ملخص
وعود الثراء تقتحم هواتف الشباب بإعلانات ممولة وتوصيات لمدراء المحافظ وعمولات خاصة لسماسرة مقابل المنضمين الجدد... ومتخصصون يحذرون من "محرقة رؤوس الأموال"
لم تعد المغامرة في أسواق المال محصورة برجال البورصة أو أصحاب الملايين، فيكفيك اليوم، هاتف ذكي، واتصال بالإنترنت، وإعلان يعدك بأن "تصبح مليونيراً من غرفة نومك"، لتضع قدميك على أول الطريق، طريق يبدو مفروشاً بالأرباح، لكنه كثيراً ما ينتهي إلى هاوية.
في مصر، تنمو في الظل عوالم "الفوركس"، وتطبيقات الاستثمار في المعادن النفيسة، ومنصات العملات المشفرة، وبداخل كل منها آلاف الشباب الباحث عن فرصة، أو خلاص اقتصادي، أو حتى انتقام من واقع خانق.
وبين وعود الأرباح السريعة، وواقع الخسائر المرعبة، تختبئ قصة أكبر: أسواق تحركها البنوك المركزية والصناديق السيادية حول العالم، بينما الأفراد مجرد أرقام صغيرة تتحرك على شاشة ثم تختفي.
ما هي "الفوركس"؟
تُعدّ "الفوركس" (Forex) اختصاراً لعبارة Foreign Exchange Market، وهي أكبر سوق مالية في العالم من حيث حجم التداول اليومي الذي يتجاوز سبعة تريليونات دولار، ومنصة لتبادل العملات بهدف الربح أو التحوّط من أخطار تقلبات الأسعار، وتتميّز بلا مركزيتها فتعتمد على شبكة عالمية من البنوك والمؤسسات المالية.
وتعمل تلك السوق على مدار 24 ساعة يومياً، خمسة أيام في الأسبوع، نظراً لتداخل التوقيت بين المراكز المالية الكبرى في آسيا وأوروبا وأميركا، وفيها تتداول ما يُعرف بـ أزواج العملات مثل EUR/USD أو USD/JPYإذ تُشترى عملة وتُباع أخرى بشكل متزامن.
ويشارك في هذه السوق أطراف متعددة، أبرزهم البنوك المركزية التي تؤثر بسياساتها النقدية في أسعار العملات، إضافة إلى البنوك التجارية والاستثمارية، والصناديق السيادية، وصناديق التحوط، بجانب الشركات متعددة الجنسيات، والمتداولين الأفراد الذين يدخلون السوق عبر شركات الوساطة الإلكترونية.
وتنبع أهمية "الفوركس" من ضخامته وسيولته العالية، وإمكانية التداول باستخدام الرافعة المالية التي تمكّن المتداول من التحكم في مبالغ ضخمة برأس مال محدود.
عالم الأرباح والخسائر
ويوفر هذا العالم فرصاً للربح سواء عند ارتفاع أو انخفاض العملات، ويُعد انعكاساً مباشراً للأحداث الاقتصادية والسياسية حول العالم، لكن على رغم ذلك، تنطوي سوق "الفوركس" على أخطار عالية، أهمها أن الرافعة المالية يمكن أن تضاعف الخسائر كما تضاعف الأرباح، إلى جانب التقلبات الحادة الناتجة من الأخبار المفاجئة، ووجود شركات وساطة غير مرخصة أو احتيالية، فضلاً عن الخسائر الناتجة من ضعف إدارة رأس المال وقلة الخبرة.
وبينما يظن المتداول الصغير في القاهرة أو الإسكندرية أنه "يلعب على نفس الملعب" مع محترفي نيويورك ولندن، تكشف الحقيقة أن ما يراه على شاشته ليس سوى صورة مبسطة لسوق شديدة التعقيد، تحكمها قرارات "الفيدرالي الأميركي"، والتقارير الاقتصادية، والتغيرات الجيوسياسية.
خلف الأرقام البراقة وإعلانات "حقق الحرية المالية" الممولة على مواقع التواصل الاجتماعي تختبئ قصص مؤلمة لشباب فقدوا كل شيء، فالمتداولون الجدد يدخلون السوق بحماسة ورغبة في الربح السريع، من دون وعي بأخطارها الحقيقية، ومن دون معرفة أن الرافعة المالية Leverage التي تتيح لهم المضاربة بأموال أكبر من رأسمالهم، هي السلاح الأخطر الذي يضاعف الخسائر أكثر مما يضاعف الأرباح.
القوانين في مصر
هناك من باع سيارته، وآخر رهن منزله، وثالث استدان ليعوض خسارة سابقة، قبل أن يدرك أن اللعبة ليست عادلة، وأن الكبار لا يخسرون أبداً، ومع كل هبوط في المنحنى، تسقط معه أعصاب، وبيوت، وصحة، وأحياناً أرواح.
في مصر، يحظر قانون البنك المركزي والجهاز المصرفي رقم 194 لسنة 2020 التعامل غير المرخص بالعملات المشفرة أو النقود الإلكترونية، ويجرّم إصدار أو إنشاء أو الاتجار أو الترويج للعملات الرقمية، أو تشغيل منصات لتداولها، أو القيام بأي نشاط مرتبط بها، وذلك من دون الحصول على ترخيص مسبق من البنك المركزي المصري.
وتصل العقوبات وفق أحكام القانون، إلى الحبس أو الغرامة التي لا تقل عن مليون جنيه (21 ألف دولار) ولا تجاوز 10 ملايين جنيه (210 آلاف دولار)، أو بإحدى هاتين العقوبتين.
نشاط غير قانوني في مصر
ويجرم القانون رقم 146 لسنة 1988 الصادر في شأن الشركات العاملة في مجال تلقى الأموال لاستثمارها، الشركات من توجيه دعوة للجمهور بأية وسيلة مباشرة أو غير مباشرة للاكتتاب العام أو لجمع هذه الأموال لتوظيفها أو استثمارها أو المشاركة بها.
ونبهت الهيئة العامة للرقابة المالية في مصر، من خطورة الانسياق خلف دعوات بعض الأفراد والجهات عبر صفحات ومنصات إلكترونية للاستثمار في أدوات ومنتجات مالية بالمخالفة للقانون المصري، الأمر الذي يعرض المتعاملين فيها لأخطار جسيمة، تضعهم تحت طائلة المساءلة القانونية.
على موقعها الإلكتروني، تشير "هيئة الرقابة المالية" إلى أن "الفوركس" نشاط غير قانوني في مصر، بجانب العملات المشفرة، محذرة من أن المروجين والمسوقين لتلك الأنشطة يضعون أنفسهم تحت طائلة المسؤولية القانونية أمام الجهات المختصة لمخالفتهم أحكام القانون المصري.
قصة حزينة
لكن القوانين والتحذيرات لم تَحُل دون أن يخُض علي جادالله، الفلسطيني من أم مصرية التجربة كاملة بقسوتها ومرارتها، ففي حديثه لــ"اندبندنت عربية"، يروي كيف بدأ التداول عام 2013، حين كان يعتقد أن المغامرة تنطوي على فرصة للتحول إلى "مليونير صغير".
يضيف جادالله الذي يعيش متنقلاً بين القاهرة وأوسلو، "دخلت السوق بـ10 آلاف دولار، ثم 15 ألفاً، وكنت أمتلك محافظ وصلت لـ200 ألف دولار، لكن منذ 2014 خسرت أكثر من مليون دولار، ما اضطرني إلى بيع عقار أملكه في النرويج لكي أسدد ديوني."
انضم جادالله إلى إحدى القنوات على تطبيق التواصل الاجتماعي "تيليغرام" بحثاً عن النصيحة المالية ثم تكبد الخسائر هناك، "غالبية من يعطوا التوصيات لا يملكون محافظ حقيقية. دورهم ينتهي عند جذب الزبائن والحصول على العمولة من الشركات عن كل منضم جديد للسوق كنسبة مئوية من رصيد المحفظة، أو بمعنى آخر كلما خسرت أنت، هم كسبوا."
أرق وتوتر وعزلة وإدمان
أما شركات الوساطة، فكثير منها يعمل من خارج مصر، وبعضها يتهرب من أي رقابة محلية، مستفيد من غياب تشريعات تنظم التداول الإلكتروني أو تحمي صغار المستثمرين، بحسب جادالله الذي يعزز روايته حول أوهام الثراء السريع بالاستدلال بأخيه المقيم في كندا، والذي سقط هو الآخر تحت طائلة الديّن بفعل "الفوركس".
تجاوزت خسائر "الفوركس" الجانب المالي لتصل إلى الانهيار النفسي والاجتماعي، فكثير من المتداولين عانوا من الأرق والتوتر والعزلة والإدمان.
يوسف غريب، عشريني داعبت الفكرة خياله: أن تكون مليونيراً في هذه السن الصغيرة هو الإنجاز عينه، لكن قصته تشبه مئات غيره ممن خاضوا التجربة بدافع الطموح، وانتهى بهم الحال بخسارة مدخراتهم، البعض باع سيارته، وآخرون رهنوا منازلهم، وهناك من باع ذهب زوجته على أمل "تعويض الخسارة" في الصفقة المقبلة.
عالم افتراضي
غريب الذي يعمل في مجال التسويق، اقتحم عالم "الفوركس" بلا دراية تعينه، وبعد جولة مكوكية على بعض المؤثرين على موقع "يوتيوب" بدا كغارق في سيل جارف من التفاصيل، قرر على إثرها البحث عمن لديه سابق تجربة، أو "قدوة ناجحة" كما يصف.
تعرف غريب على سامر من خلال أحد تجمعات الدردشة، وبدا معجباً حين رأى تعليق الأخير بوصفه خبيراً بحركة سوق العملات المشفرة وما تحمله من أرباح مؤكدة بفعل بيانات اقتصادية مرتقبة وقرارات لـ"الفيدرالي الأميركي"، ثم تواصل معه – يضحك - لينهل من بحر خبرته الواسع، كما يصف.
"عرفته عن قرب، خسر المال في هذه اللعبة الخطرة ثم خسر بعده البيت والزوجة... فقد حياته كلها" يصف غريب حال سامر بعد أشهر من التواصل عن قرب، مضيفاً "أمام خسائر العملات المشفرة، باع ذهب زوجته ثم حاسوب (لابتوب) يملكه، ولم يسلم حتى هاتف طفله الصغير الذي يشاهد عليه مقاطع الفيديو، وصار منفعلاً طيلة الوقت بفعل تراكم الخسائر والديون، ثم قرر الابتعاد عن عائلته والإقامة وحيداً. كان يدخن في اليوم الواحد ثلاث علب من السجائر، وكان رثّ الهيئة ذو طلة فوضوية... صارت حياته كلها جحيماً لا يطاق".
الربح مصادفة والخسارة مؤكدة
أما المتحدث إلينا، يوسف غريب، فيضيف "خضت التجربة، لم أعرف سوى النوم المتقطع بفعل مراقبة الشاشات ليلاً من الإثنين إلى الجمعة (أيام عمل السوق)، وكنت أدخن كثيراً. السوق دوامة، وكل يوم أنتظر الصفقة التي تعوضني الخسارة، ثم أفاجأ بخسارة جديدة، إلى أن اكتويت واكتفيت وهممت بمغادرة تلك المساحة إلى الأبد".
عالم يتلألأ بالبريق من بعيد، لكنه حين تقترب منه تكتشف أنه جمر مشتعل، لا يرحم مَن يمد إليه يده، بحسب سعيد مكاوي وهو اسم مستعار لشخص ثالث تحدث إلينا حول تجربته في عالم "الفوركس".
يضيف مكاوي أن "هذا الطريق هو لعب بالنار، وبداية الدمار لكل شاب يحلم بالثراء السريع، متذكراً بمرارة كيف كان الحلقة الأضعف في لعبة مقعدة تتجاوز حدود عقله وخبرته".
"طاولة قمار كبيرة"
"الفوركس، أشبه بطاولة قمار كبيرة، إما أن تربح بالصدفة، أو تخسر بعين القانون، في البداية يغريك المندوب بأن تستثمر مئة أو مئتي دولار فقط، فتدخل مطمئناً، ثم تخسر، فتبدأ رحلة الثأر من الخسارة، وهناك تبدأ المأساة" يضيف مكاوي.
ويعتقد أن السوق لا تتحرك وفق أحلام البسطاء، بل وفق أدوار مرسومة من قبل المؤسسات المالية الكبرى، أما التوصيات التي تمطرهم بها قنوات "تيليغرام"، فكثير منها لا يعكس واقع السوق، بل خُطط مدروسة للإيقاع بالناس وخسارتهم.
"دخلت مع شخص أوهمني بأن يجعلني مليونيراً في غضون ستة أشهر فقط، لكنه اشترط أن أضع ألفي دولار في السوق، وفي يومين فقط تلاشى كل شيء... بالمناسبة هناك من يربح، لكنهم لا يتجاوزون 10 في المئة من مجموع من هم بالسوق"، بحسب إفادته.
منطقة رمادية
"هذا مشروع فاشل، لا يُدمّر أموالك فقط، بل حياتك الاجتماعية أيضاً" بحسب مكاوي، الذي عاش مكتئباً بعد خسارة أمواله في قلق ممتد، بلا شهية للطعام وعين ساهدة وجنب جافية خاصمها النوم، تتوالى الخسائر وتحترق الأعصاب.
في "الفوركس" كل شيء هناك مرتبط بالاقتصاد العالمي، العملات، المعادن، والنفط، وتقارير البطالة في أول جمعة من كل شهر، ومعدل الفائدة كل ثلاثة أشهر، وصوت المدافع حين يدوي في مكان ما من العالم، والرافعة المالية هي الكمين الأكبر، تُضخم الحساب ظاهري لتُسقطك في حفرة لا مخرج منها.
على رغم انتشار الظاهرة، لا يزال التداول الإلكتروني في مصر منطقة رمادية، فلا توجد جهة رسمية تشرف على المنصات الأجنبية التي تستهدف المصريين، ولا قوانين واضحة لحماية المتداولين من الاحتيال، ومع توسع هذه التطبيقات في الوصول إلى المستخدمين عبر الإعلانات ومواقع التواصل، تتسع دائرة الخسائر في صمت.
أفخاخ المضاربات وأوهام الثروة
في حديثهم لـ"اندبندنت عربية"، يرى خبراء المال أن تسارع التحول الرقمي عزز من شعبية التداول الإلكتروني عبر تطبيقات الهواتف الذكية، ومع تنامي مبادرات الاستثمار خصوصاً لدى فئة الشباب، يتعين الحذر من الوقوع في أفخاخ المضاربات وأوهام الثروة وصناعة الملايين، في وقت يتعين على الجهات الرقابية الفاعلة أن ترعى التثقيف المالي ونشر الوعي بهذا الخصوص.
في البداية، ينبه عضو الجمعية المصرية للاقتصاد والتشريع محمد أنيس، بأهمية التثقيف المالي والاستثماري بأن تتولاه وترعاه جهات مسؤولة مثل البورصة وهيئة الرقابة المالية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومع تسارع التحول الرقمي وانتشار التطبيقات، يرى أنيس، في حديثه لـ"اندبندنت عربية" أن الاستثمار بات أمراً سهلاً، فلا حاجة من منظور المنضمين الجدد من المستثمرين الأفراد للذهاب إلى شركات تداول الأوراق المالية وعمل كود وفتح محفظة عبرها، بل يكفي تثبيت التطبيق على الهاتف والبدء بمبلغ 5 أو 10 آلاف أو 50 و100 ألف، وهو أمر بقدر ما هو إيجابي وصحي، يتعين أن يخضع لرقابة الجهات الفاعلة والمعنية.
محرقة رؤوس الأموال
ويميز أنيس بين أمرين، شراء أسهم في شركة ما، وهنا نكون أمام امتلاك أصل حقيقي في سوق مالية معتمدة وخاضعة للرقابة، بعكس "الفوركس" التي لا تنطوي على امتلاك أصل حقيقي، بل مجرد مراهنات على العملات، وبها تكون فروقات الحركة صغيرة للغاية، بالتالي فإن تحقيق الأرباح في تلك السوق يحتاج إلى امتلاك رأس مال كبير أو العمل بـ"مارجن" كبير (مبلغ مالي يُودع كضمان لفتح صفقات تداول باستخدام الرافعة المالية، وهو ليس مبلغاً لشراء الأصول نفسها بل يُحتجز موقتاً لتغطية أي خسائر محتملة).
خطورة هذا الاستثمار الأخير، كما يوضح أنيس، في إمكان تبخر المال كله وقد لا يحتاج ذلك سوى للحظات قليلة، ما يجعل لعبة الربح في هذه السوق لمن هم شديدو الاحترافية في فهم المتغيرات الاقتصادية وجيو استراتيجية محلياً ودولياً، أو من يمتلكون رؤوس أموال كبيرة.
يصف عضو الجمعية المصرية للاقتصاد والتشريع، "الفوركس" بـ"مقصلة ومحرقة" لرأس المال لفئة صغار المستثمرين الحالمين بمضاعفة المدخرات بشكل سريع.
التداول من دون عمولات
ويُظهر المسح الثلاثي الذي أجراه بنك التسويات الدولية لعام 2025 أن متوسط حجم تداول العملات الأجنبية اليومي عالمياً ارتفع من 7.5 تريليون دولار في عام 2022 إلى 9.6 تريليون دولار في أبريل (نيسان) 2025، بزيادة ملحوظة بلغت 28 في المئة، وتضم سوق "الفوركس" اليوم ما يقارب 9.6 مليون متداول في العالم.
تزامن نمو "الفوركس"، مع تطور أسواق المال خلال الأعوام الأخيرة، بحسب ما يقول مدير صناديق الاستثمار بلندن، منذر الشحومي لـ"اندبندنت عربية"، وذلك بفعل الانتشار الواسع للتطبيقات التي تتيح التداول من دون عمولات تقريباً عبر الهواتف الذكية.
من خلال هذه التطبيقات، يشير الشحومي إلى تمكن ملايين الأفراد من دخول عالم الاستثمار بسهولة لم تكن متاحة لهم سابقاً، إذ تشير بيانات السوق إلى أن إيرادات تطبيقات التداول في عام 2024 تجاوزت 24.7 مليار دولار وبلغ عدد مستخدميها نحو 145 مليون شخص، وهذا يوضح كيف أصبح التداول الرقمي قوة شرائية لا يمكن تجاهلها.
استقطاب جيل الشباب
لكن الشحومي يفرق بين فئات مختلفة ضمن هؤلاء المشاركين الجدد، فالبعض يندرج تحت ما يمكن تسميته "المتداولين" الذين يمارسون المضاربة اليومية أو قصيرة الأجل على الأسهم والعملات والسلع أو حتى العملات المشفرة، وهذه الفئة غالباً ما تستخدم أدوات معقدة مثل المشتقات وعقود الفروقات ويمكن أن تستعين بهامش الائتمان لتعظيم ربحها، ما يجعلها عرضة لخسائر كبيرة إذا سارت السوق عكس توقعاتها.
بالمقابل، يوجد "المستثمرون" الذين يركزون على بناء محفظة طويلة الأجل في الأسهم أو الصناديق أو السندات، ويستخدمون المشتقات غالباً لغرض التحوط وليس للمضاربة، بحسب الشحومي.
ولا ينكر المتحدث أن تلك الثورة الرقمية حملت معها الكثير من الإيجابيات، فالرسوم المنخفضة سهلت دخول الفئات ذات الدخل المنخفض، والأبحاث تظهر أن الشباب يبدؤون الاستثمار في سن مبكرة بشكل غير مسبوق، وبحسب تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي فإن 30 في المئة من "جيل زد" استثمروا في الجامعة أو بداية العمل مقابل ستة في المئة فقط من جيل الطفرة.
سلوك القطيع
لكن مع انتشار المنتديات والوسائل الاجتماعية أصبحت المعلومات المالية أكثر وفرة، وفق ما يوضح الشحومي، بل إن بعض المستخدمين يعتمدون على توصيات متابعين عبر Reddit أو "تيك توك"، ومع ذلك، يمكن لهذه المجتمعات أن تتحول إلى غرف صدى تعزز من سلوك القطيع، كما حدث في قصص GameStop وAMC حين رُفعت الأسعار إلى مستويات لا تعكس قيمة الشركات الحقيقية، وعندما انتهت الحملة خسر الداخلون المتأخرون جزءاً كبيراً من أموالهم.
الأمر الآخر هو ارتفاع الاعتماد على التداول بالهامش، والذي بلغ في سبتمبر (أيلول) الماضي رقماً قياسياً، بـ1.13 تريليون دولار بزيادة 38.5 في المئة عن العام الماضي، ما يبعث على القلق لأن الهامش يعظم الخسائر كما يعظم الأرباح.
يتابع المتخصص، "إلى جانب ذلك، أصبحت التطبيقات تضيف عناصر ألعاب مثل الشارات والجوائز، وهذا ينعكس بوضوح في تحذيرات هيئة السلوك المالي البريطانية التي أظهرت أن الإشعارات ونقاط المكافآت زادت من عدد الصفقات بنسبة 11 إلى 12 في المئة ورفعت من نسبة الصفقات المحفوفة بالأخطار، والدراسات كذلك تحذر من أن الكثير من الأفراد ينجرفون إلى التداول بحثاً عن الإثارة وليس بناء على استراتيجيات مدروسة".
الوقوع في مطبات الديون
لا يتجاهل الشحومي عامل التحيزات النفسية، فالمستثمرون، كما يوضح، يميلون إلى بيع الأصول الرابحة بسرعة والاحتفاظ بالخاسرة لفترة أطول أملاً في التعافي، وهو ما يسمى بتأثير التصرّف أو الارتباط بالأصل، وهذه التحيزات إضافةً إلى تحفيزات التطبيقات قد تؤدي إلى نتائج سلبية إذا لم يدركها المستخدمون.
ويخلص في حديثه إلى أن السوق اليوم أصبحت أكثر انفتاحاً وتسمح حتى لصغار المستثمرين بتحقيق عوائد جيدة إذا تعلموا إدارة الأخطار والتمييز بين المضاربة القصيرة والاستثمار طويل الأجل، فهذه الثورة الرقمية، كما يضيف، جاءت بأخطار أهمها الإغراء بالتداول المفرط، والاعتماد على الهامش، وموجات المضاربة الجماعية التي قد تتحول إلى فقاعات، وعلى المستثمرين أن يظلوا واعين لتلك التحديات وأن يستثمروا في تثقيف أنفسهم مالياً ليتمكنوا من الاستفادة من الفرص الجديدة من دون الوقوع في مطبات الديون أو الخسائر الكبيرة.
بالمقابل، يبرز الاحتيال والتزييف كأحد تجليات الثورة الرقمية، فيشير مدحت همام، وهو متخصص اقتصادي إلى خطر انتشار تطبيقات احتيالية ونماذج مصغرة زائفة شبيهة لمنصات معروفة بقصد خداع العملاء الجدد والحصول على بياناتهم، فيلفت إلى أن عديداً من التطبيقات الشهيرة دوماً ما تحذر من الوقوع في أفخاخ المحتالين عبر المواقع الزائفة، والتي تحمل "دومين" شبيه بـ"دومين" الموقع أو التطبيق الأصلي إيهاماً للمستخدمين.
انتحال صفة شركة الوساطة
يتحدث همام، أن التطبيقات الأصلية انتبهت إلى أخطار الاحتيال وكثيراً ما تحذر، إخلاءً للمسؤولية القانونية، من التواصل مع المتداولين عبر انتحال صفة شركة الوساطة أو حتى تطبيق ومنصة التداول لطلب أموال أو أرقام حسابات بنكية من شأنها أن تمكن المحتالين من السطو على تلك الأموال.
أما سعيد إمبابي، وهو مدير بإحدى منصات تداول الذهب المرخصة في مصر، فيرى أن بعض تلك التطبيقات المتخصصة في الاستثمار بالذهب، يعمل تحت غطاء شركات أجنبية خارج البلاد، ما يجعلها خارج المسؤولية والملاحقة القانونية، خصوصاً مع تسارع التطور التكنولوجي.
ويعول إمبابي على دور الجهات الرقابية في مكافحة تلك الشركات والتوعية من أخطارها، خصوصاً مع تنامي عمليات النصب والاحتيال الإلكتروني عبر عديد من تلك المنصات التي تعمل من خارج مصر.
حظر العملات المشفرة
أما المتخصص المصرفي هاني أبو الفتوح، فيحذر من خطر تداول أو الترويج للعملات الرقمية في مصر بموجب المادة 206 من قانون البنك المركزي والجهاز المصرفي رقم 194 لسنة 2020، وثمة أسباب تدعو إلى هذا الحظر كما يضيف، من بينها غياب نظام متكامل لإدارة الأخطار المرتبطة بهذه العملات، إضافة إلى طبيعتها اللامركزية وعدم تمتعها بقوة إبراء قانونية، ما يعني أنها ليست عملات معترف بها داخل البلاد.
ويؤكد المتخصص المصرفي أن العملات الرقمية لا تُحتسب ضمن المعروض النقدي الذي يديره البنك المركزي المصري، ويعتقد أن تقلباتها الحادة وعرضها غير المحدود يشكلان معاً تهديداً للنظام المالي، بما قد يؤدي إلى هزات يصعب السيطرة عليها.
وعلى رغم اعتماد تلك العملات على تقنية "البلوك تشين" التي تُعد آمنة نسبياً، فإن أخطار الاختراق السيبراني تظل قائمة، سواء على مستوى المحافظ الإلكترونية أو المنصات المتداولة، حتى مع وجود معايير للأمن الإلكتروني، بحسب قوله.
بين قصص الانهيار ونداءات النجاة، تتجلى الحقيقة الأكثر قسوة: أن "الفوركس" ليست طريقاً مختصراً إلى الثراء، بل ممراً ضيقاً يفصل بين الحلم والفقد، وأن غياب الوعي يجعل من هذه السوق مساحة رمادية، تتسع كل يوم لتبتلع مزيداً من الطموحات.
هكذا، سيظل السؤال معلقاً: هل هو استثمار رقمي مشروع؟ أم محرقة صامتة لأحلام جيل بأكمله؟، وحتى تأتي الإجابة من وعي جمعي، ستبقى "الفوركس" في مصر وأشقائها من المنصات المثيلة ميادين مفتوحة، لا للربح، بل لاختبار من يملك أن ينجو من دون أن يحترق.