خلال الحرب بين العراق وإيران في الثمانينات ساعدت الولايات المتحدة الطرفين، وهي تراهن على أن تنتهي المواجهة بطرفين خاسرين. وكان في البيت الأبيض مَن أنجده صديق له بشطر من بيت شعر عربي يعزز هذا الرهان، "تموت الأفاعي من سموم العقارب".
اليوم، يبدو المشهد مختلفاً في الصراع الأميركي-الإيراني. إدارة الرئيس دونالد ترمب تقول إنها استعادت "قوة الردع" حيال إيران باغتيال قاسم سليماني. وجمهورية الملالي تقول إنها حققت "قوة الردع" مع أميركا بالقصف الصاروخي المباشر على قاعدة "عين الأسد" التي تضم قوات أميركية في العراق. فهل دخلت المنطقة مرحلة "الردع المتبادل" بين أميركا وإيران؟ هل هناك شيء ثابت إسمه "ستاتيكو الردع المتبادل"، مثلما يوحي الوضع بين "حزب الله" وإسرائيل منذ حرب عام 2006؟ وإلى أي حد يمكن الحفاظ على هذا "الستاتيكو" حين تحدد طهران هدفها الجيوسياسي بإخراج القوات الأميركية من غرب آسيا، وتمارس واشنطن "الضغط الأقصى" الإقتصادي على إيران لتغيير سلوك النظام ودفعه إلى التفاوض؟
حرب لم تقع
طرفان منتصران في حرب لم تقع؟ الإنطباع في واشنطن مختلف. هذا ما اختصره ماكس فيشر في تحقيق نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، بأن أميركا وإيران في "لعبة بلا رابحين". لا بل أن داليا داسا كاي مديرة "مركز سياسة الشرق الأوسط في مجموعة راند" ترى أن المعادلة هي "خسارة – خسارة"، فالتجربة كشفت محدودية "النظرية الصفرية" في الصراع. والتصعيد مرشح لأن يترك الطرفين في "وضع اسوأ". ومن طبائع الأمور أن يدافع وزير الخارجية الأميركي السابق جون كيري عن الإتفاق النووي الذي كان عرابه والمفاوض الرئيسي فيه مع وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، وأن يرى كل المشكلة منحصرة في الإنسحاب من الإتفاق. لكن كيري الذي تحدث عن "هدية ترمب إلى متشددي طهران" بقي يدور ضمن التصور الغربي التبسيطي الذي يراهن على تقوية المتعدلين بوجه المتطرفين، علماً أن كل السلطة تبقى للمرشد الأعلى علي خامنئي. وانتقد كيري لجوء ترمب إلى استخدام القوة بعد نجاح الدبلوماسية بعكس القاعدة القائلة باستخدامها بعد فشل الديبلوماسية. وبدا ساخراً منه بالقول إن سياسته الخارجية "تعتمد على نظام غير موثوق فيه بأن يكون عاقلاً لإنقاذ ترمب من نفسه".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
محاذير إيرانية
والتناقضات ليست قليلة ولا بسيطة في جمهورية الملالي. فهي تخاف من حرب شاملة مع "الشيطان الأكبر"، لكنها تجيّش شعبها بشعار "الموت لأميركا". وتراهن على الداخل الأميركي لتكبيل يديّ ترمب مستفيدة من الإنقسام السياسي ومن المعادلة الثابتة في حروب أميركا منذ عام 1945 في كوريا وفييتنام وأفغانستان والعراق. إذ تبدأ هذه الحروب، كما يقول الدكتور هنري كيسينجر، بـ "دعم من الحزبين والشعب، ومع تطوراتها يعود الإنقسام ويبدأ البحث عن استراتيجية خروج"، لا بل أن إيران، التي تفيد أرقام البنك الدولي لعام 2019 بأن نسبة النمو فيها سجلت 8,7 في المئة سلبية، تكرر تجربة الإتحاد السوفياتي بدل أن تقلد الصين. تنفق الكثير على البرنامج الصاروخي والقوة العسكرية وعلى وكلائها في المنطقة كما فعل الإتحاد السوفياتي من دون أن تتصور إمكانية أن ينهار النظام كما إنهار النظام السوفياتي تحت ضغط الأزمات الإقتصادية والإجتماعية. وتبالغ في إظهار قوتها على عكس الصين التي طبقت نصيحة دينغ شياو بينغ "خبئ قوتك وانتظر وقتك"، إذ تكرر المفاخرة بأنها تحكم أربع عواصم عربية. وتجمع وكلاءها في قمم لبدء تطبيق "أمر عمليات" من أجل طرد القوات الأميركية من دون أن تحسب أن هؤلاء يعملون وسط خطر أزمات سياسية واقتصادية في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
سوابق صعبة
ومن الصعب أن تتكرر السابقة، أي أن يقود اغتيال قاسم سليماني إلى إخراج ثمانين ألف جندي أميركي من غرب آسيا كما قاد اغتيال رئيس الحكومة اللبناني السابق رفيق الحريري إلى إخراج القوات السورية من لبنان. فما فعل فعله في إخراج السوريين كان تجمع عوامل قوية: إدانة محلية وعربية ودولية للجريمة، قرار أميركي-فرنسي بإنهاء الوصاية السورية على لبنان صار جزءاً من قرار دولي في مجلس الأمن، وتلاقٍ سياسي وشعبي مسيحي – سني – درزي على "الإستقلال الثاني" بعدما عجز المسيحيون وحدهم على مدى سنوات عن إخراج السوريين.
وما حدث بعد اغتيال سليماني هو غضب ضمن "الهلال الإيراني" من دون مواقف دولية مدوية. وإذا كان الهدف المباشر والمفترض هو إخراج القوات الأميركية من العراق لترتاح إيران في تمتين نفوذها، فإن الفصائل والأحزاب الشيعية هي التي صوّتت في البرلمان على القرار بغياب الممثلين للسنة والكرد. فضلاً عن أن الشباب الشيعي في النجف وكربلاء والناصرية وبغداد هو الذي يقود الحراك الشعبي ضد الطبقة السياسية في العراق والنفوذ الإيراني. وفضلاً عن أن إسقاط الطائرة الأوكرانية في طهران وعلى متنها 179 راكباً لقوا مصرعهم، فجّر تظاهرات صاخبة في العاصمة وجامعاتها ومدن أخرى تهتف ضد "الديكتاتور" و"الحرس الثوري" وتمزق صور خامنئي وسليماني.
والأرض متحركة حيث يقف ترمب، كما حيث يقف النظام في كل "الهلال الإيراني".