عادت وسائل الإعلام الاقتصادية إلى التحذير من احتمال الركود في 2020 بعدما مرت سنة 2019 من دون أن يحدث الركود الاقتصادي العالمي الذي كان الكل يخشاه. وينطبق ذلك على تحذيرات أخرى تتعلق بالاقتصاد العالمي من مخاوف لم يتحقق منها شيء.
طغت العناوين الاقتصادية المثيرة خلال العام، حتى في وسائل الإعلام غير المتخصصة، مع صدور الأرقام ربع السنوية للاقتصادات الرئيسة أو تقارير النظرة المستقبلية للمؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي ومستشاري الاستثمار في المصارف والمؤسسات المالية.
ورغم أن أزمة فقاعة الدين العالمي وتأثير احتمال انفجارها على سوق الائتمان تمثل تخوفاً منذ أكثر من عامين، فإن التوقعات زادت خلال 2019 بأن العالم على وشك التعرض لأزمة أكبر من الأزمة المالية في 2008 نتيجة انكماش هائل في سوق الائتمان.
وزاد من تلك التوقعات ارتفاع حجم الدين العالمي إلى نحو 250 تريليون دولار، القدر الأكبر منها ديون شركات وأفراد ومؤسسات مقارنة بنسبة الديون الحكومية، إذ لا يزيد الدين الحكومي عن ثلث إجمالي الدين العالمي تقريباً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فقاعة الدين
وفي سبتمبر (أيلول) الماضي، حذَّر بنك التسويات الدولية (الذي يطلق عليه البنك المركزي للبنوك المركزية في العالم) من مخاطر فقاعة الدين بشكل جعل كثيرين يتخوفون من انفجار فقاعة الدين ودخول العالم في أزمة. وقد ركز التقرير ربع السنوي للبنك على الديون الرديئة في النظام المالي العالمي.
وحسب ذلك التقرير، لم يزد حجم تلك الديون الرديئة عن نحو 1.5 تريليون دولار، وهو قدر ضئيل مقارنة بحجم الدين العالمي كله، ولكن ما أثار المخاوف هو التحذير من عودة مشتقات ديون إلى السوق تهدد بأزمة، وتحديداً ذكر التقرير أن "النمو المتسارع في قروض رهن الدين
وشهادات ضمانات القروض الرهنية يشبه إلى حد كبير التطورات في سوق الرهن العقاري الأميركية وسوق شهادات ضمانات القروض ما قبل الأزمة المالية العالمية".
وهذا ما جعل مؤسسات التصنيف الائتماني الرئيسة وغيرها من المؤسسات والمصارف الاستثمارية وشركات الاستشارات تتخوف من انفجار فقاعة دين كما حدث في 2008 وأدى إلى الأزمة المالية العالمية، لكن ذلك لم يحدث لعدة أسباب، رغم حقيقة أن النمو الاقتصادي العالمي ليس جيداً.
السبب الأول أن نسبة الزيادة السنوية في حجم الدين العالمي في العام الماضي تعد الأصغر منذ 15 عاماً، كما أن البنوك المركزية في الاقتصادات الرئيسة اتخذت كل ما يمكنها من احتياطات على مدى السنوات العشر الماضية لتفادي المخاطر التي أدت إلى أزمة 2008.
وبما أن ما يقارب نصف الدين العالمي يعود إلى البنوك والقطاع المصرفي، فإن من بين الإجراءات التي اتخذتها البنوك المركزية إلزام المصارف بزيادة احتياطي التحوط لديها لمواجهة أي طارئ ائتماني. ومن جانبها، شددت المصارف والمؤسسات المالية شروط الإقراض خصوصاً للشركات والأعمال.
والأرجح أن تتردد هذه المخاوف مجدداً خلال هذا العام، وما إن يصدر تقرير من هنا أو هناك حتى تعود عناوين رئيسة في الأخبار تتحدث عن احتمال "انفجار فقاعة الدين" ودخول العالم في انكماش ائتماني يقود إلى أزمة كبرى. ويصعب بالطبع توقع إن كانت مشكلة الدين العالمي ستنتهي بانفجار قريباً أو أنها ستستمر في الغليان أكثر بمشكلة سندات جديدة.
إنما المؤكد أن هناك فقاعة دين في النظام المالي العالمي، وأنها تغلي منذ فترة ومستمرة في الغليان وهو وضع "غير مستدام".
النمو والركود
التخوف الأهم والأكبر الذي لم يتحقق في العام المنتهي هو ركود الاقتصادي العالمي. وما إن انتهت السنة حتى بدأت التوقعات فقط تغير العام لتتحدث عن احتمالات الركود في 2020.
وهناك عامل مهم في إثارة تلك المخاوف لا يتعلق فقط بأرقام نمو الناتج المحلي الإجمالي الفصلية للاقتصادات الرئيسة، ولا أرقام الإنفاق الاستهلاكي أو الناتج الصناعي أو ما شابه فحسب.
ذلك العامل هو أقرب إلى العامل النفسي، مع اعتياد الجميع الحكمة الاقتصادية التقليدية المتعلقة بما يسمى "الدورة الاقتصادية" في الاقتصادات الرأسمالية، فالمعتاد أنه مع أي أزمة ينكمش النمو ثم يأخذ في الزيادة إلى أن يصل إلى قمته ثم يدخل الاقتصاد في ركود، بشكل تصحيحي أو نتيجة أزمة مسببة، لتعود دورة الهبوط والصعود في مؤشر نمو الناتج المحلي الإجمالي.
ومع النمو الذي يعقب الركود ترتفع قيمة الأصول بشكل متضخم ويُقبِل الكل على الاقتراض لتغذية التوسع طالما الاقتصاد ينمو، وكل ذلك يولِّد "فائضاً" يصل إلى حد الضرر، ويكون التخلص من ذلك الفائض، بمعنى إزالة المغالاة في قيمة الأصول وضبط الائتمان، عبر ركود ثم انتعاش وهكذا.
وغالباً لا تتجاوز تلك الدورة بضع سنوات تقل عن العقد، والمنطقي أن تقصر بمرور الوقت، لكن ما حدث بعد الأزمة المالية العالمية في 2008 لم يكن على هذا النمط، فها نحن نتجاوز العقد ولم تحدث أزمة ولم تنته الدورة الاقتصادية بركود.
وهناك عدة عوامل جعلت هذا التخوف لا يتحقق، منها:
الرئيس الأميركي دونالد ترمب وسياساته الاقتصادية الخارجة عن النمطي جعلت الاقتصاد الأميركي يواصل النمو بمعدلات جيدة نسبياً تقترب من متوسط نمو الاقتصاد العالمي. وبما أن الاقتصاد الأميركي هو قاطرة الاقتصاد العالمي، ليس فقط لأنه الأكبر، لكن لأنه أيضاً الأكثر مرونة وقدرة على توفير سعة إضافية، فقد خرج قطار الاقتصاد الأميركي عن قضبان السكة الاقتصادية للدورة الاقتصادية.
الحروب التجارية التي بدأها ترمب مع شركاء أميركا التجاريين، وفي مقدمتهم الصين، رغم أنها أثرت سلباً على نمو التجارة والناتج الصناعي في كثير من الدول، ومن ثم على النمو الاقتصادي عموماً فإنها تكاد تكون "خففت" من احتمالات النمو القوي الذي يؤدي إلى ركود. أي أنها لعبت دور "المهدئ" الذي أطال أمد الدورة الاقتصادية.
استمرار انخفاض أسعار الطاقة، أو على الأقل عدم ارتفاعها نتيجة الأزمة في أسعار النفط منذ نحو خمسة أعوام، ما حافظ على معدلات التضخم متدنية وأسعار الفائدة في أدنى مستوياتها في الاقتصادات الرئيسة.
ومع نهاية 2019 كانت الولايات المتحدة توصلت لاتفاقات تجارية جديدة مع كندا والمكسيك وانتهت من اتفاق مرحلي مع الصين. وبدأ الضغط السلبي على النمو الاقتصاد العالمي يقل بما يعني أن توقعات نمو الاقتصاد في المتوسط ستكون في حدود 3%، وربما تزيد قليلاً. كما جاءت أرقام النمو في الاقتصاد الصيني معقولة عند 6.1%. ورغم أنها نسبة النمو الأقل في ثلاثة عقود تقريباً، فإنها تعني أن ثاني أكبر اقتصاد في العالم يمر بمرحلة توازن. وتظل النسبة أفضل من توقعات متشائمة بأن تكون دون 6%.
وبالطبع سنظل نرى العناوين الرئيسة التي تتحدث عن مخاوف ركود في 2020 كلما صدرت أرقام تبدو سلبية في أي من الاقتصادات الرئيسة، لكن ذلك لا يعني أن الركود قادم هذا العام.
أوبك كبحت العجز في السوق
ومن المخاوف الأخرى التي ترددت في 2019 ولم تتحقق، ما وصفه البعض بأنه "نهاية أوبك"، أي مجازاً تراجع شديد لدور منظمة الدول المصدرة للبترول في سوق الطاقة العالمي. ولم يحدث ذلك، وتمكنت المنظمة بقيادة السعودية في تطوير دورها بالتحالف مع منتجين ومصدرين للنفط من خارجها، على رأسهم روسيا.
فبعد انهيار أسعار الخام في صيف 2014 نتيجة فائض المعروض النفطي الكبير في السوق، اتفقت "أوبك" مع منتجين من خارجها على ضبط معادلة العرض والطلب، ونجح التحالف منذ 2016 في ضبط السوق إلى حد كبير والحفاظ على سعر البرميل في نطاق 55-65 دولاراً للبرميل.
ومع أن إنتاج النفط الصخري الأميركي ظل يصعد حتى نهاية 2019، فإنه وصل الآن إلى قمة المنحنى تقريباً. وحافظ التفاهم السعودي الروسي على مستوى معقول للأسعار من دون خسارة كبيرة لحصة في السوق لصالح منتجين جُدد.
ويبدو هذا التحالف الآن مرشحاً للاستمرار بل والتعزيز في المستقبل، وشهدت نهاية العام اتفاقاً على زيادة معدل خفض الإنتاج بنصف مليون برميل يومياً إضافية لتفادي إغراق السوق. وتستمر موسكو والرياض في التنسيق فيما بينهما وإشراك بقية أعضاء "أوبك" والمنتجين من خارجها المتحالفين معها لتطوير هذا التحالف.
ورغم كل الأسباب التي سيقت لتبرير المخاوف من زيادة مصادر الطاقة المتجددة ودخول منتجين جُدد للنفط والغاز، فإن النفط يظل "الدينامو" الرئيس المحرك للاقتصاد العالمي على الأقل في المدى القصير والمتوسط، ومن ثم لن تنتهي "أوبك" كما توقع البعض نتيجة تلك المخاوف في 2019.
بالطبع لا يعني ذلك أن المنظمة لن تتطور، بل وربما ينتج عن التحالف الحالي بين "أوبك" والمنتجين من خارجها إطار جديد، لكنه سيظل مستنداً بالأساس إلى المنظمة.