Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عن السياسة... والتسييس

صورة للفيلسوف الإيطالي نيكولو ماكيافيللي الدبلوماسي الذي غيرت كتاباته السياسة في بداية عصر النهضة. (غيتي) 

من المفارقات أن للسياسة تعريف لغويّ واحد.. ولكن عشرات التعريفات الاصطلاحية! تماماً مثلما أن لكل سياسي عشرات السبل والأساليب والطرق والمناهج ولكنهم في كل بلاد العالم.. سياسيون. ينصّ التعريف اللغوي الواحد على أن السياسيّ هو الذي يقوم بالشيء. يسوسه أمراً ونهياً سواءً كانت خيولاً أو شعوباً. ولكن هذه السياسة تتشعب إلى الطرائق التي سلكها كل من درس السياسة ومارسها فسموها بمسميات اصطلاحية متعددة مثل سلطة تقسيم الموارد، وديناميكية الطبقات الاجتماعية، وعملية إدارة الصراعات، وفن حوكمة الشؤون العامة، وإلى غير ذلك من التعريفات التي تصبّ في آخر المطاف غير بعيد من التعريف اللغويّ الجامع: ساس يسوس سياسةً.

ومن المفارقات أيضاً أن كل هذه التعريفات الاصطلاحية المختلفة للسياسة لم تشبع السياسيين، فلجؤوا إلى "التسييس". وهذا الأخير له تعريفٌ لطيفٌ أيضاً وهو: تحريف الأحداث والأنشطة والمواقف لتتحول إلى فعل سياسيّ. تعريف جامع شامل لا يستثني أي حدث أو نشاط أو موقف. فكل شيء قابل للتسيس ما دام هناك إرادة ما لتسييسه. وهذا التعريف الكبير يفتح الباب على مصراعيه لكل سياسيّ لتوسيع نطاق هيمنته السياسية لتشمل كل ما بوسعه شموله. الأفق واسع والناس كثر والحياة لا تنفك تنجب لنا كل يومٍ شؤوناً سياسية أو مسيسة. هل ظل هناك فرق؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

صار من الصعب أن نفرق بين ما هو سياسي ومسيس. ربما لأننا صرنا نعيش في عالم ضخم من مكعبات الدومينو التي لا تسقط منها قطعة إلا وأسقطت تبعاً لسقوطها سيلاً جارفاً من القطع. وما يفعله السياسي في عمله اليوميّ هو التعامل مع قطعة دومينو كبرى وحرجة وحاسمة. إذا أسقطها يميناً تساقط الناس يميناً وإذا أسقطها يساراً أصبح يسار الحياة سلسلة لانهائية من التفاعلات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية. ورغم هذا التأثير الهائل الذي صار تحت سلطة السياسيّ، لا زال لديه شهية كبرى إلى ما وراء السياسة. وهو التسييس.

هل تذكرون قميص عثمان؟ قضية جنائية يفترض أن يحكم فيها القاضي بما يقتضيه الشرع. تم تسييسها لقلب نظام الحكم بأكمله، وتغيير طريقة تعاقب السلطة حتى يومنا هذا. هذا العائد السياسي الهائل الذي عادت به عملية "تسييس" هو درسٌ ثمين لكل سياسي. كلما اخترت قضيتك بعناية، وسيّستها بذكاء، وموهّت الحدود والفوارق، وذوّبت كل شيء في إناء سلطتك السياسية سوف تجني ثماراً هائلة وتترك آثاراً كبيرة على أجيال من بعدك. هذا الدرس لم يعد حذقاً ولا مهارة. لم يعد خياراً ولا قراراً. لقد صار مسلمة سياسية يقتدي بها كل سياسيّ أياً كانت طريقة صعوده إلى الحكم. كل ما يؤثر في وجدان الناس وخياراتهم وقناعاتهم من علوم وفنون وقوانين وأفكار وفلسفات وأحوال وشؤون واقتصاد وثقافة هو أمرٌ قابل للتسييس، بل يجب تسييسه.

عن السياسة.. والتسييس

ليس من الضروري ذكر أمثلة أخرى لتسييس القضايا. فنشرة الأخبار اليومية تكاد تكون نشرة التسييس يومية. ما يجدر بنا ضرب أمثلة عليه هو الحالات النادرة من اللاتسييس. الحالات التي قرر السياسي أن لا يسييسها، أو أخذت أنظمة الحكم على يد السياسي فيها ومنعته من تسييسها. أو الحالات النادرة أيضاً التي تفوّق فيها الوعيّ الإنساني على آلات التزييف العملاقة التي تحركها السلطة. وحالات التسييس هذه تزيد وتنقص تبعاً لمساحات السلطة التي أتاحها السياسي لنفسه، ولكن قلما اختلف مصيرها عن تعريفها الأساس: عملية تحريف. بنيّات سياسية سلطوية تذكرنا بمقولة الكاتب الأميركي إدوارد آبي: "السلطة دائماً خطرة. تجذب أسوأ الناس. وتفسد أفضل الناس".

المزيد من آراء