"مجموعة لفائف اكتُشفت قبل عشر سنوات في الخرائب الأثرية، الواقعة شمال غربي مدينة حلب السورية، على مقربة من حواف الطريق القديم الذي يربط مدينتي حلب وأنطاكية العتيقتين، اللتين بدأتا تاريخهما قبل التاريخ المعروف، وقد وصلتنا هذه الرقوق بما عليها من كتابات سريانية قديمة (آرامية) في حالة جيدة، نادراً ما نجد مثيلاً لها، مع أنها كُتبت في النصف الأول من القرن الخامس الميلادي، وتحديداً: قبل خمس وخمسين وخمسمئة وألف، من سنين هذا الزمان".
هذه مقدّمة رواية "عزازيل" للكاتب يوسف زيدان، التي تشير إلى محيط قلعة القديس سمعان العمودي التي اكتسبت شهرةً عالميةً تأتت من سمعة القديس نفسه الذي يحتل منزلة رفيعة في حياة الكنائس الشرقية.
لمحة تاريخية
يُعدّ "سمعان العمودي" المبتكر الأول لطريقة التنسّك على العمود الحجري، حيث عاش 37 سنة ناسكاً متقشفاً على عمود في جبل سمعان، وبعد وفاته بُني حول العمود كنيسة تُنسب إلى الإمبراطور زينون بداية العمل على بنائها في عام 476، وسُمّيت باسم "كنيسة مار سمعان العمودي" إحياء لذكراه، ثم أضيف بعد ذلك بسنوات الدير والمعمودية والمدفن كملحقات للكنيسة، إضافة لدور سكن ونزل للحجاج الذين قدموا من بلاد الغال (تشمل اليوم فرنسا وبلجيكا وجزءاً ألمانياً) وإنكلترا وأسبانيا وإيطاليا.
وتحوّلت الكنيسة وملحقاتها من مركز ديني إلى قلعة عسكرية، بعدما بنى حولها القائد البيزنطي "نقفور فوقاس" سوراً وأبراجاً، لتُعرف بـ "قلعة سمعان".
القرى المنسية
تقع أطلال القلعة في إحدى قمم جبل "ليلون" الذي يشكّل الجزء الشمالي من جبل سمعان في شمال غربي حلب، وتعدّ القلعة جزءاً من أكبر تجمّع للمواقع الأثرية في العالم ويُدعى "القرى المنسية في شمال سوريا"، التي أُضيفت عام 2011 إلى لائحة اليونسكو للتراث العالمي، وهي عبارة عن حوالى 800 مدينة وقرية أثرية مهمّة تقع بين مدينتي حلب وإدلب وتمتدّ في جبال الكتلة الكلسية. يعود أغلب هذه القرى إلى القرنين الأول والسابع، وتتميّز بالمناظر الطبيعية والبقايا المعمارية للمساكن والمعابد والكنائس، ويوضح مشهدها الثقافي الانتقال من عالم الوثنية القديم للإمبراطورية الرومانية إلى المسيحية البيزنطية، كما أنها تقدّم شهادة استثنائية عن الحياة الريفية في العصور القديمة وخلال الفترة البيزنطية.
العمارة المسيحية الأولى
جاءت أبنية الكنائس أيام المسيحيين الأوائل استمراراً لطراز البناء الروماني، فحافظت على التقاليد البنائية الرومانية القديمة مع موادها وعناصرها ومفرداتها المعمارية، إلى جانب استعمال أبنية الباسيليك ككنائس، وهي جزء من العمارة الرومانية كانت تُبنى بالقرب من الأسواق لأغراض تجارية، مخطّطها مستطيل وطوله ضعف عرضه، مزوّد بصفّ أو صفّين من الأعمدة من كل جهة، وتحدّد الأعمدة ثلاث أجنحة، الأوسط هو الأكبر والأعلى ارتفاعاً وينتهي بالمذبح، بينما الأجنحة الجانبية تعلوها الشرفات. واستُغلت الباسيليك بعد انتشار المسيحية كمكان للصلاة وممارسة الشعائر الدينية.
أما العمارة البيزنطية فاستخدمت الآجر كمادة أساسية للبناء والرخام للتغليف، وكانت الكنائس البيزنطية تقوم على مخطّط الصليب الإغريقي بقبة مركزية مؤلفة من أقواس متقاطعة وأعمدة كلاسيكية (الإغريقية والرومانية)، وكانت للمداخل أعتاب أفقية يعلوها عقد نصف دائري، ويعتبر الفن البيزنطي وريث الفن الإغريقي والشرقي من حيث الزخرفة والنقش بالرخام والفسيفساء.
مخطط المنطقة
تتألف القلعة من مجموعة معمارية مسيحية متجاورة، تضمّ الكنيسة الكبرى والدير والمعمودية والكنيسة الصغرى والمدفن. صُمّمت الكنيسة الكبرى على هيئة صليب يوناني مؤلّف من أربع باسيليكيات (شرقية وغربية وشمالية وجنوبية) متعامدة في ما بينها ما عدا الشرقية فتميل 6 درجات نحو الشمال، وفي مكان التقائها بهو رئيسي مثمّن (أكتوغون) الأضلاع. وتحيط جميعها بقاعدة عمود التعبّد السمعاني الذي عاش عليه القديس سمعان والذي يعدّ محور الكنيسة، وكان مزوّداً في أعلاه بدرابزين من الألوح الخشبية على شكل شرفة، مع سلّم لوصول الناس إلى الناسك والتواصل معه.
وحول الباسيليك الشرقية والجنوبية، تمتدّ باحة واسعة يقوم في رحابها بناء الدير والمصلى الخاص بالكهنة. أما مدفن الرهبان فمنحوت في الصخر في الجهة الشمالية وتتموضع القبور في جدرانه. وبعد حوالى 200 متر إلى الجنوب من الكنيسة، بناء المعمودية المربّع الشكل يعلوه مثمّن وفي جهته الشرقية حنية، ونلاحظ وجود حفرة كانت تُستخدم للمعمودية، يلتحم بناؤها مع بناء كنيسة صغيرة ثلاثية الأقسام (بازيليكا)، كانت تُستخدم لاستكمال الطقوس.
وإلى الجنوب من المعمودية، باب سور يقود الخارج عبر طريق منحدر إلى مرافق دير سمعان، وهي مبان ومنشآت كانت تُستخدم لنزول الحجّاج والزوار، وجميع هذه المباني مطوّقة بسور حجري ممّا يمنحها مظهر المجمّع الضخم.
الكنيسة الكبرى
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تعود الكنيسة الكبرى إلى الحقبة الرومانية الشرقية- البيزنطية، وتدمج في تصميمها أساليب معمارية عدّة، فهي مصلبة وباسيليكية ومثمّنة في الوقت ذاته، ووصفها المؤرخ الأميركي هاورد بتلر، في كتابه "الكنائس المبكرة في سوريا"، بأنها "ملأت فجوة مهمة في فهمنا لعمارة الكنائس، فهي ليست أجمل وأهم نصب معماري قائم بين مباني الفترة الرومانية في القرن الثاني فحسب، بل اعتُبرت أيضاً نموذجاً للمبنى المسيحي في القرنين الحادي عشر والثاني عشر في شمال أوروبا".
يتوسّط الكنيسة بهو مثمّن تخترقه أقواس واسعة تعلوها حنيات تتقعر في أربعة أضلاع، تجعله يبدو مربعاً، أما بقية الأضلاع فتّتصل بأربع باسيليكيات. يستند كل قوس على عمودين لكل منها تيجان كورنثية مزخرفة على شكل أوراق الأكنتوس التي تحرّكها الرياح (موجودة أيضاً في النارتكس، أي مجاز الكنيسة، والمدخل)، وهنالك شكوك حول ما إذا كان المثمّن مسقوفاً بقبة أم مكشوفاً للسماء، وثمّة بعض الدلائل التي تشير إلى أن قبة من الخشب كانت تعلوه لكنها انهارت بسبب زلازل.
أمّا الباسيليكات الأربع فتتمتّع بأشكال معمارية مختلفة. استُخدمت الشرقية منها ككنيسة، وهي تحوي مدخلين كبيرين في جدارين جانبيين وعدداً غير مسبوق من النوافذ التي تشترك بشريط زخرفي منحنٍ. لهذه الباسيليك حنية رئيسية وحنيتان ثانويتان وفي أرضيتها رخام مزخرف.
أما الباسيليك الجنوبية فيتقدّمها رواق يطلّ نحو الخارج بقوس ثلاثي الفتحات، يعلوه مثلث روماني يرتكز على أعمدة بتيجان مزخرفة، إضافة للنارتكس التي تعدّ مقدمة للكاتدرائيات الرومانسكية، إذ يذكر عالم الآثار الفرنسي "دوفوغويه"، أحد أهم الباحثين في تاريخ القرى المنسية، أن أصول الرومانسك في أوروبا موجودة في مقدّمة الواجهة الجنوبية لكنيسة القديس سمعان العمودي.
الجدير ذكره أن السقف المقبّب الكبير وأغلب الجدران الخارجية لم تعد موجودة، بينما بقيت الأقسام الرئيسية بما فيها الواجهة شبه سليمة، أما بالنسبة للعمود فقد تبقى منه ركيزة حجرية يعلوها حجر مستدير بارتفاع مترين فقط، يرجح أن يكون قد دمّر كلياً خلال الحرب الأخيرة في سوريا.