ملخص
تسعد مجلدات كتبها لورانس ستيرن لكي يحكي فيها سيرة بطله تحت عنوان "حياة وأراء تريسترام شاندي" لكن اللافت أن البطل نفسه لن يولد إلا في المجلد الثالث
لم يكن مخطئاً بالتأكيد ذلك المؤرخ للأدب الذي وصف رواية لورانس ستيرن "حياة وآراء تريسترام شاندي"، ذات يوم بأنها أشبه بأن تكون "أنطولوجيا لتاريخ الرواية حتى زمنه". فالحال أن قارئ هذا السفر الروائي الطويل، الذي كتبه صاحبه وأصدره في تسعة مجلدات خلال ما يقارب عقدين من الزمن، سيدرك بسرعة ما إن يلج الفصول الأولى من الكتاب، أنه أمام استلهام، بل أحياناً اقتباس، من عشرات الكتب السابقة التي تراوح ما بين أعمال رابليه وثرفانتس مروراً ببوب ولوك وسويفت ومونتاني... لكن اللافت هنا هو أن الكاتب لا يحاول أن يخفي "مصادره" تلك، بل يتعامل مع اقتباساته واستلهاماته منها، وكأنها نوع من "التحية" لمن سبقوه إلى "اكتشاف" تلك المواقف والأوصاف والشخصيات، في ما يمكن أن يعد في عصورنا الحديثة نوعاً من "التثاقف" الذي باتت له كراسي أستاذية في جامعات العالم وكف منذ زمن عن أن يعد "سرقات أدبية". أما رواية ستيرن فإنها بدأت تصدر، في لغة إنجليزية تكاد تكون حديثة بالنسبة إلى زمنها، في عام 1759، ليكتمل ذلك الصدور في عام 1767.
لغة ساخرة لتاريخ جاد
يمكن القول في المقام الأول إن الحبكة - أو الحبكات - الأساس لهذه الرواية تقوم على الفكاهة والنكات الساخرة. ولعل أولى هذه النكات، تلك التي تتعلق بالموضوع المحوري للرواية الذي يشير إليه العنوان بكونه "حياة وآراء" بطلها تريسترام شاندي، وذلك لأن تريسترام نفسه لن يولد، بحسب الراوي الذي هو البطل، إلا في المجلد الثالث، بحيث إن المجلدين الأول والثاني وجزءاً كبيراً من الثالث ليس له أي وجود فيها، لتنعقد البطولة لأبيه والتر وعمه توبي وخادم هذا الأخير المدعو تريم... ناهيك برهط من شخصيات ثانوية أخرى. بل يمكن القول أيضاً، إن تريسترام لن يكون كلي الحضور حتى في بقية المجلدات، إذ يكاد يكتفي دائماً بأن يكون راوي الحكاية والمعلق على أحداثها وتفاصيلها، والحاكم، أخلاقياً، على تصرفات شخصياتها، بحيث قد يصدق الجزء من العنوان المشير إلى "آراء تريسترام" أكثر كثيراً من صدق الجزء المتعلق بـ"حياته".
ومهما يكن من أمر، من الواضح أن ستيرن حين جعل من كتابه رواية، كان معنياً أولاً وأخيراً بأن تكون سيرة للمجتمع الإنجليزي المعاصر، بأكثر مما تكون حكاية فرد من الأفراد، ولعل هذا ما أعطى الرواية قيمتها الأساس وجعلها تعد واحدة من أهم النصوص التي صورت المجتمع البريطاني خلال أواسط القرن الـ18 خير تصوير، وغالباً كما أشرنا، بمنطق السخرية الحادة التي تتناسب مع نزعات ستيرن الإصلاحية، ما يقرب هذا العمل مرة أخرى، من "غاراغاتتوا" رابليه.
منذ لحظة التكوين
تقع الأحداث الكبرى لهذا الكتاب في دارة آل شاندي وحديقتها، بدءاً من اللحظة التي كون صاحبا البيت، وليدهما المقبل الذي سيحمل خطأً اسم تريسترام، أي قبل ولادة هذا الأخير بشهور طويلة، إذ إن الوليد المقبل هو الذي سيقدم إلينا، باكراً، معظم الشخصيات، راسماً من خلال سلوكها وعلاقاتها صورة للمجتمع، ولكنه، في الوقت نفسه، مقدماً نقداً ساخراً لـ"الرواية الحديثة" كما كانت قد بدأت تتكون في زمنه. وهو للوصول إلى هذا النقد، تعمد أن يخلط أحداثاً بأحداث وشخصيات بأخرى، أن يقطع فصولاً في منتصفها، مسبقاً حدثاً سيحصل لاحقاً، على حدث يعود تاريخه إلى سنوات، بل إنه تعمد في بعض الأحيان أن يترك صفحات بأسرها فارغة لا كلمة أو نقطة فيها. أما الشخصية التي تقدم إلينا بقوة من خلال الصفحات الأولى فهي شخصية الأب والتر، الذي لا ينطق إلا بالكلمة المتفلسفة، والعبارات الطنانة والمعاني الدالة، محيلاً في كل عبارة له إلى عتاة الكلاسيكيين في التاريخ والطب والعلم والقانون... إنه من تلك الشخصيات التي تبدو في كل حين وساعة أشبه بالكتب المتحركة الساعية إلى إملاء أحكام العقل في كل حين، بما في ذلك حين يكون منهمكاً في تكوين وليده مع زوجته، إذ في اللحظة الحرجة تسأله زوجته مرتاعة عما إذا كان قد ضبط بندول الساعة، فيقوم من فوره ليفعل ذلك، مما سيؤثر لاحقاً في تكوين الحنين! والأدهى من هذا أن الأب لاحقاً - في المجلد الثالث - حين ستخبره الممرضة أن زوجته وضعت صبياً سيعلن أن الاسم الذي اختاره لهذا الأخير هو تريسميجيستوس، لكن الممرضة التي لم تسمع الاسم جيداً ولم تفهمه – على رغم إيمان والتر الأعمى بأن فصاحة نطقه مفهومة للآخرين - ستفهم أن الاسم هو تريسترام، وتنقله إلى الكاهن الذي كان يعمد الوليد فيحمل هذا اسمه الغريب إلى أبد الآبدين متفرداً به من دون العالمين أجمعين.
الجندي السابق حكيم حالي
على هذا النحو، إذاً، يقدم الكتاب، بلسان بطله وراويه، أحداث حياة هذا الأخير وما سبق تلك الأحداث، مكرساً أحياناً صفحات طويلة لتقديم الشخصيات، كشخصية العم توبي، الجندي السابق والحكيم الحالي، الذي يجمع النقاد على أن وصف تريسترام له، إنما هو أعظم تكريم لكائن إنساني حمله الأدب في تاريخه... إنه الإنسان والمفكر المثالي الذي يجب أن يحمل صفاته وأفكاره كل إنسان على وجه الأرض، حتى وإن كان يمضي جل وقته في الدارة، في رفقة خادمه ومساعده الرقيب تريم، وهو يبحث في كيفية تعزيز الحصون العسكرية. ومن الواضح في كل النصوص المتعلقة بالعم توبي كم أن تريسترام معجب به مفضلاً إياه على أبيه، غافراً له في بعض الأحيان شغفه بالأرملة وادمان.
يمتلئ الكتاب في أجزائه التسعة بمثل هذه الشخصيات والمواقف، لكنه يمتلئ أيضاً بحكايات لن تعرف لها نهاية، وذلك لأن الرواية وإن واصل الراوي في حكايته لها إلى نص يمتد على تسعة مجلدات، تبقى ناقصة، إذ يبدو بوضوح أن لورانس ستيرن قد رحل عن عالمنا من دون أن يكمل كتابه الوحيد هذا، وبالتحديد، من دون أن يوصل أية حكاية مهمة كان قد قصها علينا إلى أية خاتمة على الإطلاق. ومن هنا سيظل غالباً على هذا الكتاب طابع تصوير الشخصيات في تفاصيل التفاصيل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حفنة من "أبطال" آخرين
ولئن كان تريسترام قد أفرد الجزء الأكبر من ذكرياته وضروب رصده لأبيه والتر وعمه توبي، فإنه قدم لنا في الوقت نفسه عدداً لا بأس به من شخصيات أخرى، إذ عدا الشخصيتين الأساسيتين المرتبطتين بالعم توبي، خادمه تريم والأرملة وادمان، هناك شخصية الكاهن يوريك الذي يتسم أول ما يتسم بعدائه الشديد لنظرية الجاذبية. إنه شخص أريحي معطاء، لكنه يجهل كل شيء عن الحياة، هو الذي ربما يكون متحدراً من المهرج الذي رأيناه سابقاً في مسرحية "هاملت" لشكسبير، ومن هنا غالباً ما نراه يصرخ في لحظات معينة "أواه... يا للمسكين يوريك!". بل إن ستيرن يخصص صفحات عديدة من أحد مجلدات الكتاب لينشر النص الكامل لموعظة ألقاها الكاهن.
أفكار الكاتب تماماً
من الواضح هنا، في نهاية المطاف، أن كاتب الرواية لورانس ستيرن (1713-1768)، إنما يحمل هنا بطل روايته وراويها، أفكاره الخاصة، في بعدها الأكثر عبثية أحياناً، بحيث نجدنا أمام صفحات تحاول، مثلاً، أن نتساءل حول جذور الأفكار المظلمة التي قد تعترينا في بعض الأحيان، أو حول الزمن السيكولوجي، الذي يعده ستيرن (وتريسترام أيضاً) الزمن الوحيد الموجود حقاً، أو حول الأطفال السابقين عصرهم، والحب وثياب قدامى الرومانيين. وثمة صفحات طويلة أيضاً تحدثنا عن رحلة قام بها الكاتب - بطله على أية حال - إلى فرنسا، إذ نهل من آدابها وأفكار كتابها وما إلى ذلك... باختصار، حين سئل لورانس ستيرن عن هذا كله قال "في الحقيقة أنا لست من يوجه ريشتي في الكتابة، بل هي التي توجهني". ويبدو أن ريشته هذه كانت هي من فرض عليه تلك الصفحات الخاوية، أو السطور المؤلفة من فواصل متعاقبة، أو معقوفات لا تنتهي... مما سيعتبر، على أية حال، جزءاً من حس هذا الكاتب الفكاهي، الذي لو عاش أكثر لكان من شأنه أن يضفي على الأدب الإنجليزي مسحة لا سابق لها ولا لاحق.