ملخص
أهل غزة يواجهون الأمرين: التضور جوعاً أو الموت بالرصاص حين يسعون إلى تأمين لقمة عيشهم
"ذهب ابني كي يجلب بعض الطحين لعائلته، فعاد مكفناً في التابوت".
هذا ما قاله إياد أبو درابي، الأب لستة أبناء، وهو يشرح كيف قتلت القوات الإسرائيلية ابنه موسى البالغ من العمر 25 عاماً في جنوب غزة خلال الأسابيع الأولى من يونيو (حزيران).
مدفوعاً باليأس والجوع، خرج الشاب خلسة من المنزل مخالفاً رغبة عائلته، سعياً إلى الحصول على الطعام من موقع مخصص لتوزيع المساعدات تدعمه إسرائيل وتديره مؤسسة غزة الإنسانية، المنظمة الخيرية الأميركية المثيرة للجدل الواسع.
تمر كل المساعدات التي تدخل غزة الآن تقريباً عبر فريق الإغاثة الأميركي الذي بدأ عمله في مايو (أيار) بعد أشهر من الحصار الإسرائيلي على كل المواد الغذائية والإغاثية تقريباً. وتوزع المواد الغذائية في مواقع قاتلة مكتظة بالناس يشرف عليها متعاقدون أمنيون أميركيون خاصون والجيش الإسرائيلي.
يصف الغزيون هذه المواقع بأنها "نقاط الموت الأميركية" بسبب المتعاقدين الذين يشرفون عليها.
وتحيط السرية بالمؤسسة التي لديها مصادر تمويل غامضة وشهدت تغييرات عدة في قيادتها وإدارتها منذ إطلاقها.
وتقول وزارة الصحة في غزة إن القوات الإسرائيلية أطلقت النار على الحشود التي تحاول الوصول إلى مواقع توزيع المساعدات الغذائية التابعة لمؤسسة غزة الإنسانية، فتسببت بمقتل ما يقارب 400 فلسطيني وجرح أكثر من 3 آلاف منذ إعادة تفعيل توزيع المساعدات في أواخر مايو.
في عدد من الفيديوهات المنشورة عن هذه النقاط، يظهر أشخاص وهم يختبئون أو يهربون من الرصاص، ويعانون من أجل حمل أكياس المواد الغذائية أثناء فرارهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
رغم المجازر، تشير التقارير إلى أن إدارة ترمب تدرس إمكانية مد المنظمة بنحو 500 مليون دولار (370 مليون جنيه) من خلال الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID) التي قلص حجمها أخيراً.
لكن تركيز العالم هذا الأسبوع ينصب على الاشتباكات التي تتصاعد حدتها بين إسرائيل وإيران. تبادل الطرفان آلاف الصواريخ والمسيرات والقنابل في صراع تهدد نيرانه بإشعال الشرق الأوسط بأسره واستقطاب دول من حول العالم.
وطغت هذه الأنباء على الأحداث المأسوية التي تجري في غزة حيث يقع مليونا نسمة في براثن المجاعة وفقاً للأمم المتحدة. فقد قتل القصف الإسرائيلي على القطاع الضيق الذي لا يتجاوز طوله 35 ميلاً أكثر من 55 ألف شخص منذ الهجمات الدموية التي شنها مسلحو "حماس" على جنوب إسرائيل في أكتوبر (تشرين الأول) 2023.
ولم يكن موسى سوى واحد من بين مئات فقدوا حياتهم في سعيهم المستميت للحصول على لقمة العيش.
يقول الشهود وعائلات القتلى إن الجنود الإسرائيليين أطلقوا النار على الحشود المجتمعة ذلك اليوم فيما تدافع المدنيون الجوعى للحصول على الطعام في أرض مقفرة وقاحلة. وقد أصيب الشاب بنيران دبابة وقتل على الفور إلى جانب نساء وأطفال كما يقول إياد.
ويضيف إياد بيأس، "إن المساعدات مصيدة موت للشباب: وضعت في أرض قاحلة مسيجة، حيث تفتح البوابات أمام عشرات الآلاف كي يتقاتلوا على الإمدادات في غياب أي نوع من التنظيم. إن إسرائيل تترك الناس ليتقاتلوا على لقمة الطعام".
"ذهب من دون علمي وبسبب تضوره من الجوع. لكن هذه ليست مساعدات بل فرصة سانحة أمام مزيد من القتل".
اعترف الجيش الإسرائيلي بإطلاق طلقات تحذيرية على الناس المتجمعين للحصول على المساعدات لكنه ينفي استهداف المدنيين في غزة أو تحول مواقع توزيع المساعدات إلى "مصائد موت". وقال لـ"اندبندنت" إن "حادثة واحدة في الأقل قيد التحقيق".
وأضاف الجيش، "إن جيش الدفاع الإسرائيلي يأسف لأي أذى أصاب أفراداً لا علاقة لهم ويعمل على تقليص الضرر عليهم قدر الإمكان مع الحفاظ على سلامة قواتنا".
أما مؤسسة غزة الإنسانية فقالت إن الحادثة لم تقع داخل موقع المؤسسة فيما زعمت في بيان صحافي أصدرته الإثنين إنها وزعت أكثر من 3 ملايين وجبة في أربعة مواقع "بلا حوادث".
لكن آخر الأحداث، وأكثرها دموية، وقع الثلاثاء. إذ أفادت وزارة الصحة بمقتل 50 شخصاً وإصابة أكثر من 200 كانوا ينتظرون دخول شاحنات الأمم المتحدة والشاحنات التجارية إلى القطاع، محملة بالمواد غذائية هم في أمس الحاجة إليها.
وقال شهود عيان من الفلسطينيين، إن القوات الإسرائيلية قصفت منزلاً على مقربة من الموقع قبل أن تفتح النار على الحشود في مدينة خان يونس جنوبي القطاع.
وبينما لم يبد أن لإطلاق النيران علاقة بشبكة مؤسسة غزة الإنسانية التي أطلقت حديثاً بدعم إسرائيلي، فهذا دليل على الصراع المميت الذي يمر به الفلسطينيون يومياً للحصول على ما يسد رمقهم في وقت وصل فيه سعر كيلو السكر إلى 70 دولاراً. تقول رندة يوسف، الأم العزباء لثلاثة أطفال والبالغة من العمر 42 سنة، إن قريبها محمد قتل في الخامس من يونيو أثناء محاولته الحصول على الطعام من موقع لمؤسسة غزة الإنسانية في رفح. وأضافت أنه كان من المقرر أن يتزوج محمد بعد ثلاثة أيام من مقتله.
وتشرح رندة "أطلق عليه الرصاص في الظهر ووقع أرضاً. لم تتوفر أي وسيلة لنقله، فنزف حتى الموت طوال ثلاث ساعات وسط وابل الرصاص المتواصل".
"لا يمكننا شراء الحاجات الأساسية. فثمن كيلو السكر الواحد 70 دولاراً. ولهذا نخاطر بأرواحنا. أحياناً، يبكي ابني. وصدقاً، لا أعرف كيف أسد رمقه".
"إن المساعدات الأميركية فوضى متعمدة".
اكتفت إدارة بايدن بالقول إنها تحاول إقناع إسرائيل بالسماح بدخول المساعدات إلى غزة من دون أن تحقق أي شيء يذكر، لكن إدارة ترمب تبنت مقاربة عدم التدخل إلى حد كبير.
منعت إسرائيل دخول معظم المواد الغذائية والإغاثية إلى غزة في مارس (آذار)، فانتشر الجوع في القطاع. حذرت المنظمات الإنسانية من جهتها من أن خطر المجاعة يحدق بالجزء الأكبر من سكان غزة البالغ عددهم نحو 2.2 مليون شخص ما لم تكثف المساعدات الإنسانية المرسلة إليهم.
بدأ العمل بالنظام الذي أرسته مؤسسة غزة الإنسانية في مايو لكن المنظمات الإغاثية حذرت من أن هذه العمليات لا تكفي أبداً لسد حاجات السكان. وحذرت الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الإنسانية من جهتها من أخطار الاحتكاك بين القوات الإسرائيلية والمدنيين من طالبي المساعدات، وهي لا تزال تدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار وإلى رفع العراقيل أمام إدخال المساعدات.
يصف مسؤولون سابقون من وزارة الخارجية الأميركية والوكالة الأميركية للتنمية الدولية USAID ممن عملوا سابقاً على توزيع المساعدات الإغاثية في حالات الطوارئ هذا النظام الجديد بأنه "رهيب" و"خطر" وجزء من خطة أشمل هدفها استخدام المساعدات للسيطرة على تحرك الفلسطينيين.
وفي هذا الإطار، قال جيريمي كونينديك الذي أشرف على عمليات الإغاثة من المجاعة طوال ثلاثة أعوام خلال إدارة أوباما وهو اليوم يترأس منظمة اللاجئين الدولية Refugees International "الأمر المأسوي والمثير للغضب في هذا الموضوع هو أنه يحدث تماماً كما كانت أي جهة متمرسة في العمل الإنساني لتتوقع أن يحدث [كما هو متوقع]".
وأضاف، "عندما تقوم آلية توزيع المساعدات على إجبار أعداد هائلة من الجوعى اليائسين بالتجمع بمحاذاة منشآت عسكرية لجيش الدفاع الإسرائيلي، ستقع مجازر [لا محالة]".
وقال السيد كونينديك، إن إنشاء معظم مراكز توزيع المساعدات في جنوب غزة "ليس من قبيل المصادفة"، لا سيما أن الجيش الإسرائيلي يحاول إرغام الفلسطينيين على الخروج من شمال القطاع.
وأضاف، "من المبادئ الأساسية للإغاثة الإنسانية وضع المساعدات في أقرب نقطة ممكنة من وجود السكان. وهم يقومون بعكس ذلك تماماً مما يشير إلى رغبتهم بجر السكان إلى الجنوب".
وتابع بقوله "أعتقد أن في ذلك دليلاً كبيراً على خطتهم على المدى البعيد".
كشف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الشهر الماضي عن خططه لإجبار الفلسطينيين على الانتقال إلى جنوب غزة بعد موافقة الكابينت الأمني على توسيع رقعة العمليات العسكرية في شمال القطاع ووسطه.
وفي كلامه عن العملية، قال "سوف يتم نقل السكان حفاظاً على سلامتهم".
من جانبها، اعتبرت ستايسي جلبرت التي استقالت من وزارة الخارجية الأميركية في 2024 على خلفية امتناع إدارة بايدن عن محاسبة إسرائيل على منع دخول المساعدات إلى غزة، هذه المراكز "حيلة دعائية".
"ليست سوى حيلة دعائية تماماً كعمليات إسقاط المساعدات جواً. وهي حيلة دعائية مثل كارثة الميناء العائم. إنها طرق استخدمتها إدارة بايدن، والآن إدارة ترمب، لمحاولة التعتيم على بذلهم هذه الجهود الخطرة جداً والمكلفة للغاية لمجرد أن إسرائيل تمنع دخول المساعدات. لا يمكن النظر إلى الموضوع بأي طريقة أخرى"، كما قالت لـ"اندبندنت".
وأضافت، "أنه أمر مهين يحط من الكرامة وهو تعريض للخطر ببساطة، والأمر خطر جداً وترتد آثاره على كل المعنيين به".
تعتقد السيدة جلبرت أيضاً أن المراكز قد وضعت بصورة عامة في الجنوب كي تستقطب الفلسطينيين وتبعدهم عن الشمال.
وقالت، "في هذا محاولة لجذبهم جميعاً إلى منطقة واحدة بعيداً من المنطقة التي لا ترغب إسرائيل في وجودهم فيها".
على رغم وقوع مئات الضحايا في مراكز منظمة غزة الإنسانية، ودخول كمية غير كافية من المساعدات إلى غزة، يبدو أن إدارة ترمب تفتح المجال أمام دعم المؤسسة مالياً.
صرح ناطق باسم وزارة الخارجية لـ"اندبندنت" بأن مؤسسة غزة الإنسانية "منظمة مستقلة. ولا تتلقى تمويلاً من وزارة الخارجية".
وأضاف، "مع ذلك فنحن نبحث بصورة متواصلة عن حلول خلاقة لإدخال المساعدات إلى غزة من دون أن تنهبها حماس".
تصر إسرائيل على أن النظام الجديد كان ضرورياً لأن المساعدات كانت تحول إلى "حماس" في ظل النظام السابق القائم منذ فترة طويلة، تحت إدارة الأمم المتحدة، وهي تهمة نفتها الأمم المتحدة و"حماس" على حد سواء.
تقول سلوى الدغمة من مدينة خان يونس جنوب غزة "ليست هذه المساعدات سوى لقمة مغمسة بالدم".
قتل أخوها خالد، الأب لخمسة أطفال، برصاص قناص في وقت سابق من الشهر الجاري في مركز آخر تابع لمؤسسة غزة الإنسانية في رفح بينما كان يحاول الحصول على كيلو طحين واحد لأطفاله- الذين بالكاد تجاوز أصغرهم السنتين من العمر.
عندها أيضاً، أطلقت القوات الإسرائيلية النار على الحشود الضخمة بعد اندلاع الفوضى.
وقالت، "أصابته الرصاصة في رأسه مباشرة. خرج دماغه من الجانب الثاني وقتل على الفور. أغلقت إسرائيل المعابر ومنعت دخول الطعام ثم أتونا بطريقة أخرى لقتل أطفالنا وعائلاتنا".
"هذه مصيدة موت وليست نقطة إغاثة. هم لا يريدون مساعدتنا- بل إنهم يقتلوننا في الواقع".
© The Independent