Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مهزلة الفن المعولم... 120 ألف دولار ثمن موزة كاتيلان

العمل الفني امام سطوة الرأسمال... واغراءات السوق المزيفة

انشغل عالم الفن شرقاً وغرباً خلال الأيام الماضية على نحو لافت بعمل الفنان ماوريتسيو كاتيلان، وهو فنان إيطالي من مواليد عام 1960 ويعيش ويعمل حالياً في الولايات المتحدة الأمريكية. عُرض عمل كاتيلان أخيراً في معرض آرت بازل في مدينة ميامي الأمريكية وحمل عنوان "كوميدي"  كان أثر العمل على متابعي الحركة الفنية وغير المتابعين حاداً وقوياً، ومصحوباً بعاصفة من الجدل والنقاش. لم يخل الجدل والنقاش حول هذا العمل من السخرية، كما لم يفتقر إلى الجدية والتحليل الهادىء. انتشرت صورة العمل على مواقع التواصل الاجتماعي والبرامج التليفزيونية مصحوبة بتعليقات طريفة أحياناً، وموغلة في الحدة والهجوم، بل حتى الشتائم أيضاً. العمل المشار إليه هو ثمرة موز مثبتة بلاصق بلاستيكي على أحد حوائط القاعة، وبيع منه ثلاث نسخ، قدرت كل واحدة بأكثر من 120 ألف دولار. ما ساهم في تصاعد الجدل حول العمل كذلك هو إقدام أحد الأشخاص على انتزاع ثمرة الموز من على الحائط والتهامها أمام الجمهور. سُجل كل ذلك في شريط فيديو نشره ملتهم الموزة- وهو فنان آداء- في صفحته على موقع أنستجرام. لقي هذا الفيديو رواجاً كبيراً واهتماماً إضافياً من وسائل الإعلام، وأجج الجدل المثار حول العمل من جديد. امتد هذا الجدل والنقاش بالطبع إلى فضائنا العربي، كاشفاً عن إشكاليات عدة يشوبها الالتباس، ليس فيما يخص عمل ماوريتسيو كاتيلان فقط بل تعداه إلى طبيعة الممارسة الفنية نفسها.

قبل الحديث عن العمل واستعراض الآراء المختلفة علينا أن نسأل أنفسنا: هل نحن بصدد النقاش حول جماليات ثمرة الموز والشريط اللاصق؟ وهل ترى بالفعل جمالاً في هذا التركيب يدفع أحدهم لشرائه بدولار واحد، ناهيك عن مئة ألف دولار؟ هذا بالطبع إذا ما افترضنا أن الغرض من العمل هو لفت انتباهنا إلى ما في الموزة والشريط اللاصق من جمال. إذا نظرنا للأمر من هذا الجانب فمن حقنا أن ننعت هذا الفنان بالبلاهة، أو ربما نذهب إلى أبعد من ذلك فنستدعي على الفور روح المؤامرة كما يفعل البعض، مؤامرة كل هدفها تخريب أذواقنا، تقودها مافيا غامضة مدعومة برؤوس أموال أو طائفة دينية. فلا يعقل أن نقارن هذا العمل القبيح بأساطير الصور العظيمة لمايكل أنجلو ودافنشي ورمبرانت وحتى موديلياني وبيكاسو وغيرهم، وكل وما تحتويه متاحف العالم من كنوز وجواهر فنية. هل يعقل أن نقارن الموزة والشريط اللاصق بالتماثيل الجرانيتية للمصريين القدماء مثلاً؟.. ربما يكون مجرد التفكير في الأمر على هذا النحو نوع من السخف والهراء، أو حتى الجنون. لنا كل الحق في صب اللعنات واستدعاء أقذع الشتائم إذا ما افترضنا بالفعل أن هدف الفنان من وراء عمله هذا استدعاء روح الطبيعة أو التعبير عن فتنة الانحناء، أو عمق الالتصاق. لنا أن نسخر كما نشاء إذا كان الأمر على هذا النحو. لكن هل هو كذلك بالفعل؟

يبدو أننا أمام عمل استثنائي سيتحول- شئنا أم أبينا- إلى أيقونة في تاريخ الفن. فرادة العمل هنا في قوة تأثيره وقدرته على خلق كل هذا الجدل والنقاش. استطاع كاتيلان بعمله هذا، وخلال أيام قليلة، دفعنا إلى طرح تساؤلات، قد تكون أكثر أهمية من هذه التي أرادها الفنان حين فكر في هذا العمل. عمل كاتيلان قد أعاد الحديث مرة أخرى حول طبيعة القيمة التي ينطوي عليها العمل الفني، وعلاقته برأس المال وسوق الفن، أو معنى الفن ودوره، إلى الحديث حتى حول تاريخ الفن وإمكانية صوغه من جديد. دفعنا هذا العمل إلى إمعان التفكير مرة أخرى في المصطلحات الكبرى والمعاني الراسخة. عمل كاتيلان أشبه بحجر صغير ألقي في بحيرة، وهو أمر لا غرابة فيه، ما أثاره هذا الحجر حوله من حلقات هو الأكثر دهشة والأكبر قيمة. فلتحيا ثمرة الموز والشريط اللاصق إذاً، أو كما قال آخرون "يحيا الفن المُنحط"

عُمق مزيف

أستاذة الأدب الألماني والكاتبة المصرية هبة شريف تلفت الانتباه إلى أن العمل كان له بالفعل أثر استفزازي ومحرض على النقاش، وهي ترى أنه أثر مقصود. تقول شريف: "لقد أثار عمل كاتيلان النقاش حول الفنون وعلاقتها بالرأسمالية، وكانت هناك نقاشات بالفعل كثيرة على وسائل التواصل الاجتماعي في مصر تناولت الفن المفاهيمي والأعمال الفنية التي أصبحت سلعة تباع وتُشترى. انقسم الناس ما بين مدافع عن هذا النوع من الفنون يتهمون المتهكمين والساخرين من هذا العمل الفني أنهم غير قادرين على تفهم تطور الفنون في العالم الرأسمالي واتجاهاته المختلفة. كل هذه النقاشات أثارتها مجرد "ثمرة موز" مثبتة على الحائط، وهذا في رأيي يعكس مدى الأثر الكبير لهذا العمل الذي ألقى الضوء على قضايا مهمة تخص الفنون على نحو ساخر، ما جعل الجمهور يشتبك مع هذه القضايا باهتمام وبدون أن يدعوهم العمل الفني إلى ذلك مباشرة، وهذا يعد نجاح كبير لهذا العمل وإثبات لقدرته على جذب اهتمام الناس من كل المجالات ومن غير العاملين في مجال الفنون"

وتضيف شريف: "بعض الناس لم يفهم السخرية التي تناول بها الفنان "كاتيلان" القضايا الفنية، واشتبك معها، وبدأوا بالفعل في محاولات لإسقاط دلالات يعتبرونها أكثر عمقاً على ثمرة الموز المعلقة، وكانت هذه النقاشات التي أرادت أن تبدو عميقة جزءًا آخر من الأثر الساخر لهذا العمل. فقد نجح هذا العمل الفني في دفع الناس لنقاشات عديدة كشفت الجانب التجاري في الفنون، وتسليعها وسطحية بعض الأعمال الفنية وسطحية النقاشات حول الفن المفاهيمي وادعاء العمق وادعاء الفهم، في حين أن الأمر أكثر بساطة من ذلك. في رأيي أن هذا العمل الفني لم يكن هو فقط ثمرة الموز المعلقة على الحائط، وإنما كانت النقاشات الكثيرة الدائرة والقضايا التي أثيرت حول هذا العمل جزءًا أصيلًا منه. هو عمل ناجح بجميع المقاييس، لأن العمل الفني الناجح يلقي الضوء على القضايا المهمة ويدفع الناس إلى الاهتمام بها، وهو ما حدث بالفعل"

تجاوز الدلالة

الفنان حمدي عطية هو فنان مصري مقيم في الولايات المتحدة الأمريكية، يلفت النظر أيضاً إلى طبيعة العلاقة بين الفنان والمؤسسات الفنية المتحكمة في حركة الفن العالمي. يرى عطية أن اللغة المعاصرة للفن قد تجاوزت الدلالة الثقافية للشكل أو العنصر، كالجنسية أو السياسية أو العنصرية مثلاً لثمرة الموز في حالة عمل كاتيلان. يرى عطية أن لغة الفن المعاصر باتت تستوعب اليوم عنصرين بالغي القوة، وهما قدرة الفنان على إعادة تقديم فكرة قدمت من قبل، ووزن الفنان وعلاقاته التي تؤهله لاختراق السياق الحاكم لحركة الفن، وهو يقصد هنا السوق والمؤسسات الفنية. هذين العنصرين كما يقول عطية تحولا إلى ما يشبه الخامة أو الآداة عند الفنان المعاصر، وليس مجرد عناصر ثانوية كما يظن البعض.

أما الفنان شادي النشوقاتي أستاذ الفنون في الجامعة الأمريكية في القاهرة فيرى أن فكرة استخدام عناصر من هذا النوع في عمل فني هي فكرة مكررة، فالفنان هنا لا يقدم أي رؤية مختلفة عما قدمه مارسيل دو شامب مثلاً في تقديمه لنظرية السياق للأشياء جاهزة الصنع، أو كل ما أنتج من فن سريع الزوال، وكلها أمور غيرت أعراف الاقتناء وطبيعة ومفهوم المتحف. يذهب النشوقاتي إلى أن الفكرة التي قدمها كاتيلان لا تقدم أي نموذج مختلف عما قُدم من قبل في هذا السياق، والذي تحول مع الوقت إلى تاريخ كلاسيكي. ويرى النشوقاتي أن الاختلاف الوحيد هنا هو تعامل مساحات إعلامية ذات تأثير كبير وسريع مثل وسائل التواصل الاجتماعي تحديداً، والتي استطاعت بسهولة نقل هذه النظريات أو إعادة تقديمها وإحيائها إلى الجمهور من متخصصين وغير متخصصين، وربما منهم من يتعرف لأول مرة على هذا النوع من الفن وأسعاره. يرى النشوقاتي أن البطل هنا يتمثل في الدور الذي تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي وقدرتها على إعادة إحياء هذه النظريات الكلاسيكية.

الفنان يوسف ليمود فنان مصري مقيم في سويسرا، وهو أحد الذين اشتبكو بشكل مباشر في نقاشات ساخنة حول عمل كاتيلان. يتفق ليمود مع ما قاله شادي النشوقاتي في كون الفكرة التي يستند إليها العمل هي فكرة مكررة وقديمة. ويضيف ليمود أن عمل كاتيلان قد أبرز مدى اغتراب المجال الفني عندنا عن عالم الفكر الذي أصبح أي انتاج فني معاصر بدونه مجرد شكل بلا محتوى أو معنى. يقول ليمود: "لا يعنيني من أمر هذا العمل هنا سوى ما يثيره من إشكاليات نحن في أمس الحاجة إلى الوعي بها والتفكير فيها. لا يهمني هنا تقييم هذا العمل فنياً، بمعنى أنني ليس في نيتي أن أدافع عنه ولا أن أشجبه، ولكن بالنظر إلى قرن كامل من الممارسات الفنية التي أنتجت ما هو أغرب من هذا العمل، ليس أقلها تغليف فنان إيطالي آخر في مطلع الثلاثينيات خراءَه في علبة، كتب عليها “خراء الفنان“ وبيعه بما يعادل وزن العلبة ذهبا. لقد أصبح هذا العمل الذي نحن بصدده الآن واقعا فنياً، سواء احتفينا به أم شجبناه وسخرنا منه. نحن إذن نتعامل مع “واقع“، محطة من محطات تاريخ الفن، ورفضنا أو إنكارنا لهذا الواقع لن يغير من كونه واقعاً حدث ويحدث وترك أثره بالفعل على ما سوف يحدث"

يفرق ليمود هنا بين جانبين مختلفين وهامين متعلقين بعمل كاتيلان، ويرى أنه قد جرى الخلط بينهما على نحو لافت. "الجانب الأول هو العمل الفني نفسه كجسم للتأمل، والآخر هو عملية بيع هذا العمل والتجارة فيه بهذا الشكل المثير. يرى ليمود أن عملية الخلط هذه جعلت الأمر كله أكثر تعقيداً، فلو لم يباع العمل أو لو كان للعرض فقط وليس للبيع لما أثار كل هذا الاستهجان؛ والذي كان دافعه حسب رأيه هو بيع إصبع موز يساوي بالكاد دولاراً واحدا بأكثر من مئة ألف دولار.

-------------------------------------------------------------------------------

المزيد من ثقافة