ظل الكرملين يقاوم طويلا الإجماع الليبرالي حول المخدرات، مفضلاً سياسة متشددة تعتمد على التجريم والمعاقبة وملء السجون. لقد أنتج ذلك النهج انتقادات أكثر مما حققه من نجاح، لكن الرئيس فلاديمير بوتين أعلن يوم الاثنين الماضي عزمه على المضي أبعد من ذلك.
وفي أمر رئاسي نُشِرَ على موقع الكرملين، دعا بوتين المشرّعين إلى تشديد قوانين مكافحة المخدرات المتسمة أصلاً بالقسوة. ومن بين المقترحات التي سيُصادَقُ عليها كلها بالتأكيد من قِبَل البرلمان الروسي المدجَّن، فرض عقوبات بالسجن على أولئك الذين يثبت ضدهم ممارستهم "بروباغاندا لمصلحة المخدرات" على الإنترنت.
لا ينكر أحد أن روسيا تعاني مشكلة انتشار المخدرات بشكل خطير. وفي السنوات التي تلت انهيار الاتحاد السوفياتي، صار اختراق الحدود سهلاً، وباتت حيوات كثيرين بائسة، وارتفعت معدلات الإدمان في شتى أنحاء البلاد. وفي عام 2013 قدرت الحكومة نسبة الذين أصبحوا شديدي الإدمان على المخدرات بين السكان بـ6 في المئة، وأضحى الهيروين ومركبات جديدة مثل "سبايس"، الأكثر تفضيلا لإلحاق الأذى بالنفس في روسيا.
في المقابل، يُبدي كثيرون قلقهم من أن الخط الأكثر تشدداً الذي تبناه الكرملين سيُستخدَم لإسكات المعارضين للنظام، على غرار ما يشير إليه الصحافي جيرمان غالكين (51 سنة) الذي يفهم جيدا المخاطر الناجمة عن هذه السياسة الجديدة. وفي مايو(أيار) 2018، أُدينَ غالكين، رئيس تحرير صحيفة "لينتاتشل" المحلية في بلدة "تشليابِنْسك" الواقعة في غرب سيبريا، بتهمة نشره "بروباغاندا لمصلحة المخدرات"، فيما درجت القوانين سابقاً على اعتبار فعل كهذا مجرد مخالفة إدارية.
وتمثلت جريمة غالكين في كتابة مقالة حول جريمة قتل محلية وقعت تحت تأثير الكحول. وتساءل مازحاً بأنه إذا كان الكحول يؤول إلى العنف، فلمَ يبقى تناوله مشروعاً في حين يكون القنب الهندي ممنوعاً؟ وفي المقابل، عُرِفَ غالكين لدى السلطات بكتاباته المستقلة، ما جعله يواجه عجلة العدالة الروسية إذ غُرِّم مبلغ 40 ألف روبل (= 500 جنيه إسترليني)، ما يفوق المعدل الشهري للرواتب المحلية. وبديهي الإشارة إلى أنه سيواجه عقوبة السجن بموجب القوانين الجديدة.
وتحدث غالكين عن معاقبته مالياً على مقالته، "لقد تقبلت حقيقة أن روسيا تبقى روسيا"، لكنه الآن يسعى إلى رفع التماس إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان.
وفي قضية اخرى، عوقبت "مؤسسة أندري رايلكوف" الخيرية، المعنية بتقليل إلحاق الأذى بالذات، بدفع مبلغ 800 ألف روبل (10 آلاف جنيه إسترليني) لنشرها نصيحة طبية صريحة موجهة إلى متعاطي المخدرات. وكادت العقوبة أن توقف هذه الجمعية الخيرية عن ممارسة نشاطاتها، بحسب ما نقلته إلى صحيفة "الاندبندنت"، آنا كينتشفسكايا المحامية الموكَّلة عن "مؤسسة آندري رايلكوف". من ناحية اخرى، أضرت العقوبة بالمنظمة عبر طرق أخرى، إذ أغلقت الحوار المفتوح حول استراتيجيات التقليل من إيذاء النفس.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي هذا الصدد، أشارت كينتشفسكايا إلى أنّه "لا أحد سيخاطر بالقيام بأي شيء الآن... بات الأمر محفوفاً بالمخاطر في بلد كبلدنا، مع معدلات الوفاة العالية الناجمة عن الإيدز وتعاطي المخدرات". ثمة قضايا أخرى تبدو عبثية تماماً. ومثلًا، في الصيف الماضي لاحقت السلطات في بلدة "تشيبوكساري" الروسية ثلاثة تجار كانوا يبيعون ثياباً عليها رسوم للقنب الهندي. وجاءت العقوبات متساهلة في المعايير الروسية، إذ عوقب أحدهم بالتخلي عن 80 زوجاً من الجوارب وأُجبِر على التوقف أُسبوعين عن ممارسة التجارة.
في منحىً مُغاير، يرى محامي حقوق الإنسان أرسيني ليفنسون إنه من الصعب التيقّن من وضوح القواعد المتبعة في "مئات وربما آلاف" الأحكام الصادرة التي مرت على مكتبه خلال السنوات القليلة الأخيرة. ولا بد أن مصطلح "بروباغاندا" قد وُضِع بشكل فضفاض، ما يتيح استخدامه ضد كل شخص يكتب عن المخدرات. وأضاف أنه "من المحتَّم أن يصبح أداة قمع خطيرة ضد كل شخص لا يتفق مع سياسة الحكومة فيما يخص المخدرات". وتوقع المحامي ليفنسون أن هذا المصطلح "قد يستخدم ضد كل شخص يقوم بفعل بريء مثل إعادة وضع فيديو لأغنية راب على الإنترنت".
في تطوّر متصل، أشار ناشطون إلى إمكانية التعرض إلى انتهاك مفتوح من قِبَل عناصر فاسدة تعمل في مؤسّسات إنفاذ القانون. ومثلاً، في شهر يونيو(حزيران)، ضُبِطَ شرطي أثناء دسّه مخدرات للصحافي إيفان غولونوف كطريقة لمنعه من إجراء تحقيق عن خدمات الدفن في موسكو. وحين انتشرت أخبار الاعتقال في اليوم التالي، بدا كأن الصحافي البريء سيقضي سنوات عدّة في السجن، لكن حملة مكثفة من زملائه أدّت إلى إعادة التفكير في تلك القضية.
ونتيجة التحول في قضية ذلك الصحافي ظَن كثيرون أن الكرملين سيعيد النظر كلياً في سياسته المتعلقة بالمخدرات. وفي يونيو (حزيران) الماضي، سقطت تلك الأوهام على يد الرئيس الروسي. وأثناء حديثه السنوي عبر الهاتف، أقرّ بوتين بوجود إدانات قضائية كثيرة في قضايا تتعلق بالمخدرات، لكن التسامح لم يكن ضمن أجندته، بل تساءل، "هل نحتاج إلى تحرير ذلك المجال من نشاطنا؟ في رأيي، الجواب لا. ويرجع السبب إلى أن هذا الأمر يمثّل تهديداً كبيراً للأمة".
بالنسبة إلى جيرمان غالكين، تدل تعليقات الرئيس بوتين على أنه "غير مُلِم بالواقع الروسي... الرئيس لا يعرف ما يحدث... وكل ما يفعله يتمثّل في تحريك قبضتي يديه يساراً ويميناً، وليس من شأن ذلك أن يحل شيئاً".Top of Form
© The Independent