على مدى السنوات الـ 300 الماضية، كان التغيير في العالم يتحقق من خلال تحركات جماعية لأشخاص يتظاهرون، ثم بعد ذلك عبر التصويت مع توسيع حق الانتخاب. لكن هذه الوسائل القديمة لإحداث التغيير لم تعد فعّالة.
كان عام 2019 عام المسيرات والتجمعات والمظاهرات، إذ ارتفع عدد المشاركين في الانتخابات إلى مستوى غير مسبوق. لكن لم يتغير أي شيء. بدا العالم، ولاسيّما العالم الشاب، وكأنه كله يتحرك للمطالبة بالمزيد من الديمقراطية، فمن متظاهري حركة "تمرد الانقراض" الذين عطّلوا لندن ومدناً بريطانية أخرى، إلى سكان هونغ كونغ الذين خرجوا برمّتهم تقريباً لاحتلال شوارعها مطالبين بالحقوق الديمقراطية من أسيادهم الشيوعيين في بكين، مروراً بالاحتجاجات الجماهيرية في لبنان إلى التجمعات الضخمة في الهند ضد سياسات الهوية القومية المعادية للمسلمين وعقيدة تفوق الهندوسية التي يؤمن بها ناريندرا مودي. ومع ذلك، انتهى العام باحتفاظ أنصار الوضع الراهن بالسيطرة بقوة على مجريات الأمور.
من جهة أخرى، أُلقي القبض على آلاف الروس في مظاهرات مناهضة لبوتين، فيما تعطلت باريس بسبب احتجاجات أصحاب السترات الصفراء والآن نتيجة للإضرابات الضخمة في قطّاع النقل. وشهدت لندن بدورها اثنتين من أكبر مظاهراتها على الإطلاق، عندما شارك نحو مليون شخص في مسيرة للمطالبة باستفتاء " القول الفصل" حول الخروج من الاتحاد الأوروبي. لكن الرجال الذين يديرون روسيا وفرنسا وبريطانيا لم يتأثروا، ولا يزالوا يقبضون بقوة على السلطة. كما أجريت انتخابات عامة كبرى في الهند وجنوب إفريقيا وإسبانيا وبولندا وأستراليا وإسرائيل والدنمارك وسويسرا، إلا أن الناخبين، الذين كلفوا أنفسهم عناء المشاركة في الاقتراع، صوتوا ببساطة للوضع الراهن.
وخابت آمال الجماعات السياسية الأوروبية في أن يؤدي وجود ما يسمى بـ "Spitzenkandidat"، وهو شخصية قيادية من اليسار أو يمين الوسط أو الليبراليين إلى تحفيز المشاركين في انتخابات البرلمان الأوروبي. وبمجرد انتهاء عمليات الاقتراع، تسلّم الموظفون البيروقراطيون في هياكل الاتحاد إلى جانب الحكومات الوطنية السلطة. ولم يلبثوا أن نصّبوا على قمة هرم المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي وجهاز الخارجية في الاتحاد الأوروبي، سياسيين رشحتهم حكوماتهم من دون أن ترد أسماؤهم نهائياً على أي ورقة اقتراع في إطار انتخابات البرلمان الأوروبي. هكذا قيل للناخبين في أوروبا مرة أخرى إن الدول القومية في القارة هي التي قررت من سيتحكم بالأمور، وليس من أدلوا بأصواتهم في الانتخابات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إن شعار عام 1968 القائل " كانوا سيلغون التصويت لو أنه غيّر شيئا ذات يوم،" هو أكثر صدقاً اليوم منه في أي وقت مضى.
نبّهنا المعلقون والمحللون الأكاديميون بشكل جدي بعد التمحيص والتدقيق في هذه الأرقام بأن اليسار قد انتهى، وأن "العصر الليبرالي" الذي تخيّله البعض قد طويت صفحته وسيُستبدل بسياسات الهوية الشعبوية. يجادل البعض بأن أنظمة التصويت الانتخابية هي التي تتحمل مسؤولية ذلك. ولكن استُخدم في عام 2019 العديد من أنظمة التصويت المختلفة في العالم، وأدت كلها إلى النتيجة نفسها.
يتخوّف الناخبون من التغيير وهم غير مقتنعين بأي من العروض السياسية التي تعد بانطلاقة جديدة أو بتحدي التفكير التقليدي. إن الحقبة التي انتهت حقاً، هي تلك التي كان التغيير فيها يبدأ ببعض الأفكار الجديدة القوية والمقنعة التي يطرحها المثقفون قبل أن تتحول إلى حملات من خلال المظاهرات والعرائض وغيرها من أشكال الحشد، ثم تجد في النهاية من يتبناها من الأحزاب أو تؤدي لبروز حركات سياسية جديدة وحتى أحزاب جديدة.
إننا نعيش في زمن تنتشر فيه مجموعات الضغط، ولدينا من المؤسسات البحثية التي يموّلها مانحون أثرياء أكثر مما كان عندنا منها في أي وقت مضى. ومع ذلك، فإن مجموع طاقاتها ومؤتمراتها ودراساتها وتعليقاتها المنشورة ليست مقنعة، كما أن تأثيرها على التصويت أو على سياسة الحكومة يتضاءل باستمرار بكل تأكيد.
احتفلت هيئات دولية مثل منظمة العمل الدولية وحلف الناتو بذكرى تأسيسها الـ 100 و الـ 75 على التوالي في عام 2019، لكن العمال لم يكونوا أبدًا أضعف مما هم عليه اليوم بسبب تفّكك النقابات العمالية، خارج القطّاع العام المحمي، وهو تفكّك أصبح الآن قاعدة في بريطانيا والولايات المتحدة ومعظم دول أوروبا وأماكن أخرى في العالم. بالنسبة للناتو، أصبح فلاديمير بوتين أكثر فعاليةً منه، بينما يكاد دونالد ترمب لا يخفي احتقاره للحلف.
تبدو اليوم آمال إنشاء حكومة عالمية، التي أطلق عليها الشاعر الإنجليزي ألفريد تنيسون في إحدى قصائده "برلمان الرجال، اتحاد العالم"، أبعد بكثير مما كانت عليه عندما خرج برؤيته تلك قبل 150 عاماً.
لقد انتهى عام 2019 ومعه عقد كان هو الأقل منذ عام 1945 من حيث التقدم الديمقراطي. توقف التقدم الديمقراطي، ويبدو أن المظاهرات في الشوارع والإدلاء بالأصوات في صناديق الاقتراع لا يُغيّران شيئا. إذاً، ماذا سيحدث بعد؟ هذا هو السؤال الذي يجب أن يجيب عليه عقد العشرينات.
( دينيس ماكشين هو الوزير السابق لأوروبا ومؤلف كتاب ‘Brexiternity: The Uncertain Fate of Britain‘)
© The Independent