هو عالم "العزل" القبيح الذي ينتهي به عام 2019، على حد وصف الرئيس دونالد ترمب في خطاب وجهه إلى نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب الأميركي، عالم يهتز له أي قائد دولة. لكن ترمب لم ينحن للعاصفة ولم يعتذر، بعدما أصبح ثالث رئيس في تاريخ أميركا توجه إليه اتهامات العزل، بل يواصل صراعه بالطريقة نفسها التي خاض بها أزماته السابقة، مؤمناً بأن إنجازاته التي حققها هذا العام لا مثيل لها. بينما يرى منتقدوه أن إخفاقاته في ملفات داخلية وخارجية لا تغتفر، كونها هددت قوة وهيمنة الولايات المتحدة في الخارج وقوضت من بعض الحقوق في الداخل على حد وصفهم.
أراد الديمقراطيون أن يكون توجيه اتهامات عزل للرئيس الجمهوري قبل نهاية العام. وكان لهم ما أرادوا. لكن بقدر ما كان الصخب الذي رافق إجراءات العزل مُضراً بالرئيس الذي تراجعت شعبيته في استطلاعات الرأي إلى 45 في المئة، بقدر ما حَمَلت الأسابيع الماضية من العام أخباراً سارة له، وستكون لها انعكاساتها الإيجابية في مقبل الأيام.
منجزات اقتصادية
وأفادت الإحصاءات الأخيرة باستمرار تقدم الاقتصاد الأميركي وإضافة 266 ألف وظيفة جديدة خلال الشهر الماضي بشكل تجاوز التوقعات. كما كشف استطلاع للرأي أن 57 في المئة من الأميركيين يرون أنهم في وضع مالي أفضل منذ تولي الرئيس ترمب السلطة.
والأهم، أن مخاوف استمرار الحرب التجارية بين أميركا والصين والتي هددت نمو الاقتصاد العالمي بدأت في التلاشي بعد الإعلان عن اتفاق مرحلي، تتضمن مرحلته الأولى تأجيل تطبيق التعريفات الجمركية الجديدة على السلع الصينية التي كان مقرراً لها أن تبدأ خلال أيام، مع خفض تعريفات فرضت سابقاً إلى النصف، فيما توقعت الإدارة الأميركية زيادة صادرات الولايات المتحدة بمقدار 200 مليار دولار خلال عامين من توقيع اتفاق مع بكين.
اتفاقات نهاية العام
المثير للانتباه، أن الديمقراطيين في مجلس النواب توصلوا إلى اتفاق مع إدارة ترمب للتصديق على اتفاقية التجارة بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك، التي تحفظوا عليها في السابق. ومن شأن هذين الاتفاقين التجاريين دعم موقف الرئيس ترمب مع الناخبين من العمال والمزارعين، خصوصاً أولئك الذين انشقوا عن الحزب الديمقراطي في انتخابات 2016.
كما اتفق ترمب مع الديمقراطيين المطالبين بعزله على تمرير قانون الإنفاق الحكومي، ما جَنَبَ الطرفين مواجهة أزمة جديدة من أزمات إغلاق الحكومة التي تكررت في الماضي. كما ضَمِن ترمب دعم الديمقراطيين لمشروع قانون ضريبي سيلغي ثلاث ضرائب مشمولة في نظام "أوباما كير" للتأمين الصحي. وهو ما يمثل نصراً كبيراً لنقابات العمال.
وتساهَل الديمقراطيون كذلك في الموافقة على الميزانية الدفاعية لعام 2020 وتقدر بـ 738 مليار دولار، وتقضي بإنشاء قوة دفاعية فضائية كان الرئيس ترمب اقترحها العام الماضي. كما تشمل أيضاً زيادة رواتب العسكريين الأميركيين بنسبة ثلاثة في المئة، ما يعد إنجازاً آخر يتباهى به الرئيس الأميركي في كل محفل.
استفادة ترمب من العزل
بينما يعتبر البعض اتهامات العزل سحابة سوداء تخيم فوق رأس ترمب وتلطخ نجاحاته، إلا أن آخرين يرون عكس ذلك تماماً. ذلك أن كثيراً من إنجازات الرئيس حدثت بسبب العزل، فقد كان الطريق مسدوداً أمام تحقيق أولوياته بسبب سيطرة الديمقراطيين على مجلس النواب واعتراضهم على غالبية مطالبه. لكن تركيزهم على إجراءات العزل ورغبتهم في تجنب اتهامهم بتعطيل الميزانية وعرقلة القوانين، دفعهم في النهاية إلى التوصل إلى حلول ممكنة وتقديم تنازلات في بعض القضايا الخلافية، وأتاح ذلك فتح الطرق المسدودة أمام ترمب، خصوصاً أن الديمقراطيين المعتدلين الذين فازوا في مناطق صوتت لصالح ترمب عام 2016 لاحظوا أن استطلاعات الرأي تشير إلى أن ثلثي الناخبين في هذه المناطق يميلون إلى التصويت لترمب في انتخابات 2020. وهو ما جعل أعضاء الكونغرس الديمقراطيين أكثر حرصاً على تدعيم ملفهم الانتخابي المقبل بمنجزات في المطبخ السياسي تحسب لهم لا عليهم.
ولم يكن ترمب ليحظى بهذا الدعم المفاجئ من الديمقراطيين من دون تحركاتهم وجهودهم لتوجيه اتهامات لعزله.
منجزات خارجية
على الرغم من تركيز ترمب على الشأن الداخلي انطلاقاً من سياسة "أميركا أولاً" التي تبناها منذ اليوم الأول لوصوله إلى سُدة الحكم، إلا أنه تمكن خلال عام 2019 من تحقيق منجزات في عدد من الملفات المهمة، على رأسها ما أسفرت عنه سياسة "الضغوط القصوى" التي اتبعتها إدارته ضد النظام الإيراني وأدت خلال الأسابيع الأخيرة إلى تفجر الأزمات الاقتصادية والاحتجاجات الشعبية ضد النظام في أكثر الاحتجاجات خطورة على النظام منذ الثورة الإيرانية قبل 40 عاماً، بل إن طهران أصبحت تواجه أكثر من مأزق مع جماعاتها الوكيلة في كل من العراق ولبنان وسوريا، وهو ما اعترفت به هذه الجماعات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتواصل إدارة ترمب فرض العقوبات الاقتصادية والمالية لتضييق الخناق أكثر على طهران حتى ترضخ في النهاية وتبحث عن مخرج لأزماتها، بينما أبقت الولايات المتحدة على تأهب قواتها في الخليج وعززت من وجودها العسكري في السعودية وحركت حاملة الطائرات إبراهام لينكولن إلى داخل مياه الخليج، تحسباً لأي مغامرة طائشة من جانب إيران.
وبالإضافة إلى نجاح ترمب في الضغط على حلف شمال الأطلسي (الناتو) كي ترفع الدول الأعضاء من إسهاماتها المالية في ميزانية الحلف، يُحسب لإدارة الرئيس الأميركي تمكنها من قتل زعيم تنظيم "داعش" الإرهابي أبو بكر البغدادي، الذي كان مختبئاً في محافظة إدلب السورية على بعد كيلومترات قليلة من الحدود التركية. ما اعتبره الجميع نصراً مهماً له في جهود مكافحة الإرهاب يماثل نجاح الولايات المتحدة في رصد وقتل زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن في عهد الرئيس باراك أوباما.
إخفاقات سوريا وتركيا
على الرغم من السياسة الصلبة التي اتخذها الرئيس ترمب ضد إيران وجماعاتها الوكيلة وبخاصة حزب الله اللبناني، إلا أنه كان صبوراً وحذراً إلى حد بعيد مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حيث وافقه بعد مكالمة هاتفية على سحب القوات الأميركية في شمال شرقي سوريا والتخلي عن قوات سوريا الديمقراطية، التي تشكل القوات الكردية عمودها الفقري. وهي القوات التي قاتلت "داعش" جنباً إلى جنب مع القوات الأميركية وفقدت أكثر من 10 آلاف مقاتل. ما أثار غضب الجمهوريين والديمقراطيين في الكونغرس فضلاً عن العسكريين في البنتاغون.
لكن الضغوط الداخلية الواسعة على ترمب، دفعته إلى تعديل المسار والتنسيق مع تركيا وروسيا على الإبقاء على نحو 500 جندي أميركي لضمان عدم عودة "داعش" إلى النشاط مرة أخرى في المنطقة، وعدم استفادة الروس أو نظام دمشق من النفط السوري في هذه المنطقة.
غير أن عواقب ما فعلته تركيا والرئيس أردوغان بغزو شمال سوريا لا يزال يفجر الغضب حتى الآن لارتباط ذلك بملف شراء أنقرة نظام الصواريخ الدفاعية الروسي إس- 400، الذي تعارضه واشنطن بقوة لما يمثله ذلك من تهديد على طائرات إف- 35 الأميركية، الأمر الذي جعل الكونغرس يمنع تركيا في النهاية من اقتناء طائرات إف- 35 الشبحية، في الوقت الذي يتحرك داخل الكونغرس مشروع قانون آخر لفرض عقوبات اقتصادية على تركيا على الرغم من عدم تحمس ترمب له حتى الآن.
تحدي القرارات الدولية
وواجه ترمب في أبريل (نيسان) الماضي موجة انتقادات عربية ودولية بعدما وقّع إعلاناً رئاسياً تعترف بموجبه الولايات المتحدة بسيادة إسرائيل الكاملة على مرتفعات الجولان التي استولت عليها من سوريا خلال حرب 1967. وواجه ترمب نوفمبر (تشرين الثاني)، رفضاً عربياً وأوروبياً ودولياً وحتى داخل الولايات المتحدة بإعلانه أن المستوطنات في أراضي الضفة الغربية المحتلة لا تخالف القانون الدولي، في تراجع عن سياسة أميركية دامت أربعة عقود، وهو ما اعتبره مراقبون أنه سيقوض جهود واشنطن لحل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني عبر خطة سلام يجري العمل عليها منذ أكثر من عامين، ولم تر النور حتى الآن.
غير أن محللين سياسيين في واشنطن اعتبروا أن قرارات ترمب المتعلقة بدعم إسرائيل هي في حقيقة الأمر تفيد ترمب بالأساس من حيث أنها تدعم قاعدة مؤيديه، بين أوساط الناخبين الإنجيليين خلال سعيه إلى الفوز بدورة رئاسية ثانية في نوفمبر المقبل.
رهان على المستقبل
وبينما يشعر الرئيس ترمب بالحنق الشديد لدخوله التاريخ من باب اتهام مجلس النواب له بإساءة استغلال السلطة في موضوع أوكرانيا وعرقلة تحقيقات الكونغرس، فإنه يبدو واثقاً من أن الأضواء ستنتقل بداية العام 2020 إلى مجلس الشيوخ الذي يسيطر عليه حلفاؤه الجمهوريون، حيث من المتوقع تبرئته من التهم المنسوبة إليه. وحينئذ، قد تتدهور روح المقاومة بين صفوف الديمقراطيين وتولد البراءة طاقة جديدة لدى ترمب وأنصاره.
ومع ذلك فإن ترمب قد يواجه استمرار جراح العزل إذا قرر مجلس النواب عدم إحالة قرارات الاتهام على مجلس الشيوخ إذا لم يتفق الجمهوريون والديمقراطيون على استدعاء الشهود خلال المحاكمة التي سيعقدها مجلس الشيوخ، وهي نقطة حاسمة لا تزال محل خلاف بين الجانبين. ويعني ذلك أن اتهام ترمب بارتكاب مخالفات دستورية قد يظل اتهاماً مفتوحاً من دون تبرئة ينتظرها بفارغ الصبر في مجلس الشيوخ. وهو إن حدث فسيكون مادة دسمة للجدل والصراع الذي سيلقي بتبعاته على أجواء الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة.