ملخص
منذ قرابة عام تدخلت إسرائيل بصورة عنيفة في الشأن السوري، تارة لتدمير الترسانة العسكرية التي خلفها النظام السابق، وتارة لحماية الدور والدواعي الأمنية وفق ادعاءاتها، خلال وقت كان متوقعاً الوصول إلى اتفاق أمني مع دمشق برعاية واشنطن.
شنت إسرائيل منذ سقوط نظام بشار الأسد نحو ألف هجوم على نقاط ومواقع سورية بما فيها المطارات والطائرات ومستودعات الأسلحة، ناهيك بتدخل عنيف أثناء الأحداث داخل محافظة السويداء، وقبلها في ضاحيتي العاصمة دمشق صحنايا وجرمانا، ذات الغالبية الدرزية وأدت من خلالها إلى إضعاف القدرات العسكرية السورية، إذ تقدر نسبة الأسلحة والقدرات المدمرة بنحو 80 في المئة من مخزون الجيش السوري وغالبيتها مما خلفه النظام السابق.
وخلال الأعوام السابقة كانت الطائرات الإسرائيلية تستهدف على الدوام أهدافاً ثابتة وأخرى متنقلة متعلقة بنشاط الميليشيات الإيرانية، وإمدادات الأسلحة إلى "حزب الله" من قبل إيران عبر الأراضي السورية. لكن هذه الاستراتيجية دخلت مرحلة جديدة مع سقوط نظام بشار الأسد وانتفاء الوجود العلني للميليشيات الإيرانية، ليتحول التهديد في سوريا والمعلن من قبل المسؤولين الإسرائيليين إلى حماية الحدود الشمالية من الجماعات المتطرفة، إضافة إلى التدخل من أجل حماية الدروز داخل سوريا الذي كان سبباً في قصف محيط "قصر الشعب" مقر إقامة الرئيس السوري أحمد الشرع، ومبنى هيئة الأركان التابعة لوزارة الدفاع وسط ساحة الأمويين بدمشق بعدما غادره المسؤولون العسكريون بلحظات.
أرقام جديدة للسيطرة
المصادر الرسمية السورية تتحدث عن أكثر من 400 توغل عسكري عابر للحدود المتفق عليها منذ الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024، إضافة إلى المساحة التي تمت السيطرة عليها بعد تجاوز خط وقف إطلاق النار وفق اتفاق عام 1974، إذ أعلنت إسرائيل من جانبها فقط وقف العمل بالاتفاق بداعي انسحاب الجيش السوري إثر سقوط النظام السابق، وعليه فإن المساحة المستولى عليها حديثاً من قبل إسرائيل، عدا كامل الجولان، تبلغ حتى الآن نحو 800 كيلومتر مربع وتشمل المنطقة العازلة التي كانت توجد فيها قوات فض الاشتباك الأممية، إضافة إلى مساحات أخرى وتشمل مناطق من محافظات القنيطرة ودرعا وريف دمشق حيث تبعد القوات الإسرائيلية بنحو أقل من 30 كيلومتراً فقط عن دمشق من الناحية الغربية، حيث مرصد جبل الشيخ القريب من بلدة قطنا.
زيارة برسائل
وضمن خطوة لافتة في مسار الصراع الإسرائيلي عبر الضغط على سوريا، جال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الأربعاء الماضي النقاط والتحصينات الإسرائيلية على جبل الشيخ والمنطقة العازلة، برفقة وزير الدفاع يسرائيل كاتس ووزير الخارجية جدعون ساعر ورئيس الأركان إيال زامير ومدير جهاز الأمن العام (الشاباك) ديفيد زيني، ونائب مدير وكالة الأمن القومي جيل رايش والسفير الإسرائيلي لدى الولايات المتحدة ومسؤولين عسكريين وأمنيين. وقال نتنياهو من المنطقة التي تطل على المساحات الممتدة في السهول والهضاب السورية التي تصل إلى دمشق على مدى النظر، إن وجود قواته في هذه المنطقة ذو أهمية بالغة من الناحيتين الهجومية والدفاعية. وأضاف، مخاطباً الجنود، أن هذه مهمة يمكن أن تتطور في أية لحظة "لكننا نعتمد عليكم".
في المقابل، دانت الخارجية السورية جولة نتنياهو بشدة ووصفتها بـ"غير الشرعية"، معتبرة ذلك انتهاكاً خطراً لسيادة سوريا ووحدة أراضيها.
وأكدت الخارجية السورية أن "هذه الزيارة تمثل محاولة جديدة لفرض أمر واقع يتعارض مع قرارات مجلس الأمن ذات الصلة، وتندرج ضمن سياسات الاحتلال الرامية إلى تكريس عدوانه واستمراره في انتهاك الأراضي السورية".
وجددت سوريا مطالبتها بخروج القوات الإسرائيلية من أراضيها، مشددة على أن "كل الإجراءات التي يتخذها الاحتلال في الجنوب السوري باطلة ولاغية ولا ترتب أي أثر قانوني وفقاً للقانون الدولي". وعلى ذات المسار دان عدد من الدول العربية الخطوة الإسرائيلية.
جولة نتنياهو جاءت عقب إعلان مصدر إسرائيلي وصول المفاوضات في شأن اتفاق أمني بين سوريا وإسرائيل إلى طريق مسدود. وذكرت "هيئة البث الإسرائيلية" أن الفشل عائد إلى تمسك دمشق بانسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي سيطر عليها منذ سقوط نظام الأسد خلال ديسمبر 2024، بينما تشترط تل أبيب توقيع "اتفاق سلام شامل" قبل أي انسحاب، رافضة الاكتفاء بـ"اتفاق أمني". وهو ما أكده الشرع في زيارته التي سبقت هذه التطورات إلى واشنطن، إذ شدد ضمن مقابلة صحافية في شأن تقدم المفاوضات بين الطرفين على ضرورة وصول الاتفاق النهائي إلى انسحاب القوات الإسرائيلية إلى ما قبل حدود الثامن من ديسمبر 2024، معتبراً أن "التوسع الإسرائيلي في الجنوب السوري لا يرتبط بمخاوف أمنية فحسب، بل بطموحات سياسية".
رسم حدود النفوذ
وكان معهد دراسات الحرب الأميركي نشر خلال سبتمبر (أيلول) الماضي، خريطة تفصيلية تعمل إسرائيل لتثبيتها مع سوريا عبر تقسيم كامل الجنوب السوري إلى ثلاث مناطق منزوعة السلاح لضمان أمنها، من خلال منطقة عازلة محاذية تضاف إلى المنطقة العازلة السابقة بمقدار كيلومترين داخل الجولان والقنيطرة، ثم منطقة مجاورة للمنطقة العازلة والأقرب إلى الحدود الإسرائيلية وتشمل المنطقة المتبقية من محافظة القنيطرة وأجزاء من ريف دمشق الجنوبي الغربي وأجزاء واسعة من درعا، ولن تتمكن القوات العسكرية السورية والأسلحة الثقيلة من الوصول إلى هذه المنطقة، التي ستكون متاحة للشرطة والأمن العام السوري فحسب.
أما المنطقة الثالثة وهي متعلقة بأمن الدروز في الجنوب السوري أيضاً، تمتد من شرق محافظة درعا مروراً بريف دمشق الجنوبي وصولاً إلى محافظة السويداء، وتصنف كمنطقة حظر طيران، وانعكست لاحقاً على اتفاق عمان الثلاثي بين الولايات المتحدة والأردن وسوريا في شأن أمن السويداء، إذ نشرت الخارجية السورية بنودها ونصت على انتشار القوى الشرطية والأمن العام التابع لوزارة الداخلية في الحدود الإدارية فقط لمحافظة السويداء.
جولة واسعة بالطيران الحربي
لم تتوقف رسائل إسرائيل بزيارة نتنياهو الميدانية إلى الجنوب السوري بل عقبها بيوم واحد، جال سلاح الجو الإسرائيلي من خلال سرب مكون من ثماني طائرات حربية، في سماء سوريا انطلاقاً من الجنوب مروراً بمناطق حمص وحماة وسط سوريا وحتى أجواء إدلب ولواء الإسكندرون على الحدود السورية - التركية على ساحل البحر المتوسط، وهو ما رأى فيه مراقبون بأنه رسم لحدود نفوذ الجيش الإسرائيلي داخل سوريا ورسالة إلى تركيا التي تحاول إنشاء قواعد عسكرية على الأراضي السورية.
من جهتها علقت تركيا على لسان وزير خارجيتها هاكان فيدان الأسبوع الماضي بالقول، إن أنشطة إسرائيل في القنيطرة ودرعا والسويداء أنتجت توتراً جديداً جنوب سوريا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
المسار المعطل
ويرى الباحث في الشأن الإسرائيلي أليف صباغ من الجليل أن الاتفاق الأمني الذي كان متوقعاً الوصول إليه بين سوريا وإسرائيل معطل إلى أجل غير محدد لأسباب عدة، أولها المطالب الإسرائيلية عالية السقف والتي تشمل بقاء قواتها في قمة جبل الشيخ التي احتلتها أخيراً، وهذه القمة تشرف على سوريا ولبنان والأردن وحتى جزء من العراق، وتريد إسرائيل من الشرع أن يتنازل رسيماً عن المطالبة بالجولان المحتل منذ عام 1967. وبحسب صباغ وإضافة إلى كل ذلك "تريد إسرائيل إبعاد الجيش السوري إلى حدود دمشق، حتى إنها لا تقبل بإنشاء قاعدة عسكرية أميركية جنوب دمشق لمراقبة الجيش السوري، إضافة إلى إصرار إسرائيل على أن يضمن الاتفاق الأمني إنشاء هيئة للتنسيق الأمني على شاكلة قوى التنسيق الأمني في الضفة الغربية".
ويعد صباغ أن رفض تركيا للشروط الإسرائيلية في إطار الصراع الإقليمي بينهما، لا سيما على النفوذ في سوريا، يعد سبباً ثانياً لتعطيل الاتفاق الأمني"، فيما يجمل السبب الثالث في "عدم قدرة الشرع على تمرير أي اتفاق يتضمن بالشروط الإسرائيلية داخل القوى المتصارعة داخل سوريا، مما قد يعرضه شخصياً إلى الخطر ويعرض السلطة أيضاً إلى الخطر".
ولفت الباحث في الشأن الإسرائيلي إلى أن "زيارة نتنياهو إلى المواقع العسكرية الإسرائيلية الجديدة في الجولان الشرقي تُعد رسالة في كل الاتجاهات، مفادها أن إسرائيل لن تنزل عن قمة جبل الشيخ وأنها مصرة على شروطها، وهي رسالة تحدٍ لتركيا أولاً، إذ سبق ذلك تصريح لنتنياهو قال فيه ’نحن أقوى دولة في الشرق الأوسط، نحن الذين أسقطنا الأسد وليس تركيا‘، بكلمات أخرى إسرائيل تقول ’نحن باقون هنا بالقوة‘".
تعقيدات المشهد الجنوبي
ويسير المشهد في الجنوب السوري إلى مزيد من التعقيد مع تداخل علاقات الدول الإقليمية والدولية الكبرى، لا سيما عقب صعود العلاقة الفتية بين الشرع والرئيس الروسي فلاديمير بوتين وزيارة موسكو، ثم زيارة وفد عسكري روسي ضخم إلى دمشق مع حديث عن إمكانية تسيير دوريات روسية في خطوط من الجنوب السوري مقابل النفوذ والتدخل الإسرائيلي، إذ يعتقد الباحث أليف صباغ أن "محاولة دخول روسيا للعب دور أمني جنوب دمشق هو رغبة روسية، وربما يعتقد الروس أنهم سيكونون مقبولين من الإسرائيليين والسوريين معاً"، إلا أنه يرى أنها "محاولة فاشلة"، مستبعداً خلال الوقت ذاته توتر العلاقات الإسرائيلية الأميركية. وقال "يخطئ من يعلق آمالاً على ذلك"، موضحاً أن "بين الحين والآخر تختلف المصالح بين الحليفين وسرعان ما يُتفاهم على ذلك، إذ لا يوجد لأميركا أي حليف في الشرق الأوسط أهم من إسرائيل، بينما لتركيا مكانة خاصة كونها جزءاً من حلف الأطلسي وتقدم لأميركا خدمات عسكرية وأمنية كبيرة".