أراقب الوضع المأسوي الذي يمر به وطني فتتكرس لدي تلك القناعة التي ترى أن حاضر الشعوب يحكمه الماضي، وكلما كان الماضي أقدم كان الإفلات من مصيدته أصعب.
خلال سفرتي إلى بغداد في ربيع عام 2015، تلمستُ وقوع تغييرات بسيطة في إيقاع الحياة اليومية، عما كان سائداً بعد سقوط النظام السابق في خريف عام 2003. مع ذلك فهي جذرية لأي حياة ممكنة، في مدينة واسعة يزيد عدد سكانها على السبعة ملايين، مثل بغداد.
وأهم هذه الشروط إزالة الخوف من الآخر الذي ترعرع في النفوس بعد احتلال الولايات المتحدة وحلفائها البلاد وإسقاطها الدولة وحل جيشها ومؤسساتها الأمنية.
لم يكن قد مضى على تعيين حيدر العبادي رئيساً للوزراء سوى أشهر قليلة، ولعله أول رئيس وزراء في العراق أكمل دراسته العليا في بريطانيا وعمل في مجال اختصاصه مهندساً لنصب المصاعد الكهربائية فيها، وهو على الرغم من انتمائه إلى حزب الدعوة الإسلامي، فقد تعلم أهم مبدأ في الحياة السياسية البريطانية (حتى بروز بعبع بريكست) الاعتدال وروح التسوية مع الخصم من منطلق مبدأ ربح - ربح أفضل من خسارة - خسارة.
جاء تعيين هذا السياسي الذي كان في الظل حلاً وسطاً، بعد الكوارث التي قاد البلاد إليها سلفه، نوري المالكي، الذي استغل الورقة الطائفية في أقصى حدودها ليرسخ سلطته، وتوجت فترة حكمه بين عامي 2006 و2014 بفتنة طائفية قتِل خلالها، وبشكل عشوائي، عدد كبير من سكان بغداد على يد الميليشيات الشيعية والسنية معاً، وتشردت آلاف العوائل من مناطقها، ثم جاء احتلال الموصل على يد "داعش" من دون مقاومة، ثمرةً لسياسته الطائفية الشعبوية التي ظل ملتزماً بها، واختيار قادة عسكريين فاشلين في مواقع حساسة انطلاقاً من خلفياتهم المذهبية.
حال قدوم العبادي إلى الحكم بادر فوراً إلى القيام بخطوة لم تكسب اهتمام الشارع على الرغم من أهميتها الكبرى في هزم "الشعور بالخوف من الآخر" حين أصدر أمراً بهدم كل الجدران الإسمنتية الفاصلة بين الأحياء على أساس مذهبي في بغداد، ورفع حظر التجول بعد منتصف الليل الذي ظل مطبقاً سنوات عديدة على أهلها.
ومثل شخص يكتشف أن السراب الذي يراه ليس ماء بل وهماً، كشفت المدينة وأهاليها أن الخوف من الآخر ليس إلا وهماً، فراح الكثير منهم يتنقلون ليلاً وفتحت المقاهي والمطاعم والمحلات لتبقى إلى ساعات متأخرة من الليل.
كذلك بدأ بإزالة متباطئة، لكنها ملموسة، لتلك الخطوط الطائفية الفاصلة بالنسبة إلى موظفي الدولة، وترتب على ذلك بدء محاسبة أولئك الذين سرقوا من المال العام حتى ولو كانت تلك الخطوة على مستوى إداري منخفض.
ولعل ما ساعد العبادي على اتباع سياسة مسك العصا من الوسط هو كونه من أبناء مدينة بغداد، التي ظلت خلال القرن العشرين مصهراً حقيقياً لتشكل كتلة ضخمة من الأسَر المختلطة مذهبياً تتجاوز نسبة الخمسين في المئة بحسب بعض الإحصاءات التي أعقبت عام 2003.
إضافة إلى ذلك، ساعدت دراسته وعمله وإقامته الطويلة في بريطانيا التي كانت منفى له منذ خروجه من العراق في أواخر السبعينات من القرن الماضي على تشكل ذهنية سياسية مختلفة عما هو مألوف في العراق، تتمثل في سعيه الدؤوب إلى إيجاد حلول تجنب البلد الخسارة والمضي إلى حافة الهاوية.
ففي معالجته للمواجهة التي كانت قائمة بين الزعيم الكردي مسعود البرزاني ونوري المالكي بخصوص واردات نفط كركوك وافق العبادي على استئناف استخراج النفط وبيعه مع القبول بنسبة لكل الطرفين.
في عهده الذي لم يتجاوز 4 سنوات ما بين 2011 و2014، تم دحر "داعش" واسترجاع ثالث أكبر مدينة في العراق: الموصل من يد وحوش التنظيم الإرهابي، والتمكن من استرجاع مدينة كركوك التي استولت عليها قوات من البيشمركة التابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني، خلال تلك الفترة العصيبة، من دون أي مواجهة، ولعل هذا النجاح يعود إلى قدر ملموس من الحنكة والقدرة على التفاوض مع الخصوم السياسيين، وكل هذه الصفات اختفت لدى السياسيين العراقيين منذ إقصاء الدكتور عبد الرحمن البزاز عن رئاسة الوزراء عام 1966 ليحل محله ضابط كبير.
***
تمتاز بغداد بالعدد الهائل من سيارات الأجرة، إذ انقرض تقريباً بعد عام 2003 قطاع النقل العام الحكومي، إضافة إلى أن سنوات الحصار القاسية التي مر بها العراق خلال التسعينيات من القرن الماضي وهبوط قيمة العملة بنسبة تتجاوز الألف في المئة، دفعت بالجميع ليعملوا سائقي أجرة بعد انتهاء دوامهم، فالقضاة وضباط الجيش والمدرسون وموظفو الدولة هبطوا إلى الشوارع بسياراتهم لكسب جزء يفيهم غرض إبقاء أسرهم على قيد الحياة.
وها أنذا أجدني غارقاً في حديث مع سائق لطيف، أتبادل أطراف الحديث معه عن أمور البلد. لا أستبعد أنه عرف من اللحظة الأولى أني لست سوى زائر إلى العراق. قبل هبوطي من سيارته بدقائق قليلة، سألته ما رأيه برئيس الوزراء الجديد، فما كان منه وهو يوقف سيارته أمام المكان الذي توجهتُ إليه، إلا أن يرفع سبابته إلى أعلى: "نحن ننتظر..." ردّد جملته وعيناه تشرقان بأمل كبير. "ماذا تنتظرون"؟ سألته، فجاء جوابه معبّراً عما بقيت أسمعه يتردد كثيراً حولي "ننتظر قدومه..." ولم أستطع التقاط كلماته الأخيرة لضعف نبرته، إنه على الأغلب ينتظر قدوم البطل المنقذ.
ولتحقيق قدوم هذا البطل، كان على نخبة من المثقفين أن توفر الأرضية لظهوره.
كانت الخطوة الأولى التي بادرت النخبة السياسية المثقفة، أمام زعيم يفتقد للكاريزما التي ظل القادة الشعبويون المفوّهون يتمتعون بها في العراق، هو تحفيزه لأن يتطابق مع صورة البطل المنقذ، بدعوته إلى الخروج عن حزب الدعوة بدلاً من جرّ جزء معتدل إلى جانبه، ورفع سقف المطالب إلى الحد الذي يتطلب إلغاء كاملاً للنظام السياسي الذي تشكل إثر سقوط النظام السابق، أتذكّر أن بعض رسوم الكاريكاتير منحته عضلات إضافية لتعويض صغر بنيته الجسدية، وليصبح مثل هرقل في أداء مهام أسطورية تتضمن تنظيف إسطبلات أوجياس بأقل من أربع وعشرين ساعة.
غير أن كل هذه التزويقات لم تغير شيئاً من حقيقة كون حيدر العبادي في هيئته وخطابه وقراراته رجل أعمال ناجحاً أراد تطبيق المبادئ التي تعلّمها في حياته المهنية السابقة، من أن ضمان نجاح أي مشروع يتطلب بناء أساس قوي أولاً له قبل الانتقال إلى مرحلة رصف الحجارة صفاً فوق صف عليه.
فهو يعرف أن التخلّي عن حزبه سيكون عملية انتحار واضحة له، فهو لم يأت إلى السلطة إلا بفضل انتمائه إليه، وهو يعرف أيضاً أن كل القادة السياسيين الذين لم تكن وراءهم أحزاب قوية قُتلوا في العراق ابتداء من نوري السعيد والأمير عبد الإله مروراً بعبد الكريم قاسم وانتهاء بعبد الرحمن عارف (الذي قُتل سياسياً حين استولى الانقلابيون على قصر الرئاسة ليرسلوه في ليلة دهماء منفياً إلى تركيا). ولعل صدام حسين وعى هذا الدرس جيداً فاعتمد بالدرجة الأولى في الحكم على ولديه وأخوته (غير الأشقاء) وأقاربه وعشيرته، وهذا ما فعله نوري المالكي باعتماده على الخطاب الشعبوي الطائفي ودعم إيران له.
حين فشل حيدر العبادي في أن يتحوّل بين عشية وضحاها إلى بطل أسطوري يطيح رؤوس الفساد وحلّ البرلمان وإلغاء الدستور بدأت النخبة السياسية (اليسارية بالذات) مع قطاع واسع من أنصار رجل الدين مقتدى الصدر بالتظاهر بانتظام كل يوم جمعة في ساحة التحرير، مطالبةً العبادي بالتخلي عن جلده والقيام بثورة على نظام سياسي جاء به هو إلى الحكم.
وبفضل هذه التظاهرات المنتظمة تحقق التقارب السياسي بين رجل الدين الناري مقتدى الصدر والحزب الشيوعي الذي توّج بائتلاف في الانتخابات الأخيرة تحت اسم قائمة "سائرون".
قام النظام السياسي الجديد الذي كان بريمر عرابه عام 2003 على مبدأ نسبة المكونات القومية والدينية والمذهبية، في كل قطاعات الدولة، وبذلك أصبحت النسبة كالتالي: 60 في المئة من العرب الشيعة و20 في المئة من العرب السنة و20 في المئة للأكراد (بغض النظر عن خلفياتهم المذهبية). وجاء هذا المبدأ معارضاً تماماً لمسار دولة العراق الحديثة التي تأسست عام 1921. بل حتى نسبة الحرس الجمهوري التي ظل الإعلام الغربي يؤكد أن أغلبيته من السنة اتضح لاحقاً أن أكثر من 60 في المئة من أفراده هم من الشيعة العرب.
كذلك فإن هذه البنية الجامدة التي تُسقط من الاعتبار الكفاءة والخبرة ليحل محلها الانتماء المذهبي والقومي ساعدت على تعميق الفساد وتدهور الخدمات وبروز مافيات فئوية تحت يافطات طائفية.
ما ساعد على إقصاء حيدر العبادي وقائمته الائتلافية من الفوز في انتخابات السنة الماضية مقاطعة نسبة عالية من الناخبين لها.
وهذا القطاع الواسع من الأفراد أصبحوا على قناعة بالشلل البنيوي الذي تعاني منه ديناميكية المجتمع وتطوره وازدهاره بفضل هذا النظام السياسي القائم على وضع جدران غير مرئية بين مكوناته.
كأن ذلك الأمل الذي عبّر عنه سائق السيارة، بقدوم البطل المنقذ هو القاسم المشترك لكل أولئك الذين قاطعوا صناديق الاقتراع في الانتخابات التشريعية الأخيرة.
وكم يشكل هذا الانتظار دورة تتكرر جيلاً بعد جيل، بظروف أفضل بكثير مما هي عليه الآن، وهي خاصية ظلّت تتحكّم في مسار العراق الحديث:
جاءت ثورة 14 يوليو (تموز) 1958 لإسقاط النظام المدني الملكي في لحظة مفصلية من تاريخ العراق: شهد العراق خلال الخمسينيات من القرن الماضي ازدهاراً متنامياً بفضل عائدات النفط (التي لم تزدْ عن 50 مليون دولار سنوياً) وبفضل التخطيط الذي كان يقوم به مجلس الإعمار المتشكّل عام 1950 تمّ توسيع هائل للأراضي الصالحة للزراعة، وكوِّنت بحيرة الحبانية وأقيم أكثر من سد جنَّبَ، للمرة الأولى، بغداد الفيضان في منتصف عقد الخمسينيات، عدا عن بناء ثلاثة جسور دفعة واحدة في بغداد تربط ضفتيها، وأنشئت أحياء عصرية كثيرة لأصحاب الدخل المتدني خارج دائرة بغداد التقليدية، مقابل إيجارات رمزية.
يمكن القول إنه بالإمكانات المالية المتواضعة للعراق، تم إنجاز رقم قياسي من مشاريع إقامة البنية التحتية للبلاد خلال سبع سنوات، وإنجاز جزء آخر مهم منها لاحقاً، سمح للقادة "الانقلابيين" اللاحقين بالتباهي بتحقيقها في عصرهم.
غير أن فكرة البطل المنقذ كانت عميقة في اللاوعي الجمعي العراقي.
في مقابلة لمجلة التايم مع نوري السعيد (رئيس وزراء الاتحاد الهاشمي آنذاك) الصادرة يوم 17 يونيو (حزيران) 1957، قال إن ما يفخر به هو إنشاؤه مجلس الإعمار، وبذلك سحب 70 في المئة من واردات النفط من يد السياسيين ووضعها في يد الخبراء، وفي المقابلة نفسها التي صدرت تحت عنوان "الباشا" يقول السعيد رداً على المد الثوري آنذاك: "لا يمكن تغيير حياة الناس بسرعة. أنت لا تستطيع أن تحقن طفلاً ابن يومين بمصل ونقله إلى سن العاشرة، فحتى لو نجحت فإنه لن يكون طبيعياً. علينا دائماً أن نحسب حاجتنا إلى الوقت في كل شيء".
في لحظة ازدهار أخرى للعراق عام 1967 بعد هزيمة حزيران هبّ الطلاب والعمال وقطاعات واسعة من الشباب في تظاهرات وإضرابات واسعة وفّرت الأرضية لقدوم بطل منقذ آخر، وهذا ما حدث في انقلاب 17 تموز 1958 الذي أطاح رئيساً تنقصه الكاريزما، ليفتح الطريق إلى استيلاء صدام حسين على السلطة بالكامل عام 1979، وفتح طريق الدموع مرة أخرى.
في التظاهرات العارمة التي تدور اليوم ليس هناك سوى أمل واحد يشدّ الأبطال المشاركين في أوارها: بروز بطل حقيقي منقذ، يستطيع بضربة عصا، تحويل الخرائب إلى جنان معلقة.