Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

شخصيات فلسطينية مأزومة... بين ماض قاتم ومصير مجهول

  انس ابراهيم يروي وقائع حياة جماعية في رام الله

مشهد من مدينة رام الله (يوتيوب)

يستبطن عنوان رواية "متسوِّلو الخلود" للكاتب الفلسطيني أنس إبراهيم (نوفل / هاشيت أنطوان) هاجس الزمن الذي يشغل الإنسان منذ وجوده على هذه الأرض. ولعلّ أنكيدو، في ملحمة جلجامش، الذي راح يبحث عن معنى لوجوده، هو أوّل متسوّل للخلود في التاريخ. والبحث عن المعنى هو هاجس إنساني عام، فالمرء مُذْ يبلغ أشدَّه يروح يطرح سؤال المعنى، ويجترح الوسائل التي يتسوّل بها الخلود، فينجب، ويكتب، ويبني، ويحارب، ويمارس حضوره الإنساني، لعلّه يحصل على عشبة الخلود لكنّ أفعى الزمان تكون له بالمرصاد، تختطف العشبة، وتحول دون بلوغه الغاية المرجوّة. ويبقى الإنسان معلّقاً في الزمان والمكان ومحكوماً بشرطه البشري.

سؤال الوجود والمعنى يطرحه أنس إبراهيم في روايته، من خلال الشخصيات وعلاقاتها الملتبسة، والأحداث التي تنتظمها، والمسارات التي تتّخذها،  والمصائر التي تؤول إليها. فشخصيات الرواية الرئيسية الخمس هي شخصيات مأزومة، تحمل وجعها وأحلامها المجهضة، وتفشل في العبور إلى الضفة الأخرى. تهرب من ماضٍ يطاردها، ترزح تحت حاضر يثقل كاهلها، وتبحث عن مستقبل لا يجيء. فهي معلّقة في الزمان والمكان بل لعلّها خارجهما. ولكلٍّ منها مسارها الذي يتقاطع مع مسارات الآخرين، ومصيرها الذي يشبه مصائرهم.

على أن العلاقات بين الشخصيات المختلفة هي علاقات ثنائية، فيتحرّك مكّوك الروي بين مجموعة من الثنائيات، يتغيّر أحد طرفي الثنائية الواحدة في كلّ مرّة فيما الطرف الآخر ثابت تجسّده شخصية بلقيس الكاتبة الصحفية، فتغدو الرواية، في الشكل، هي علاقتها بالشخصيات الأخرى. وهي علاقات تتمخّض عن مأزق الوجود الذي يعلق فيه الإنسان بين الولادة والموت، بين الماضي والمستقبل، بين الواقع والحلم، بين القمع والحرية، بين الضفّة الأولى والضفّة الثانية. فهو محكومٌ بشرطه البشري وخاضعٌ لأحكام المكان والزمان.

 مسارات روائية

تقدّم الرواية محموعة من المسارات الروائية التي تنخرط في ثنائيات علائقية، وئؤدّي إلى مصائر فاجعة. وفي قراءة لهذه الثنائيات، نرى فجوة آخذة في الاتّساع بين بلقيس الصحافية ويوسف الشاعر والأستاذ الجامعي اللذين يقيمان معاً دون إطار شرعي للعلاقة بينهما، في شقة الأخير في رام الله. وهي ناجمة عن الرتابة واختلاف الاهتمامات وزوايا النظر إلى الأمور. هو غارق في هواماته وتأمّلاته الشعرية يعيش في عالم من الكلمات والمجازات والصور منقطعاً عن العالم ويحلم بالخلود ويبدو غير مكترث. هي تشعر بالتهميش كعدمٍ مرئي، وتضيق ذرعًا بتأملاته، وتريد أن يعاملها وكأن لها كيانها لا ظلاًّ لأناه الحالمة، حتّى إذا ما اتّسعت الفجوة أكثر تفكّر في السفر والابتعاد والذهاب إلى غسان، الطبيب الذي تعرّفت إليه صدفةً في جامعة بيرزيت. وتأتي مجموعة من المصادفات المتعاقبة لتوطّد العلاقة بينهما، فيحاولان السفر معاً إلى أوروبا مروراً بعمّان للإقامة والعمل والبدء من جديد دون أن يكون ثمة إطار واضح للعلاقة الملتبسة، فهي، كما كانت الحال مع يوسف، لا تعرف إذا ما كانت صداقة أو حبّاً، غير أنّ محاولتهما تبوء بالفشل حين يعودان من منتصف الطريق، ويتبيّن أن الحنين إلى الماضي، على قسوته، هو أقوى من التطلّع إلى المستقبل، على غموضه، ما يجعلنا إزاء شخصيات نكوصيّة، متردّدة، خائفة، لا تعرف ما تريد، وهي صنيعة الظروف التي وُجِدت فيها أكثر ممّا هي صانعة لها.

 إنّ غموض العلاقة بين الطرف الثابت بلقيس في الثنائيّتين الأولى والثانية والطرفين  المتغيّرين يوسف وغسان يفسّر شذوذ بلقيس الجنسي الذي يتمظهر في الثنائية الثالثة، من خلال انخراطها في علاقة جنسية مع فرح منصور، الطالبة البرجوزية المثقفة التي تبوح لها بحبّها، حتى إذا ما استشعرت رغبة بلقيس لاحقًا في قطع العلاقة بينهما، أقدمت على الانتحار بقطع شرايين يدها. أمّا علاقتها  بوليد، الطرف الآخر من الثنائية الرابعة والمقاتل الشرس للاحتلال الذي ينتحر بمساعدة صديقه يوسف، فهي علاقة صداقة. على أنّ العلاقات الروائية ليست وقفاً على هذه الثنائيات الأربع بل ثمّة صداقة بين يوسف ووليد، من جهة، ويوسف وغسان، من جهة ثانية. هذه المسارات المتقاطعة تؤدّي إلى مصائر تتشابه في قتامتها ومأساويتها، ويلعب الماضي دوراً رئيسيّاً في تحديد هذه المصائر.

يوسف الذي يتسوّل الخلود باجتراح عالمه الخاص المفارق للعالم الواقعي وينخرط في كتابة الشعر معلّقًا على ذلك الآمال، يعاني علاقة ملتبسة مع الأب، ويحاول التمرّد على الواقع بإضرام النار في غرفته، ويخضع للعلاج النفسي، ويشهد انتحار صديقه وليد، ويتعرّض لقمع السلطة المحلية ويجنّ بنتيجة ذلك، حتى إذا ما رفضت بلقيس عرضه للزواج، يستيقظ متأخّراً على فشلٍ ذريع في الحياة والحب والشعر، ويؤول إلى الخرس والعزلة.

شخصيات مختلفة

غسّان الذي شهد طفلاً اغتصاب أمّه ومقتلها في مجزرة صبرا وشاتيلا، ويتمّ إدخاله المصحّة للعلاج من الصدمة، تطارده الكوابيس وتنتابه النوبات، وتنغّص عليه حياته، وتحول دون أن يعيش عيشة طبيعية، يخشى الخروج من شرنقته النفسية والمكانية، ويتردّد في المضي في السفر مع بلقيس والارتباط بها خوفاً من المجهول، وينكص على عقبيه عائداً إلى رام الله. وحين يعرض الزواج على بلقيس ترفض عرضه ما يجعله يتردّى في مزيد من العزلة، ويختفي في نهاية الرواية.

وليد المقاتل الشرس للاحتلال تطارده أشباح الشهداء من رفاقه، فيحس بالعجز والعبثية والخواء. وحين تطارده السلطة المحلية يلجأ إلى الحرش، ويكون من سخرية القدر أنّ المقاتل الشرس الذي أعيا المحتلّين قتله، تلدغه عقرب في الكهف الذي يقيم فيه، فيطلب من صديقه يوسف أن يساعده على الانتحار تخلّصًا من آلامه، فيفعل. 

أمّا بلقيس، الطرف الثابت في الثنائيات الأربع، فتعيش علاقات ملتبسة مع يوسف وغسان، وتريد أن تُعامل ككيان مستقل له جسده وروحه لا كظلٍ للرجل أو مرآة له في حالة انقطاعه عن العالم ولا كأداة له في حالة تصالحه معه، وتبدو معلّقة بين الابتعاد والارتباط، فلا تقوى على السفر ولا ترغب في الارتباط فترفض عرضي الزواج من يوسف وغسان، ولعلّ ذلك يعود إلى ميولها الجنسية فتجد نفسها منخرطة في علاقة مع فرح منصور تنتهي بانتحار الأخيرة، وحين يقتادها الملثّمون لإنزال العقوبة بها تموت في نوبة قلبية. وهكذا، تقدّم الرواية مجموعة من الشخصيات المأزومة، المعلّقة بين ماضٍ مضى ما ينفكّ يطاردها ومستقبل تحلم به ولا يجيء، فتتردّى في مسارات متعرّجة تودي بها إلى مصائر قاتمة، الأمر الذي يتناسب مع العالم المرجعي الذي تحيل إليه الرواية، في فلسطين، حيث كلُّ شيء معلّق بانتظار مجهولٍ ما.

   غير أن ثمّة تساؤلات مشروعة تطرحها عملية رسم الشخصيات وسير الأحداث في الرواية. فكيف لشخصية تحسّ بالخواء والعجز والعبثية كوليد تخوض المعارك الشرسة في وجه المحتلّين وتوقع فيهم القتلى والجرحى، فالمحبط والعاجز لا يقاتل. ثمّ كيف لمن يقاتل الاحتلال بجرأة وشجاعة أن يفرّ من سلطة محلية كان قد واجه بعض أدواتها وأسمع أحدهم كلمات نابية. ومن جهة ثانية، كيف لمجتمع يرفض العلاقة المثلية بين بلقيس وفرح وينقضَ على الأولى بعد انتحار الثانية أن يسمح بعلاقة المساكنة بين بلقيس ويوسف أو بلقيس وغسّان؟ أعتقد أن ثمّة ازدواجية في المعايير على هذا الصعيد تشي بها الرواية. وفي السياق نفسه، لا بدّ من الإشارة إلى عدم التناسب بين ماهية  الحوار ونوعيّته وبين اللحظة الروائية في بعض الأحيان، فقيام بلقيس وغسان بحوار ذي خلفية ثقافية مطوّل بينهما في غرفة الفندق في عمّان لا يتناسب مع لحظة التوتّر والانفعال والتردّد التي كانا يعيشانها وهي التي تقتضي قطع الحوار أو الاختصار فيه، على الأقل.

   هذه التساؤلات، على أهمّيتها، لا تلغي أنّنا إزاء عملٍ روائيٍّ ناجح، ينمّ عن نفس طويل، وقدرة واضحة على الإمساك بخيوط السرد والتصرّف بها بكفاءة، وتنوّع في تقنيات السرد، واستخدام اللغة الروائية المناسبة، لا سيّما أنّه العمل الروائي الأوّل لصاحبه ما يجعلنا نتوقّع له مستقبلاً روائيّاً واعداً.      

المزيد من ثقافة