Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ألغام تنفجر في وجه الإنتليجنسيا الجزائرية

الشعبوية السياسية والدينية أسهمت في زرع قنابل العنصرية والفتنة والجهوية والكراهية

يعاني المجتمع الجزائري أمراضاً سياسية وثقافية وأيديولوجية واقتصادية (أ.ف.ب)

توجدُ قنابل أيديولوجية خطيرة مزروعة في الشارع الجزائري ربما تنفجر بين لحظة وأخرى إذا لم تجد مَنْ يفككها بحكمةٍ!

بعض أولياء التلاميذ يُرجعون الكتب المدرسية الخاصة باللغة الأمازيغية، ويرمون بها أمام مدخل المدرسة، والأمازيغية لغة وطنية رسمية كما نصّ على ذلك دستور البلد.

أصواتٌ تستنكر الاحتفال بعيد يناير (كانون الثاني) الذي يصادف رأس السنة الأمازيغية، وهو يوم عيد وطني، وعطلة رسميّة مدفوعة الأجر، وتكفّر المحتفلين به!  

مواقف تدعو إلى الحيرة، للسؤال والتأمل.

ما يثار هذه الأيام في الجزائر على مستوى شبكات التواصل الاجتماعي، التي أصبحت تصنع الرأي العام بديلاً عن الصحف ووسائل الإعلام الأخرى من إذاعات وقنوات تلفزيونية، -ما يثار- من نقاشات حول "الهُوية" و"الجهوية" و"اللغات" و"التنوّع الثقافي" يدعو إلى القلق، لما يتضمنه بعض الخطابات المشاركة في النقاش من عنصرية وكراهية ورفض المختلف، ورفض التنوّع.

إن كثيراً من أصحاب هذه الخطابات العنصرية لا يدركون خطورتها، معتقدين أن المسألة هي "انتفاخ أوداج" و"تبختر لغوي"، جاهلين بأنهم يلعبون بقنابل موقوتة ربما تنفجر في وجوههم في كل لحظة، وفي الوقت نفسه عرّتْ هذه الخطابات الواقع باختلالاته العميقة التي ظلّت مُستترة مدة طويلة.

إن الحديث أو النقاش عن "الجهوية" كفكرة تنظيمية اقتصادية وثقافية وإدارية أو "اللغة" كمحدد للهوية وبوابة للعلاقة مع التاريخ ومع الذات ومع الآخر تحتاج إلى كثيرٍ من "الهدوء"، و"التأمل" المعرفي للتاريخ والجغرافيا البشرية، وتتطلب أيضاً تسلحاً كبيراً بالشجاعة الفكرية بعيداً عن التهور أو الخوف المرضي.

توجدُ عوامل أساسية شاركت في إنتاج هذه الظاهرة الأيديولوجية المَرضية، خلقها الوضع السياسي والتعليمي والثقافي والإعلامي، يمكن المجيء على ذكر بعضها: 

أحزاب المواسم والريع
إن ضعف أداء الأحزاب السياسية الجزائرية، التي لم تستطع وخلال أزيد من ثلاثين سنة منذ انطلاق تجربة التعددية السياسية العام 1989 التي كانت تتويجاً لانتفاضة 5 أكتوبر (تشرين الأول) 1988، -لم تستطع- أن ترافق المجتمع سياسياً، والانتقال به من مرحلة "الحزب الواحد" (الواحدية العقائدية السياسية) إلى مرحلة الانفتاح السياسي.

إذ إن هذه الأحزاب التي عددها أكبر من عدد (أحزاب القرآن الكريم) لم تكن مهيأة أيديولوجياً لمواجهة الشارع الذي خرج من مرحلة (الكابوس) إلى مرحلة (الحلم). الأحزاب السياسية لم تكن تملك برامج واضحة، ولم تكن لها الإمكانيات الفكرية والتنظيمية لمرافقة الأفكار والبرامج التي تدافع عنها.

وحتى بعض الأحزاب التي كانت وليدة جمعيات المجتمع المدني أخذت تبتعد عن هذه الجذوة الاجتماعية الإيجابية، لتتحوّل إلى تنظيمات وهياكل تشبه الأحزاب التقليدية التي تأسست لمواجهتها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لم نسمع عن أحزابٍ نظمت أياماً دراسية مفتوحة على المجتمع، على سبيل المثال، استمعت فيها إلى خبراء أكاديميين في مسألة "الجهوية" أو "المناطقية" أو أدباء وتربويين في مسألة "اللغة" و"التعليم"، وحتى ما يُسمّى بالجامعات الصيفية للأحزاب أصبحت لقاءات باهتة لا صدى لها داخل انشغالات المواطن.

ولم نسمع عن البرلمان بغرفتيه أنه نظَّم نقاشاً سياسياً لمناقشة ما يجري في الشارع من "توجس" جهوي أو لغوي أو اجتماعي أو اقتصادي، وحتى بعض المحاضرات التي كانت تُنظَّم كانت تأخذ طابعاً بروتوكولياً رسمياً، وغير معنية بالمسائل الكبرى مثل الفساد والتداول على السلطة.

الكل ظلّ يغطي الشمس بالغربال، بل إن كثيراً من الأحزاب ظلَّت تبحث عن كيفيات التموقع في أحضان السلطة لاقتسام الريع عن طريق بيع الأوهام الأيديولوجية إلى الشارع والمواطن، وخياطة خطابها المُنتصر على مقاس خطاب السلطة، وهي ما سُميت بـ(أحزاب المولاة)، وأحزاب أخرى تحيك خطاباً في نقض خطاب السلطة حين تكون في المعارضة الشكلية.

لقد أعادت الأحزاب السياسية إنتاج ممارسات جبهة التحرير الوطني، والأحزاب التي حاولت أن تخرج عن هذا المسار صُنّفت بـ(الجهوية)، وحُوصرت في منطقة واحدة، وأمام هذا الوضع استفحلت أمراضٌ سياسية وثقافية وأيديولوجية واقتصادية سمحت بنمو ثقافة "العنصرية" و"الكراهية".

الجامعة من منبرٍ تنويريٍّ إلى حضانة أطفال
لقد كانت الجامعة الجزائرية في مرحلتي الستينيات والسبعينيات مشتلة سياسية حقيقية، ومُدَرّجاً مفتوحاً للمساهمة في صناعة الوعي السياسي، موازاةً مع الدور الأكاديمي والتربوي والثقافي الذي هي فضاءٌ له.

كانت الجامعة مفتوحةً على النقاش السياسي، وعلى العمل الثقافي والفني المسرحي والأدبي والموسيقي والفلسفي. زار الجامعة الجزائرية ودرس فيها وحاضر بها أكبر الأسماء الأكاديمية والعلمية والإبداعية المغاربية والعربية والعالمية، من أركون مروراً بجمال الدين بن الشيخ وعزيز لحبابي ومحمود درويش ومحمود أمين العالم وعز الدين المدني وعز الدين المناصرة وبيير بورديو وأمير إسكندر وبول بالطا.

أمَّا جامعة اليوم، جامعة الألفية الثالثة، فتحوّلت إلى ما يشبه مدارس لمرافقة "الطفولة البالغة" "الطفولة المُسنّة" مدة أربع سنوات، كما أن هيمنة التيار الإسلاموي عليها في فترة التسعينيات وفرضه ثقافة العنف والتخويف على الطلاب والأساتذة زادت من تحجيم دورها، ودفع بها حتى بعد انتهاء هذه المرحلة إلى الارتكان إلى الدور "البيداغوجي" البارد والمفرّغ من كل بعد سياسي، ومن كل تفكير جاد قادر على أن يُحرّك الأسئلة الكبيرة التي تواجه المجتمع.

بهذا الحال، لم تتمكّن النخب الجامعية، وهي في الفضاء الأمثل، من طرح أسئلة حول قضايا تؤرِّق المجتمع  كـ"الجهوية" و"العنصرية" و"اللغات"، بل إنها انخرطت في خطاب توفيقي بغية دفن القنابل "حية"، التي ستنفجر لا محالة ذات يوم في وجه من دفنها فعلياً أو المشاركة في ذلك بصَمتِه.

كما أن المدرسة الجزائرية التي أصبحت رهينة توجه سياسي واحد، وهو توجه إخواني، أي أيديولوجيا الإخوان المسلمين، أسهمت إلى حدٍ كبيرٍ في محاربة التنوّع الثقافي واللغوي في الجزائر، وغرست جملةً من الأفكار المعادية الآخر، وزرعت التشويش في ذهنيات ثلاثة أجيال من أبناء هذا الوطن، لقد شكَّلت المدرسة الجزائرية مصنعاً مرعباً لإنتاج التشويش الأيديولوجي في رؤوس أجيال كثيرة، وهو ما صعّب من حل أزمة الهُوية. 

الإعلام قاطرة خرجت عن السكة
رافق الانفتاح السياسي في الجزائر انفتاحٌ وتعددية في الصحافة المكتوبة خاصة بالعربية وبالفرنسية، وكانت في بداية انطلاقها حاملة مشروع "حرية الرأي"، لكن استحواذ السلطة على "الإعلانات" من خلال "الوكالة الوطنية للإشهار" التي تحتكر الإعلانات، وشروعها في توزيع ريع هذه الإعلانات على جرائد ومنعها عن أخرى، حسب درجة الولاء، جفف منابع تمويل الجرائد الجادة، وأغرقت السلطة السوق بعناوين لا تُقرأ، لكنها تحوز مالاً كثيراً من ضرع البقرة الحلوب "الوكالة الوطنية للإشهار".

وواكب ذلك تضييقٌ على الجرائد الحرة الجادة، وامتلأت السوق بـ"جرائد صفراء" أسهمت بطريقة كبيرة في تزييف الوعي، عن طريق "الاستثمار في الدين" وفي "اللغة" وفي "الوطنية" وفي "الجهوية"، وتراجعت ساحة قراء بعض الجرائد التي ظلت تُسهم في النقاش الجاد حول هذه "القنابل" السياسية والهوياتية والعقائدية.

ومع السماح بإنشاء قنوات تلفزيونية خاصة في الجزائر، حتى وإن كان وضعها القانوني غير واضح، فمن جهة هي قنوات تُغطي ما يجري في البلد ومقراتها بالجزائر وموظفوها جزائريون وإشهارها من الجزائر، إلا أنها على المستوى القانوني تمارس عملها كقنوات تلفزيونية أجنبية.

هذه القنوات أسهمت إلى حدٍ كبيرٍ في تشويه وتزييف الوعي، وهي من أسهم وبشكل كبير في زرع قنابل "الجهوية" و"اللغات" و"الشعوذة"، ومع الأسف ظلَّت السلطة من خلال جهازها "سلطة الضبط السمعي البصري" ساكتةً أمام ما تبثّه هذه القنوات من سموم أيديولوجية جهوية وسياسية ودينية.   

الثقافة بجسورٍ معطوبة
لقد كان المعرض الدولي للكتاب وعلى مدى سنوات عديدة، فضاءً مفتوحاً لمنشورات لطالما أساءت إلى خصوصية الجزائر الإثنية واللغوية والسياسية، وذلك بالسماح لكثير من دور النشر المشرقية، خصوصاً المعروفة بتوجهاتها الأيديولوجية المتطرفة، بتسويق كُتبها التي حملت كثيراً من السموم التي تجرَّعها المواطن الجزائري، وكانت عاملاً أسهم في إشعال نار العشرية الدموية، ولا يزال هذا المواطن حتى اليوم يدفع فاتورة هذه السموم، وهي كُتب تمارس ضرب الخصوصية الجزائرية بتنوعها الثقافي واللغوي والإثني باسم الدين أو القومية أو الدفاع عن العربية.

وعلى الرغم من أن جميع الجوائز الأدبية في الجزائر تكرِّم الإبداع الأدبي باللغات الثلاث: العربية والأمازيغية والفرنسية، مثل جائزة آسيا جبار وجائزة محمد ديب ويمينة مشاكرة وغيرها، فإن هذه الظاهرة الإيجابية لم يرافقها عملٌ ثقافيٌّ وإبداعيٌّ مكثفٌ وممنهجٌ على مستوى المؤسسات الثقافية التابعة إلى الدولة في المسرح والنشر والملتقيات والمهرجانات.

إننا نعتقد أن العمل الثقافي في الجزائر له خصوصيته التي يتميز بها عن الدول المغاربية  والعربية، فالإنتليجنسيا الجزائرية الإبداعية أو الفكرية أو الأكاديمية هي إنتليجنسيا متعددة اللغات، وبالتالي فإن السياسة الثقافية في الجزائر تتطلب كثيراً من الانتباه إلى هذا التنوّع حتى لا نسقط في الإقصاء أو التهميش، فيخلق رد فعل عكسي، وحتى تسكت الأصوات التي تمارس التهييج ضد لغة ما، والتطبيل للغة أخرى.

خواتم
إن الشعبوية السياسية والدينية أسهمت إلى حدٍ كبيرٍ في زرع قنابل "العنصرية" و"الفتنة" و"الجهوية" و"الكراهية" بين أبناء المجتمع الجزائري.

وأعتقدُ أن تفكيك هذه القنابل الأيديولوجية الخطيرة التي تفخخ المجتمع الجزائري برمته، مثل العنصرية والجهوية القاتلة ومعاداة التنوع الثقافي واللغوي والديني، لا يمكنه أن يكون إلا عن طريق عودة "مركزية الدولة"، ومركزية الدولة لا تعني ديكتاتورية السلطة أو النظام، عودتها بمؤسسات قوية مرافعة ومدافعة عن الديموقراطية والعدالة المستقلة والتعددية وحرية الرأي والحرية الفردية والجماعية.

إن التعددية الثقافية هي رأسمالٌ كبيرٌ، على مؤسسات الدولة أن تحميه وتستثمر فيه إيجابياً، فالشعوب كلما تعددت لغاتها وثقافاتها تعددت العبقرية فيها، وساد الذكاء الجماعي بين أبنائها.

والجهوية الإيجابية أو المناطقية لا تعني تفتيت وحدة الوطن، بل تعني إعطاء الفرص لأبناء "الجهة" أو "المنطقة" لمراقبة آليات التسيير الاقتصادي والثقافي والإداري، بما يخدم المواطن البسيط، ويعود على الوطن كله بالخير.

والجهوية أو المناطقية الإيجابية هي السبيل إلى خلق تنافس جاد ومتكامل بين مناطق الوطن الواحد، لأنها الطريق لاستكشاف القدرات الإبداعية في كل المجالات لأبناء وبنات هذه المنطقة أو تلك.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء