قد يكون هناك شبه إجماع بين القوى السياسية اللبنانية المؤيدة للعهد والمعارضة له – المؤيدة للانتفاضة الشعبية- على أن التصريحات الأخيرة لرئيس الجمهورية ميشال عون أتت في وقت غير مناسب ومن خارج السياق الذي كانت الأمور تتجه نحوها، والتي بدأت تتبلور فيها مرحلة من شبه الهدوء والتوجه نحو التفاهم على أسس لحوار من نوع ما، يكون قادراً على استيعاب عدم عودة سعدالدين الحريري إلى رئاسة الوزراء على خلفية رفضه القبول بمبدأ حكومة "تكنو - سياسية"، على حساب موقفه المطالب بحكومة محض "تكنوقراط" استجابةً لمطالب قوىً سياسية مؤيدة للانتفاضة ومطالب قوى دولية تراقب عن كثب ما يجري في لبنان ومعركة إخراج حزب الله، حليف رئيس الجمهورية والعهد من السلطة والحكومة.
النتائج التي ترتبت على اللقاء المتلفز لرئيس الجمهورية، تسببت بحال من الإرباك في صفوف قوى السلطة خصوصاً في الصفوف المؤيدة لحزب الله، بخاصة أنها لم تحسم اتجاه الأمور سلباً أو إيجاباً، لا بل زادت عملية التفاوض مع الحريري تعقيداً، في ظل رغبة الحزب في عودته وتمسك رئيس الوزراء المستقيل بالعودة إلى الحكومة كآخر فرصة له لترميم شعبيته وموقعه ضمن تركيبة السلطة، إذ إن خروجه من دائرة الأسماء التي يمكن تكليفها بتشكيل الحكومة المقبلة يعني مقدمة لخروجه من الحياة السياسية، في حين أن شركاءه في التحالف غير المعلن سيبقون شركاء أمر واقع في مواجهة القوى الداعمة للعهد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهنا، يعتقد الحزب أن العودة الأخيرة إلى الشارع وإقفال الطرق الذي قامت به جماعات شعبية – حزبية لم يأت كرد فعل على خطاب الرئيس، بل نتيجة لشعورها بأن الأمور بدأت تخرج من يدها وأن العهد يتجه إلى اتخاذ خيارات وقرارات لن تكون في مصلحتها أو مصلحة بقائها ومشاركتها في الحل أو العملية السياسية.
وعليه فإن خطاب الرئيس جاء تلبية لحاجة قوى السلطة التي تريد مسوغاً يدفع الحراك إلى الوقوع في الفخ الذي نصبته لهم لتأمين الغطاء لتمرير موضوع إزاحة الحريري عن صدارة لائحة الملكفين بتشكيل الحكومة المقبلة وبالتالي جر الجدل إلى مكان آخر حول رئاسة الجمهورية بعيداً من التسوية الرئاسية.
ويمكن القول إن قوى السلطة استدرجت الأحزاب التي تقف إلى جانب الانتفاضة للعب في الملعب الذي تريده، فإذا ما كان جمهور الانتفاضة رافضاً لمبدأ استمرار رئيس الجمهورية في موقعه ويطالب برحيله، إلا أن الأخير ومن خلال المواقف التي قدمها في خطابه، والتي اعتبرها من الثوابت السياسية لحكمه والمتمثلة في:
حماية حزب الله ومشاركته في السلطة،
الحرص على بناء علاقة مع النظام السوري،
انتهاء الالتزام بالتسوية الرئاسية والبحث عن بديل لسعد الحريري.
فإن الأحزاب التي تقف على مسافة من التبني العلني للانتفاضة باتت اليوم هي الطرف الذي يقف بمواجهة حكم عون والسلطة مباشرةً من دون قفازات، خصوصاً بعد الحادث المؤلم الذي أودى بحياة المواطن علاء أبو فخر (المؤيد للانتفاضة)، أحد مناصري الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، حيث بات صعباً الذهاب حتى النهاية في تحميل السلطة وحدها المسؤولية عن سقوط الدم، وتظهير الدور الذي تقوم به هذه الأحزاب في الانتفاضة، وبالتالي استطاع العهد والقوى السياسية التي تقف وراءه، أن يجر قوى الانتفاضة والأحزاب المؤيدة لها إلى دائرة المواجهة المباشرة حول العناوين المكشوفة التي تشكل العناوين السياسية التي تُركت بعيدةً من الواجهة لمصلحة المطالب المعيشية والاقتصادية.
تكشف هذه التطورات أن لعبة "عض الأصابع" الجدية بدأت فعلياً وعملياً بين الأطراف السياسية، وهي لعبة قد تكون معقدة وطويلة الأمد لا توحي بأن الحلول فيها قريبة، بخاصة إذا ما ذهبت الأمور إلى الدفع بالحريري إلى إعلان اعتذاره عن التكليف بالشروط التي يريدها العهد وحلفاؤه على حساب الشروط التي يتمسك بها. أما في حال وافق الحريري على هذه الشروط وقبِل بحكومة "تكنو - سياسية" فإن ذلك سيكون على حساب تراجع صدقيته الدولية في المرحلة الأولى ودخول لبنان في مرحلة من الحصار الإقليمي والدولي في حال تأخر التسويات الإقليمية والدولية مع اللاعب الإقليمي الأول الداعم للحكم الحالي فيه، أي إيران.