ملخص
في روايتها "بالحبر الطائر" تتبع الكاتبة المصرية عزة رشاد مسارات الفجيعة، عبر فضاءات مكانية متعددة تجمع بين الشرق والغرب، فترصد وجهاً آخر للعولمة يتجاوز المال والسياسة، إلى المشقة والمأساة، وتعولم الألم لتتقاسمه بطلاتها وتنسج منه خيطاً خفياً يربط بين مدنهن المتباعدة.
تتقاسم بطلات رواية "بالحبر الطائر" الصادر عن دار "الكتب خان" بالقاهرة للكاتبة عزة رشاد عبء السرد، ومعهن "ناجي"، الابن الوحيد لـ"نعيمة"، وعبر هذا الأسلوب من الأصوات المتعددة تستجلي رشاد ما يعتمل في أعماق نسائها من تشظ، وتكشف عن جروحهن الغائرة.
تنطلق الأحداث من الإسكندرية، في حقبة زامنت بداية ظهور فيروس كورونا، وبينما لم يحظ الوباء سوى بحضور خافت في خلفية السرد، كانت مشاعر الوحدة والتنكر والتهميش ثيمة رئيسة تشاركتها النساء اللاتي تجاوزن عقدهن الرابع، واجتمعن بعد غياب أعوام طويلة أعقبت تخرجهن في الجامعة، في مجموعة على تطبيق "واتساب"، أسستها نعيمة، الوحيدة الباقية في الإسكندرية والمهجورة من زوجها وابنها، أملاً في تأسيس جمعية أهلية، تدعمها صديقاتها مالياً، لتتمكن من اللحاق بهن، وتحقيق مجدها الشخصي، بعد ما تبين لها عبر حساباتهن على "فيسبوك" من تحققهن، وما نلنه من نجاح.
ومع انتقال صوت السرد لبقية الصديقات، يتبين زيف الصورة التي تخبر بها منصات التواصل الاجتماعي، التي لم تكن سوى قناع، تختبئ خلفه الفواجع والمعاناة، كما يتبين أن الحرية التي سعت إليها ثلاثتهن خارج الوطن، كلفتهن أثماناً باهظة.
دلالات ضمنية
لجأت الكاتبة إلى الرمز، لتمرير دلالات ضمنية وغير مباشرة، فأحال عنوان الرواية وعتبتها الأولى إلى دلالات المحو وسرعة الزوال، وأحال مشهد اختفاء القطة الذي استهلت به رحلتها، ورد فعل صاحبتها "نعيمة"، إلى وحدتها الموحشة، وقسوة هجر الابن والزوج، كما حملت كتابة مفردة الحرية باللغة الإنجليزية دلالات مبطنة حول غيابها عن الوطن، واقتصار وجودها على دول وحضارات أخرى، مما حمل الصديقات الثلاث للبحث عنها في الغرب.
واكتست بعض الرموز بغلالة من السخرية، خلخلت ثقل ما تحيل إليه من قسوة، كما في وصف أحد وزراء حقبة التسعينيات بـ"الملظلظ الدسم المتين"، للدلالة على فساد المسؤولين في تلك الحقبة، ووصف المعارضة بـ"العبط"، إذ لا يسمع مطالبتها بالحرية سوى رجل الأمن، للدلالة على المناخ القمعي الذي يكمم الأفواه، "كل العالم سيسمع مطالبتنا بالحرية"، تهتف نوجا، لكن لم يسمعنا سوى رجل الأمن، الذي اندفع يمزق المجلة على رغم صراخنا "التصريح أهه، بص الله يخليك، الله يخرب بيتك، بص إلهي تنشل، حرام عليك، طب فين القراء؟" ص 186.
كذلك حمل الحضور الكثيف للغناء داخل السرد الدلالات الضمنية ذاتها، فكان في استدعاء أغنيات مثل "ياللي ملكت المال والجاه"، و"يا مالك قلبي بالمعروف"، و"يا مالكاً قلبي"، إسقاط على صور الاستحواذ والهيمنة كافة، سواء مارسها حزب أم مارسها رجل، وأحال حضور الميثولوجيا اليونانية، عبر أسطورة "سيزيف"، إلى شقاء "نادين" من أجل لا شيء، إذ كانت تشتري بتعبها المتواصل راحة أسرتها، وعلى رغم أنها لم تجن شيئاً، استمرت في معاودة الكرة.
الاستباق والتشويق
حرصت الكاتبة عبر رواتها المتعددين على كسر خطية الزمن، فلجأت إلى "الفلاش باك"، واعتمدت التداعي الحر، ليخالف زمن السرد، زمن وقوع الأحداث، كما لجأت إلى حيل الاستباق، وصبغت بعض الأحداث بالغموض، للدفع بالتشويق إلى النص، فاستبقت بخطب ألم بابنة نجوى "نورا"، وأرجأت الكشف عن ذاك الخطب، واستبقت بحادثة "نعيمة" التي أدخلتها في غيبوبة طويلة، وأرجأت الكشف عن ملابساته، واستبقت بذكر الفضيحة، التي دفعت "نجوى"، لمغادرة الإسكندرية إلى الولايات المتحدة، وأرجأت الكشف عن ماهية تلك الفضيحة لمرحلة لاحقة من السرد.
وعبر الزمن الممتد للأحداث طرقت "رشاد" كثيراً من القضايا، التي تؤرق الواقع المصري بصورة عامة، وتلك التي تتصل بالمرأة بصورة خاصة، فرصدت قضايا القمع والفقر والاغتراب وبؤس الهامش، وكذلك الانهيار القيمي والتفكك الأسري ونزعات العنف والجريمة، إضافة إلى التشدد والتدين السطحي والأصولية الجامدة وتفشي القيم الاستهلاكية، إلى جانب استشراء الفساد والبيروقراطية وانتهاك خصوصية الفرد والابتزاز الإلكتروني.
كما تطرقت إلى السلطة الأبوية المفروضة على النساء وتسليعهن، والإرث الذكوري الذي يعمد إلى فطام الأنثى على الضعف والتبعية، وكذا هضم حقوقها وإرثها وامتهان كرامتها، وأضاءت ازدواجية المثقف وسلوكه الذي يأتي مخالفاً لآراء يستمر في التشدق بها "على مهل تدخل، يبلغها صوت حسام وزملائه، من الغرفة البعيدة الخاوية، التي يكبر خواؤها الصوت، يقول أحدهم: كانت مصاحباني قبلك، ويرد آخر: أنا أكتر واحد عمرت معي، تنحني مذهولة وتهمس: ولاد كلب، كذابين ومنافقين، ومتعجبة: إنهم زملاء الندوات الذين يعاملونها باحترام شديد، يستطرد الأخير: معقول تتجوزها بعد اللي سمعته؟ يرد حسام: ومن اتكلم عن جواز! قلبك أبيض دي تقضية وقت، تسالي" ص48.
وإضافة إلى ما طرحته الكاتبة من قضايا المجتمع المصري، سمح لها الفضاء المكاني الممتد الذي شمل عدداً من الدول الغربية، بتتبع قضايا المهاجرين وأزماتهم، وما يمارسه الآخر نحوهم من تنمر وعنصرية وفوقية واستعلاء، وما يعانونه من تشظي الهوية، ولا سيما الجيل الثاني منهم الذي ولد في الغرب ليجد نفسه متنازعاً بين هويتين مختلفتين وثقافتين متباينتين، وعادات لا يشبه بعضها الآخر، في مناخ لا يكاد يتقبل الاختلاف "في بداية زواجك من جوزيف، تستيقظان على صراخ وفجيعة، لأن جاركما العربي أطلق الرصاص على ابنته البالغة من العمر 15 سنة، لأنها أحبت شاباً من غير دينها، وأرادت الانتقال إلى مسكنه" ص 72.
ديمومة الصراع
زخر النص بعدد من صور الصراع، سواء ذلك الذي يندلع في دواخل النفس الواحدة، أو الذي ينشب خارجها بين أقطاب متباينة، ولا سيما بين الآباء والأبناء، وحظي هذا الصراع بحضور كثيف عبر فضاءات زمنية ومكانية متباعدة، فبينما اندلع بين "نجوى" وأبيها في زمن مبكر، في إحدى القرى المصرية، اندلع بين "نورا" وأبيها بزمن لاحق في نيويورك، وكذا بين ابن نادين وأبويه في باريس، ولم تنج "نعيمة" من الهوة ذاتها، التي فصلت بينها وبين ابنها، إلى حد تفضيله هجرها والعيش بعيداً منها.
وحملت هذا الصراعات دلالات ضمنية حول الفجوة الشاسعة بين الآباء وأبنائهم في مختلف الأجيال، وكما اكتسى هذا الصراع صفة الديمومة، اكتست به أيضاً الصراعات الزوجية، التي أورثت نادين في طفولتها اضطرابات نفسية ظلت تلاحقها في كل مرحلة من حياتها، ودفعتها للحرص الشديد على بيتها إلى حد تلاشي كيانها، مما أدى بها في النهاية إلى الطلاق، وكذلك فرقت الصراعات نفسها بين بقية الصديقات وأزواجهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفضلاً عن الصراعات الأسرية، رصدت الكاتبة صراعات أخرى نشبت بين أيديولوجيات وانتماءات متباينة، بين الفرد وظروف حياتية قاسية وضاغطة، في رحلته اليومية للحصول على لقمة العيش، وبين القيم الثقافية للأنا والآخر "ليت كل الفرنسيين مثل سوزان لوميير، سأحكي عن خلافاتنا وغمزاتنا، عندما نتبارى في مصارعة الثقافات، ضرب من تحت الحزام: دينكم كرم المرأة بتعدد الزوجات؟ تستنكر، وأنتم كرمتموها بشطحاتكم الجنسية وتحويلها إلى سلعة؟ أستنكر" ص 165.
وكما هيمن الصراع على العوالم الخارجية للشخوص، وسم أيضاً عوالمهم الداخلية وغذته انقساماتهم، فانقسمت "نجوى" بين حنينها للوطن، ورفضها لواقعه وتمردها عليه، وانقسمت بين رغبتها في منح الحرية لابنتها، وخوفها من أن تقع في أخطاء ارتكبتها هي، وانقسمت "نادين" بين انصياع وإذعان لسطوة زوجها، وبين رفض لتهمشيها وتجاهله حقوقها، وانقسمت "نسمة" بين قبول وتعايش مع حالتها المرضية النادرة، وبين حزن لما تكبدته، نتيجة لها، من معاناة، أما ناجي فانقسم بين عدم اكتراث لأمه وبين إشفاق عليها، وحرص على اكتشاف المسؤول عن حالتها، وعبر كل أشكال الصراع ومستوياته الخارجية والداخلية، مررت الكاتبة رؤية مفادها بأن لا سلام في هذا العالم شرقه أو غربه خارج النفس أو داخلها.
تماثل وتقابل
أبزت الكاتبة صوراً للتماثل، فتشابهت "نجوى" وابنتها "نورا" في النزوع للتمرد والجموح، وتشابهت أقنعة الصديقات الزائفة، التي توارت خلفها حقيقة معاناتهن، وإلى جانب صور التماثل، حظي التقابل بحضور أكبر، على نحو يحيل ضمناً إلى غلبة طبيعة التناقض، التي تسم النفس والعالم، فبرز بين الشرق والغرب، والعلمانية والأصولية، والحاضر والماضي، والأنا والآخر، وبين فرح يزول سريعاً، وألم يعمر عمراً.
كذلك بدا التقابل بين ما طعمت به الكاتبة نسيجها من موروث شعبي، تنوع بين أمثال وطقوس وعادات واعتقادات في الخرافة والسحر، وما استدعته من حمولات معرفية تتسق مع مهنتها، وخلفيتها الطبية، وتمكنت من توظيفها في خدمة السرد، ولا سيما المعارف حول متلازمة "تيرنر" التي كانت سبباً في معاناة "نسمة" ونقص أنوثتها، إضافة إلى اضطراب الذاكرة، الذي عانته "نجوى" كرد فعل نفسي على ما لحق بابنتها، وكذا الإكزيما التي كانت تهاجم "نعيمة" كلما تألمت روحها.
وعلى رغم وقوعها في خطأ الخلط بين أسماء بعض الشخصيات، استطاعت الكاتبة أن ترسم صورة حية نابضة لعلاقات إنسانية مرتبكة ومعقدة وشخوص مأزومة وهويات متشظية، وتركت نهايات حكايات النسوة الأربع مفتوحة، لتشرك قارئها في لعبة السرد، وتمنحه دوراً في نسج أحداث جديدة، وفي تقرير مصائر الشخوص.