (ص:19)

المزيد من ثقافة