ما إن تقترب ساعات المساء حتى تنشر الثورة الدفء بين الناس... ففي الأيام القليلة الماضية، تحولّت إحدى الخيم في ساحة النور إلى ما يشبه خلية نحل تعكس التفاعل بين مكونات المجتمع، ليؤكدوا قيم العطاء والتكافل الاجتماعي.
ولدت مبادرة "حضن الثورة بدفيك" على يد مجموعة مؤلفة من 13 شاباً، جمعتهم الخطوط العريضة لانتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول)، وأطلقت على نفسها "حشود"، وبحسب الناشطة فاتن غانم فقد انطلقت الحملة مع اقتراب فصل الشتاء وحاجة عدد كبير من الناس إلى المعاطف للشعور بالحرارة ولاتقاء برودة الطقس. ويقصد عدد كبير من الفقراء الخيمة للحصول على القياسات المناسبة، وتلفت إحدى السيدات إلى أنها أم لأربعة أولاد، يعمل زوجها بائعاً على إحدى البسطات، وقد وجدت ملابس نظيفة وفي حالة جيدة أفضل من تلك التي كان يمكن أن تشتريها من "سوق الباليه". كما تواجدت مجموعة من النساء والرجال الكبار في السن الذين يبحثون عن حذاء مناسب أو رداء طويل أو بيجاما شتوية، ومن لا يجد القياس المناسب، يتلقى وعداً بالحصول على واحدة فور توافرها.
من خزانتي...
ومع اقتراب موسم الشتاء، بدأت مجموعة من المتطوعين بمبادرة "الحراك يؤمّن الدفء لأولاده". الحملة انطلقت من خزانة الشبان الشخصية قبل أن تلقى تفاعلاً كبيراً وتتعمم على مختلف الأراضي اللبنانية. ويوضح الناشط ميشال صوان أن "كل فرد جمع كمية من ملابسه، قبل وضعها في متناول العائلات الأكثر فقراً في طرابلس التي تحصل بدورها على تلك الملابس".
وبعد أيام عدة اكتسبت المبادرة اهتماماً لافتاً، عندما ازداد التفاعل مع المحيط. وتدعو الناشطة فاتن غانم كل شخص يمكنه الاستغناء عن بعض ملابسه وأغراضه، أن يسارع للتبرع بها. وتلفت إلى أنه مع إقبال المتبرعين والمحتاجين بأعداد كبيرة، ازدحمت الخيمة، فما كان من أصحاب إحدى الخيم المجاورة إلا التنازل عنها وضمها إلى خيمة التبرع بالملابس.
"التحلي بالأخلاق"
لم يتوقف التفاعل عند هذه الحدود، بل بدأ عدد كبير من المواطنين بتقديم المساهمات والتبرع. وشهدت الخيمة حضوراً بارزاً لعدد كبير من الشبان الذين يحملون الأكياس المليئة بالثياب. وفي هذا السياق، قال الجامعي محمد سفرجلاني وهو أحد رواد الساحة، إن زيارته للخيمة لم تمر مرور الكرام، فهي حركت في داخله حس المساعدة، وهو الذي شارك منذ اليوم الأول بفاعليات الانتفاضة. فما إن عاد إلى المنزل حتى بدأ بجمع كمية من ثيابه الشتوية في أكياس. وقد لاقى تشجيعاً كبيراً من والدته وإخوته، وهؤلاء بدورهم بادروا للتبرع بمقتنياتهم الصوفية التي تتناسب مع المرحلة المقبلة.
وينصح محمد من يريد التبرع للفقراء بالتحلي بالأخلاق وعدم تقديم ثياب قديمة أو مهترئة، "لأننا نملك الكثير من الملابس الجديدة التي تضيق بها الخزانات، ولا نملك الوقت لنرتديها كلها، وهناك محتاجون كُثر لا بد من منحهم فرصة الدفء". وهو يدعو الجميع إلى "مساعدة إخوانهم لأن القطاع الاقتصادي إلى تراجع وهناك مخاوف جدية من تزايد الفقر".
ولم ينحصر التبرع بأهالي طرابلس ومحيطها الشمالي، وإنما تأتي أكياس الملابس من المناطق اللبنانية كافة. فقد تفاعل عدد كبير من اللبنانيين مع المبادرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وهم يرسلون تبرعاتهم إلى طرابلس، أو يجمعونها في نقاط محددة ويتوجه أحد المتطوعين بإحضارها إلى المدينة.
ملابس نظيفة للجميع
وعند وصول الملابس إلى الخيمة، تقوم مجموعة من الفتيات بفرزها وتصنيفها، وتعليقها بحسب الفئات والأنواع والمراحل العمرية المختلفة. ولا توضع في متناول الناس إلا القطع الجيدة وشبه الجديدة. ويوضح ميشال صوان أن الملابس التي تحتاج إلى التنظيف، تُرسل إلى إحدى المصبغات التي تعهد صاحبها بتنظيفها وكويها على نفقته.
أما المتطوعة ندى عبد الغفور فتجزم أنها شاركت في هذه المبادرة لأنها ستتمكن من تقديم الحد الأدنى من المساعدة التي تساهم في صمود المواطنين الفقراء، معتبرة أن "منح الملابس النظيفة للمحتاجين يؤكد أهمية التكافل الاجتماعي، إلا أنه غير كافٍ للفقراء، لأن الدولة عليها واجب تقديم الحقوق الأساسية للمواطنين". وهي تؤكد أن أية مبادرة مهما بلغ شأنها، هي بمثابة "ترقيع" لأنها "تُساعد جزئياً على المدى القصير في ظل غياب الدولة ومؤسساتها، وعدم توفير الخدمات الصحية والطبية للفئات الفقيرة".
الخطوات التالية
المبادرة لن تتوقف عند حدود تأمين الملابس للعائلات المحتاجة في المدينة الأكثر فقراً، والتي تُقارب نسبة البطالة فيها الـ 50 في المئة. ففي الأيام المقبلة يبدأ موسم عيدي الميلاد ورأس السنة، لذلك قررت المجموعة الخروج من دائرة الكلام إلى حيز الفعل، وهناك توجه لتأكيد التفاعل بين سائر مكونات مدينة طرابلس، وسيجري جمع التبرعات لتقديم الهدايا إلى أكبر عدد ممكن من العائلات المحتاجة في عاصمة الشمال.
ولن يقتصر الأمر عند حدود خيمة ساحة النور، وإنما سيتوجه المتطوعون إلى الأحياء والأسواق الداخلية، حيث يعيش عدد كبير من العائلات المحتاجة. لذلك يطمح القيمون على المبادرة لتأمين التبرعات الكافية لتأمين الملابس والطعام، وتعتقد فاتن غانم أن المبادرة التي ولدت في انتفاضة طرابلس من دون أي دعم من جمعيات أو زعماء، يجب أن تنتشر في المناطق اللبنانية كافة.
في حين، يأسف ميشال صوان ألا يفتح زعماء طرابلس أبوابهم أمام المواطنين إلا قبل الانتخابات بأسبوعين، ليغيبوا في السنوات الأربع اللاحقة عن تأدية واجباتهم تجاه ناخبيهم.