Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مقاربة ثقافية للرقص الشرقي تناهض النزعة الاستشراقية

المصرية شذى يحيى على خطى إدوارد سعيد في كتابها "الامبريالية والهشك بشك"

الراقصة المصرية تحية كاريوكا (يوتيوب)

ترى الباحثة المصرية شذى يحيى في كتابها "الإمبريالية والهشك بشك: تاريخ الرقص الشرقي" الصادر حديثاً في القاهرة عن دار ابن رشد، أن بعض قصص "ألف ليلة وليلة" شكلت الصورة الأولى للمرأة الشرقية في أوروبا عممت عنها أفكاراً ترتبط بالخيانة والتهتك والعشق...

وتشير يحيى إلى أن الغرب الاستعماري وظف كل أدواته الثقافية لتثبيت هذه الفكرة التي تعطي شرعية للاحتلال والاستغلال، وكانت الراقصة هي الصورة الأكثر سهولة وشعبية لتحقيق هذا الهدف. لذلك شهدت مرحلة المد الاستعماري ترويجاً لهذه الصورة التي اختصرت الرقص الشرقي في صورته الشائعة كفن مرتبط بالغرائز، وأصبحت صورة الراقصة رمزاً استعمارياً وعنواناً لنساء الشرق خلال الحقبة الاستعمارية.

وعلى الرغم من أن "ألف ليلة وليلة" لم تحفل بالراقصات إلا في أضيق الحدود، إلا أن الأوروبيين عندما أتوا إلى الشرق كانت لديهم فكرة مسبقة أنّ خلف مئات البيوت المغلقة تقبع آلاف النساء الشهوانيات. وصاغ الرحالة الأوروبيون الأوائل مئات الصور التي جاءت في صالح النزعة الغربية التوسعية التي صورت الشرق كإمراة، واستخدمت هذه الصورة للمرأة في تبرير هيمنتها على أرض امتلأت بالخيرات.

تتكئ الباحثة  على كتابات المفكر الفلسطيني البارز إدوارد سعيد، وبخاصة كتابه "الاستشراق"، لتحليل مكونات الخطاب المعرفي الاستعماري، وتتابع مع تلاميذه من نقاد مدرسة ما بعد الاستعمار لتفكيك الصورة التي يسعى الغرب لتثبيتها عن الشرق. وتبحث في الكيفية التي اخترع بها الغرب صورة "الرقص الشرقي" في إطار اختراعه لصور الشرق الآخر من خلال مناهج ما بعد الكونيالية. ويبدو الكتاب أقرب في منهجيته لدراسات النقد الثقافي من حيث العمل على أكثر من مسار بشكل بيني.

صور متخيلة

تكشف المؤلفة أن الرقص الشرقي شكّل منذ حملة نابليون بونابرت على الشرق عام 1798 إطاراً معرفياً للتفاعل الثقافي بين الشرق والغرب، على مستوى فنون الصورة والأداء والأدب، فالاستشراق في عمومه هو تمثيل وإعادة تشكيل مشوّه لحقيقة الشرق.وتتابع المؤلفة سيرة فريدة مظهر، وهي راقصة مصرية سافرت إلى شيكاغو وقدمت عروضاً راقصة عام 1893، وحملت اسم "مصر الصغيرة" في وسائل الإعلام الأميركية، وحافظت على صورة فنانة محترمة تؤدي فناً مبهراً للغرب، وعندما توفيت شيعت جنازتها بشكل مهيب.

وتقول يحيي إن رؤية صورة الراقصة ظلت تؤدي على الرغم من ذلك الى تداعي مئات الصور المتخيلة من حريم "ألف ليلة وليلة":"ربما كان الولع بالرقص الشرقي واحتقاره في الوقت نفسه أحد أكثر الأمثلة وضوحاً على التجربة المشتركة التي تجمع بين الشرق والغرب". وتحدد الباحثة ملامح وتعريفات للرقص الشرقي وتميز بينه وبين الرقص الغرائزي، وتشير إلى أن مفردة "الهشك بشك" في العنوان هي للدلالة المستعملة شعبياً على الراقصة اللعوب أو المرأة الماجنة التي جاءت السينما المصرية عبر تاريخها الطويل لتعمل على تثبيتها.

ويحلل الكتاب مكانة الرقص في المجتمع المصري تاريخياً وتجلياته كفن تعبيري في إطار الممارسة اليومية، ويرى أن ربط الرقص بكلمة "شرقي" هو نوع من التنميط الاستعماري للرقص البلدي الشائع في المنطقة العربية للحط من منزلته، وهو تنميط جاء مع شيوع ترجمات كتاب "ألف ليلة وليلة" الذي ترجمه عام 1707 للمرة الأولى الكاتب الفرنسي أنطوان غالان، لكنه شاع أكثر من ترجمة ريتشارد بروتون الإنكليزية في منتصف القرن التاسع عشر، وساهم في تعزيز الخطاب الاستعماري لأنه هو الذي بنى صورة الشرق في المخيلة الغربية.

وتشير شذى يحيى في كتابها المهم إلى أن أذهان المستشرقين تسابقت في سياق إيجاد مشروعية استعمارية، والكشف عن الشبقية والشهوانية لدى الشعوب الشرقية، واعتبر الرقص تعبيراً ماثلاً عن الاستبداد والقمع الذكوري للمرأة بقدر ما هو تعبير عن شهوانية الشرقيين عموماً. وكان  أيضاً تعبيراً عن جزء من النظرة الاستعمارية التي تغذي الفكر التوسعي الغربي.

فضول أنثروبولوجي

وعلى الرغم من أن بعض كتابات الرحالة أظهرت التقزز من مظهر الراقصة، إلا أنه في المقابل كان هناك إصرار على تضمينه في الأدبيات التي تناولت الشرق، لإظهار كيف كانت حياة المجتمعات الشرقية قبل أن تتخذ النمط الغربي سبيلاً لبلوغ الحداثة ومواكبة العالم المتمدن.

وإجمالاً كان الرقص وسيلة لتحفيز الفضول الانثرولوجي ودغدغة المشاعر الإروتيكية وإرساء القوالب النمطية التي وضعت حجر الأساس للعلاقة المعقدة بين الحجاب الاجتماعي وبين تعري الراقصة. ويحلل الكتاب كذلك نظرة مثقفي العالم العربي للرقص الشرقي وممارساته التي انطلق بعضها من منظور دفاعي ومن رفض للمنظور الاستشراقي، لكنه يتأرجح بين الإدانة المجتمعية والنزعة القومية.

وتتوقف الباحثة أمام صورة جديدة للراقصة أوجدها أداء الراقصة المصرية الشهيرة تحية كاريوكا، التي لم يكن إدوارد سعيد وحده الذي أنصفها بمقال شهير عنها ورد في كتابه "تأملات حول المنفى"، وإنما سبقه المفكر المصري الرائد سلامة موسى (1870- 1958) الذي ميز تحية ووصف "رقصها بالاحترام"، ونقل عن الممثل سليمان نجيب رأيه فيها قائلاً: "تحية لا تنظر إلى أحد وهي ترقص، لكن الكل ينظر إليها"، ربما في إشارة إلى أنها لا تستجدي نظرة الاشتهاء خلال رقصها، في حين رأى إدوارد سعيد أنها "تضع قواعد وأصولاً لممارسة مهنتها كعالمة على أساس من العلم وليس الغازية، راقصة الشوارع التي تستهدف الإثارة الجاهلة". وهذه الصفات فضلاً عن انتماء تحية كاريوكا إلى اليسار، هو ما دفع سعيد إلى وضعها في سياق واحد مع أعلام النهضة في مصر. وعلى الرغم من نجاح تحية محلياً في كسر الصورة النمطية للراقصة اللعوب إلا أنها لم تستطع أن تفعل ذلك على مستوى الغرب، لا هي ولا غيرها من الراقصات اللواتي سافرن إلى أوروبا أو أميركا، لأن النظرة الاستشراقية المشينة للراقصة والتي تقرنها بالتخلف والإثارة الجنسية، لا تزال راسخة إلى اليوم.

المزيد من ثقافة