ملخص
"مطاردة أميركية... أسامة بن لادن" وثائقي "نتفليكس" الذي انطلق عرضه الشهر الماضي، يكشف خبايا جديدة ويسرد العملية التي استمرت نحو عشر سنوات، وذلك بعد مرور 14 عاماً على نجاحها، مطاردة طويلة الأمد تناوبت عليها ثلاث إدارات أميركية، في وقت بدت الاغتيالات الكبرى سهلة مثل طرفة عين، بعد سلسلة العمليات التي تبنتها إسرائيل أخيراً
من بين حلقات السلسلة الوثائقية الجديدة عن مقتل بن لادن، زعيم تنظيم "القاعدة"، التي حملت عنوان "مطاردة أميركية... أسامة بن لادن" American Manhunt: Osama Bin Laden، جاءت الحلقة الأخيرة التي تجاوزت الـ80 دقيقة وكأنها فيلم أكشن أميركي من حيث السرد والتصاعد الدرامي، وإبراز حالة الترقب على الوجوه، بمن فيهم الرئيس الأميركي آنذاك باراك أوباما، الذي تابع العملية من حجرة صغيرة بالبيت الأبيض مرتدياً ملابس غير رسمية وبجواره جو بايدن نائب الرئيس وقتها، المعارض للعملية بأكملها ومشككاً في وجود الإرهابي المطلوب الأول في العالم بالمبنى الذي يقع في منطقة أبوت أباد السياحية الجبلية بباكستان.
في حين تبدأ السلسلة بصباح مشمس في نيويورك بالولايات المتحدة الأميركية يوم الـ 11 من سبتمبر (أيلول) 2001، يتحوّل إلى حزن مقيم بعد المشاهد المرعبة باصطدام طائرتين ببرجي مركز التجارة العالمي، وتتوالى الضربات بعد ذلك لتصل إلى أربع هجمات بطائرات استهدفت أماكن ذات أهمية استراتيجية في البلاد، ليتيقن حينها الجميع أن سماء أميركا لم تعد آمنة كما في السابق أبداً، فالعنف والإرهاب أقرب لها مما كان يظن أحد.
وينفرد العمل بلقطات تسجيلية صوّرتها كاميرات مراقبة الشوارع بالمصادفة للوجوه المذعورة، ولردود الأفعال الأولية، فيما اللقطة الأبرز في الدقائق الأولى كانت لوجه جورج بوش المشدوه، وهو يتلقى النبأ في أذنه همساً في أثناء سرد قصة عن الماعز، إذ كان في زيارة اعتيادية لإحدى المدارس يختبر تهجئة الصغار وقدرتهم على التحصيل.
3 إدارات أميركية تبحث عن رجل الكهف
يسير الفيلم بدراما متصاعدة ويقصّ الحكاية من خلال الصور والفيديوهات، وفي الخلفية يتحدث محللون وصحافيون، وضباط بجهاز الاستخبارات ومسؤولون سابقون، ليكشفوا كواليس الأيام الأشد قسوة وارتباكاً في السياسة الأميركية في العصر الحديث. وخلال الرحلة نكتشف كيف استغرقت أميركا عشر سنوات وثلاث إدارات، للثأر لدماء نحو ثلاثة آلاف من الضحايا، بعدما كان يصرّح مسؤولوها بثقة تامة في الاجتماعات السرية بأنها بحاجة إلى ستة أسابيع على الأكثر، لتحقيق الهدف المنشود، ووضع رأس بن لادن في براد ثلج!
على رغم فرق الاستخبارات الميدانية المدربة، وقوة تقنيات التتبع الأكثر تطوراً في ذلك الوقت، إضافة إلى السلاح والعتاد والمال، كانت المهام صعبة والحصول على المعلومة بشق الأنفس، لأن المتعاونين الذين كانوا على مقربة من جماعة بن لادن لم يكونوا كثراً، إذ أحاط نفسه بفريق من المخلصين بل الأشد إخلاصاً، الذين كانوا يتفننون في التضليل تحت التعذيب بالإدلاء بنصف معلومة أو شهادة شبه حقيقية لكنها ترهق فريق البحث، وقبل كل ذلك لم تكن تكنولوجيا المسيرات قد وصلت إلى هذا الحد من التقدم الحالي، وكذلك تقنيات التجسس والتتبع عن بعد، التي أتاحت للأطراف المتصارعة، على رأسها إسرائيل هذه الأيام، أن تطلق موسماً للاغتيالات السهلة والدقيقة بعدما كانت مهام مثل هذه تستغرق سنوات وربما عقوداً.
العمل، الذي يمكن أن نبدأ الحديث عنه من النهاية، حرص على الإتيان بشهادات رجال ونساء كانوا وثيقي الصلة بالأحداث، بينهم ناجٍ وحيد من أحد أقسام تفجير البنتاغون في الـ 11 من سبتمبر، والضابط بالوحدة "سيل 6 " بالعمليات الخاصة، روبرت أونيل الذي قتل بن لادن بسلاحه، وكوفر بلاك مدير وحدة مكافحة الإرهاب في وكالة الاستخبارات المركزية CIA، وكذلك مايكل مورل مقدم الإحاطة السرية اليومية للرئيس الأميركي، إذ أصر مورل حينها وحتى قبل التحقيقات الأولية أن بن لادن هو من يقف وراء هذه الأحداث المروّعة، لتثبت الدلائل بعدها بوقت قصير صحة فرضيته التي اكتسبها من خبرة طويلة في متابعة سلوكيات هذه الجماعات.
استغرق القصاص أعواماً طويلة كانت كفيلة بإثارة سخط الأميركيين على وكالة الاستخبارات المركزية، فعلى رغم القبض على عدد من عناصر "القاعدة"، بينهم المخطط للهجوم نفسه خالد شيخ محمد، الذي يوصف بأنه مهووس ببرجي مركز التجارة، وكان قد حاول تفجيرهما قبل سنوات من الحادث، وكذلك أبو زبيدة، وعلى رغم رصد 25 مليون دولار للإدلاء بما يفيد بالقبض على زعيم تنظيم "القاعدة" فإن سنوات جورج بوش الابن مرت من دون وقوع حادث كبير يمتص غضب أهالي الضحايا والمرتعبين من تكرار الهجمات، وكل ما حصدوه مزيد من جثث الضباط الأميركيين الذين انخرطوا في معارك بالعراق وأفغانستان قتل بسببها مئات الآلاف من المدنيين الأبرياء هناك أيضاً.
هنا وضع باراك أوباما على عاتقه تغيير الاستراتيجية، وتحقيق الهدف بالإمساك بالمخلوق الأسطوري الهارب مثل زئبق أسامة بن لادن، قبل أن ينفذ تهديده بصنع هيروشيما على أرض أميركية على غرار ما فعلته الولايات المتحدة في اليابان إبان الحرب العالمية الثانية، إذ تحرّكت القيادات الجديدة تحت ضغوط التقرير الذي صدر عام 2008 يوبخ موظفي الاستخبارات بسبب إدارتهم للملف، مشككاً في قدرات الوكالة ومتهماً رجالها بالتقصير قبل وبعد الحادث.
ثم بعد عشرات العمليات التي حملت إخفاقاً واضحاً، جاءهم خيط أمل كاذب أيضاً بادعاء طبيب قبض عليه في الأردن كان على تواصل مع "القاعدة" أنه ينوى الانقلاب والتعاون معهم، ليقابلوه بأريحية من دون تفتيش فيفجر نفسه مع سبعة من أكفأ ضباط الوكالة في قاعدة كامب تشاب بمدينة خوست على الحدود بين باكستان وأفغانستان، وهنا اتسعت دائرة الثأر وأصبحت مسألة شخصية تماماً.
الهوس الإعلامي يوقع بزعيم "القاعدة"
لكن ما الذي أوقع بن لادن بعد كل هذه السنوات من المطاردات في الجبال والكهوف؟ ربما حبه للترويج الإعلامي والتباهي بأفعاله، هو ما أوقعه، فقد أطاحت زقزقة العصافير التي كانت تظهر في خلفية تسجيله الذي تبثه وسائل الإعلام برأسه، حيث جرى الربط وتجميع الخيوط مع تتبع معلومات هزيلة عن ساعي البريد الذي قادهم بدوره إلى ظل طوله 195 سنتيمتراً لكهل هزيل لديه روتين في المشي بساق شبه عرجاء، هذا الساعي أقرت المعلومات بأنه كان على تواصل مباشر بزعيم تنظيم "القاعدة"، ولديه ولاء خاص له، إذ كان رسول تسجيلات الفيديو التي يصورها بن لادن مطلقاً فيها تهديداته وتبثها وسائل الإعلام.
أبو أحمد الذي ذكر اسمه للمرة الأولى عام 2002، أجاد التخفي وتضليل مطارديه بعدة أسماء مزيفة، وأغرق أعداءه بالأكاذيب، لتأتي مكالمة عتاب بين الأصدقاء تعقبها الأميركيون عام 2010 في بيشاور الباكستانية لتكشف كل ما حاول إخفاءه هذا الرسول الوفي جاهداً كل هذا الوقت، وهنا يأتي دور جمع المعلومات من الشارع ومن مصدرها المباشر في محاصرة جماعة ترفض التكنولوجيا والإنترنت، وتتمتع بمواصفات خاصة في اختيار الموالين لها والمقربين من قادتها.
وعلى رغم أن عشرات الأعمال والوثائق والروايات قُدمت عن عملية اغتيال بن لادن، لكن تبقى لهذا العمل الذي بُث على "نتفليكس" الشهر الماضي بالتزامن مع مرور 14 عاماً على الحدث خصوصية نظراً لطبيعة الشخصيات المتحدثة ودقة التفاصيل، وكذلك المشاهد المسجلة.
مراقبة أبو أحمد الذي كان يتحرك بسيارة دفع رباعي بيضاء هي الأكثر انتشاراً في باكستان، كان شديد الصعوبة، نظراً لأنه كان ينزع بطارية هاتفه قبل مسافة بعيدة من وصوله إلى أبوت أباد بجبال باكستان، لكن مع الدأب والتكنولوجيا، قادت سلوكيات ساعي البريد المتتبعين إلى منزل من ثلاثة طوابق، طابقه الأخير محاط بسور من خمسة أمتار، وهنا جاء دور الأقمار الاصطناعية، لتلتقط صوراً من زوايا متعددة لهذه البناية التي يثير تأمينها المشدد الريبة، ويحرق سكانها وهم ثلاث عائلات قمامتهم بدلاً من إلقائها خارجاً خوفاً من أن تكشف سراً عن عاداتهم وعن هوياتهم.
وعلى رغم ما توصل إليه المراقبون من أن بن لادن غالباً هو "الرجل المتمشي" خلف الأسوار العالية، بناء على شهادة حول هيئته من الصحافي جون ميلر الذي سبق وقابله في عام 1998، بناء على صور ظله، وعلى رغم الرغبة الجارفة في إعادة الهيبة للاستخبارات الأميركية ومحاولة حفظ ماء الوجه بعد نحو عشر سنوات من الحروب ومعتقلات التعذيب السيئة السمعة التي اضطرت عدداً من العاملين بالأجهزة الأمنية إلى الاستقالة رفضاً لطرق الاستجواب الوحشية، فإنه كان هناك تردد كبير في اعتماد الرواية المتفائلة بأن بن لادن يسكن هذا المجمع السكني، والحرص على تجنب الخيبات السابقة، إذ حذر مسؤولو الأمن أوباما صراحة بأن احتمال أن يكون بن لادن في هذا المنزل أقل بكثير من احتمالية وجود أسلحة دمار شامل لدى صدام حسين، التي على إثرها جرى اتخاذ قرار غزو العراق، ليتبين في ما بعد أن الادعاءات كانت كاذبة، هذا التشبيه المروع أجل اتخاذ القرار بعض الوقت.
حيث كانت السياسة الأميركية أكثر رصانة وحكمة ربما، وهي أمور باتت بعيدة كثيراً عما يجري اليوم من الولايات المتحدة وحليفتها الأولى إسرائيل، إذ لا تتردد في التضحية بعشرات الآلاف من المدنيين مقابل "احتمالات" وجود مطلوبين من بينهم. كذلك كان هناك حرص كبير في عدم استفزاز الحكومة الباكستانية التي لديها قاعدة عسكرية على مسافة قريبة من المنطقة المستهدفة.
ولهذا جرى اللجوء إلى مروحيات غير قابلة لرصد رادارهم، خوفاً من تدهور العلاقات معهم، بخاصة أنه لم يكن من المطروح كشف تفاصيل العملية إلا للدائرة الضيقة في إدارة باراك أوباما التي شهدت بدورها انقساماً في الآراء، قبل أن يتخذ الرئيس الأميركي قراراً بتنفيذ العملية في الأول من مايو (أيار) 2011، التي سُمّي فيها بن لادن باسم رمزي هو "جيرونيمو"، وهي صيحة يستخدمها الجيش الأميركي للتحفيز على القتال، وقام الضباط بالتدريب على 100 محاكاة محتملة للمنزل الذي لم تكشف الأقمار الاصطناعية تكوينه من الداخل، وانطلقوا من قاعدة جلال أباد في أفغانستان، لينفذوا عمليتهم خلال أقل من ساعة، بينما استغرقت رحلة العودة نحو 90 دقيقة.
بعد أن أعلن أوباما انتصار بلاده وتحقيق العدالة في خطابه المختصر الشهير، بدا من كلام المتحدثين في الحلقات الوثائقية أن الولايات المتحدة خسرت معارك موازية، بعضها يتعلق بهيبة الدولة وأجهزتها، وبسمعة مؤسساتها التي تلطخت بشهادات تعذيب همجية، وبإنفاق تريليونات الدولارات على حروب بزعم مكافحة الإرهاب بلا جدوى. وبحسب مايكل موريل مقدم الإحاطة السرية اليومية بالبيت الأبيض، فإن ما حدث قسّم البلاد، فيما توقع آخرون أن تتكرر تلك الأحداث بشكل أو بآخر بعد أن وجدت بيئة خصبة جديدة في الظروف العالمية حالياً.
صراعات البحث عن المجد
كشفت حلقات "مطاردة أميركية أسامة بن لادن"، عن كثير من كواليس التخبط السياسي الذي اعترى الإدارة الأميركية إبان ولايتي جورج دبليو بوش، وكيف أن غضب وزير الدفاع دونالد رامسفيلد من إسناد مهمة مطاردة منفذي الهجوم إلى الاستخبارات بدلاً من وزارة الدفاع، جعله يفوّت فرصة الإيقاع ببن لادن بعد أشهر قليلة من أحداث 11 سبتمبر، حيث رفض طلب الاستخبارات بتنفيذ عملية على الأرض بمهاجمة كهوف "القاعدة" في تورا بورا شرق أفغانستان، وكان بن لادن بينهم، واكتفى بإدارة العملية جواً بإلقاء القنابل من خلال قصف عاتي، وصف بأنه الأعنف منذ الحرب العالمية الثانية، إلا أن بن لادن تمكن من الهرب لسنوات طويلة بعدها، تاركاً بعض الدلائل بينها شريط فيديو يكشف عن متانة صداقته بخالد شيخ محمد، وفي ما بعد التأكد من مدى ضلوعه في الجريمة والقبض عليه في ما بعد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كما كشف أنه مهما كانت التكنولوجيا حاضرة فالعمليات على الأرض لها رأي آخر، إذ إن تفجير المروحية الثانية في عملية الإقلاع ببن لادن فور وصولها المبنى أمر كاد يفسد كل شيء، إذ إن انتشار النبأ عبر السوشيال ميديا لفت نظر الباكستانيين الذين أطلقوا النيران عليهم في الجو، قبل أن يجري احتواء الموقف قبل فوات الأوان. كذلك على رغم التهديدات التي وجهها بن لادن وتنظيم "القاعدة" للولايات المتحدة منذ تسعينيات القرن الماضي، فإن أياً من رجال الاستخبارات لم يتعاملوا معها بالجدية الواجبة، كذلك لم يتمكنوا أبداً من توقع أماكن الهجمات المتوالية التي جاءت بعد وقت قصير من انهيار برجي مركز التجارة بمانهاتن.
أيضاً فإن إغراء معاوني بن لادن بعشرات ملايين الدولارات، لم يكن شيئاً كبيراً أمام معتقداتهم وقربهم من رأس التنظيم، الذي تُقدّر ثروته بمليارات الدولارات وفق بعض التحليلات، ولهذا استمرت عمليات التنظيم في التوسع في مختلف القارات بين أفريقيا وآسيا وأوروبا لترعب العالم.
لكن، وفقاً للشهادات، فإن الاعتراف بالإخفاق ومواجهته كان أول طريق الوصول إلى الهدف، وبعد اليأس من إمكانية إقناع من قُبض عليهم بالحديث، واليأس من مطاردة بن لادن بشكل مباشر، نظراً إلى أنه يجيد الاختباء بشكل يفوق تفكيرهم، جرى اتباع استراتيجية البحث عن مطاردة المقربين منه عن بعد لا السعي لاستجوابهم مباشرة، حيث جرى التقاط موجات الراديو التي يستعملها بعضهم في أثناء سيرهم في الجبال الوعرة مستعملين البغال التي تحمل أسلحة ثقيلة تحمي قائدهم، فيما وصف بعض المراقبين عتاد وعدد التنظيم بأنه يشبه الجيش النظامي إلا أنه فقط يفتقر للسلاح الجوي.