ملخص
تتزايد الفجوة بين قوى الشرق والغرب، ومن بين التداعيات الأخيرة تجاهل ورفض محمد المنفي رئيس المجلس الرئاسي الليبي قرار مجلس النواب بإنهاء ولايته وولاية حكومة الوحدة الموقتة لعبدالحميد الدبيبة، ونزع صلاحياته بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة، وكأنه مارسها بشكل حقيقي في أي مرحلة، ولكنه يواصل تأكيده على أنه القائد الأعلى للجيش.
منذ أيام أدلت السيدة ستيفاني خوري القائمة بأعمال المبعوث الأممي بإفادتها الدورية أمام مجلس الأمن، وتتمثل أهمية هذه الإفادة التي نادراً ما يترتب عليها شيء، بتذكير المجتمع الدولي باستمرارية الأزمة في ليبيا، وفي الحقيقة تشهد الحالة الليبية مزيداً من التدهور والارتباك في وقت يواصل فيه العالم الانشغال ببؤرتي التوتر الأكثر جذباً للانتباه وهما الحرب الإسرائيلية في غزة واحتمالات امتداد هذه الحرب الإقليمية من ناحية، ومن ناحية أخرى الحرب الأوكرانية، ولقد رصدنا منذ فترة أن بؤر الأزمات الأخرى في المنطقة تزداد تدهوراً وجموداً وبخاصة في اليمن وسوريا وليبيا، والمشكلة أن تفكيك الخيوط المتداخلة في هذه الساحات على درجة كبيرة من الصعوبة، ولكن ليبيا تنفرد بأنها ربما الأكثر تشرذماً وتعقيداً.
سلسلة جديدة من التعقيدات
لا تتوقف الأوضاع الليبية عن إنتاج التعقيدات متعددة الأنماط، وأخيراً، ثارت أزمة متجددة حول منصب محافظ المصرف المركزي الليبي، وهو المنصب صاحب النفوذ الوحيد المستمر. فقد صدر قرار من رئاسة مجلس النواب في شأن إيقاف العمل بالقرار رقم 3 الصادر في 2018 بتكليف محمد عبدالسلام الشكري محافظاً للمصرف، وذلك لمضي فترة تكليفه وعدم مباشرة مهام عمله من تاريخ صدور قرار تكليفه.
وعلى رغم أن هذا انتصار للمحافظ المسيطر الصديق الكبير الذي كان يحظى بدعم من القوى المهيمنة على الغرب الليبي، فإنه عملاً بقاعدة تدوير المواقف، يبدو أن انفتاح المحافظ على الشرق، أدى إلى تداول المجلس الرئاسي برئاسة في الغرب، وهو الجهاز الذي اصطنعته تسويات "اتفاق الصخيرات" الأممي، ويفترض أنه يمثل قمة السلطة التنفيذية ولكنه يمارس نفوذاً محدوداً للغاية، إلى طرح نيته في تعيين محافظ جديد، وهنا تشير السوابق إلى أن الصديق الكبير يحظى بدعم قوى خارجية وسيكون من الصعب إزاحته، وإن كان لا يوجد شيء قابل للحسم في الساحة الليبية.
وتتزايد الفجوة بين قوى الشرق والغرب، ومن بين التداعيات الأخيرة تجاهل ورفض محمد المنفي رئيس المجلس الرئاسي الليبي قرار مجلس النواب بإنهاء ولايته وولاية حكومة الوحدة الموقتة لعبدالحميد الدبيبة، ونزع صلاحياته بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة، وكأنه مارسها بشكل حقيقي في أي مرحلة، ولكنه يواصل تأكيده على أنه القائد الأعلى للجيش.
وفى اجتماع عقده أخيراً، بالعاصمة طرابلس في مقر أحد الألوية قال، إن توحيد المؤسسة العسكرية ليس خياراً، وإنما ضرورة ملحة لتأسيس جيش قوي متماسك وركيزة أساسية لضمان استمرار الوطن.
ويبدو موقفه الأخير من موضوع محافظ المصرف المركزي في إطار المكايدات والمشاحنات مع مجلس النواب.
وفى الحقيقة فإن التناحر بين معسكر القوى المدنية في الشرق والمعسكر الذي تهيمن عليه قوى الإسلام السياسي في الغرب لم يتوقف طوال الأعوام الماضية عن التعبير عن نفسه في مشادات لفظية وتصريحات بعد أن وصلت إلى حالة الجمود العسكري والتوازن المعتمد على قوى خارجية بالأساس، ويتركز الصراع على استنزاف سياسي وإعلامي وترسيخ للانقسام.
ترسيخ النفوذ والوجود التركي
على أنه يمكن اعتبار هذا البعد الأكثر أهمية في الساحة الليبية في الأعوام الأخيرة، ومما يستحق الذكر هنا استعراض ما نشره موقع مركز أبحاث سويدي في الـ16 من أغسطس (آب) الجاري، وهو مركز "نورديك مونيتور"، وقد انطلق التقرير من طلب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الـ12 من أغسطس الجاري، أي قبل إعداد التقرير السويدي بأربعة أيام، من برلمان بلاده اعتماد اتفاق تفاهمات توصل إليها الجانب التركي مع حكومة الدبيبة في مارس (آذار) الماضي، وهذه التفاهمات الجديدة تستند إلى مذكرة تعاون تركية - ليبية في عام 2012، ثم مذكرة التعاون العسكري والأمني بين تركيا ورئيس حكومة الوفاق الوطني السابق فايز السراج الذي اصطدم بعدد من العراقيل السياسية، في عام 2019، ومهدت للتدخل التركي خلال محاصرة الجيش الليبي للعاصمة طرابلس في العام نفسه وما أدى إليه ذلك الأمر من تداعيات .
وفى الحقيقة أن المذكرة الجديدة التي قدمتها الحكومة التركية وعرض لها باستفاضة مركز الأبحاث السويدي تتضمن كثيراً من النقاط الكاشفة وعلى رأسها أن أي جرائم يرتكبها أفراد عسكريون أتراك في أثناء أداء واجباتهم الرسمية ستخضع للقانون التركي حصرياً، أما الجرائم التي ترتكب خارج نطاق الواجبات الرسمية فستخضع للولاية القضائية الليبية.
كما تتضمن المادة الـ12 من الاتفاق الجديد السماح للأفراد الأتراك العسكريين بحمل الأسلحة الشخصية العسكرية وارتداء زيهم العسكري الرسمي في أثناء تأدية واجباتهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتوفر المادة السابعة من الاتفاق السماح للقوات التركية بإمكانية الوصول غير المقيد إلى المجال الجوي والمياه الإقليمية الليبية، كما تسمح للقوات التركية بالاحتفاظ بأنظمة الاتصال الخاصة بها، ويضاف إلى كل هذا تحمل الحكومة الليبية كل كلف القوات التركية، فضلاً عن إعفاءات مالية كبيرة، أي إن المذكرة الجديدة، بتحليل المركز السويدي، توفر حصانة واسعة للقوات التركية.
وفى الحقيقة أن المذكرة الجديدة المطروحة أمام البرلمان التركي كافية لتوضيح مدى تغلغل النفوذ التركي وتحوله لما يشبه قوة استعمارية جديدة وتذكر بامتيازات الاستعمار التقليدي حتى منتصف القرن الماضي، وهي كاشفة كذلك للمدى الذي تسمح به قوى الإسلام السياسي بفقد سيادة الدولة مقابل استمرارها بالتمتع بالنفوذ في الغرب الليبي.
لماذا انسداد الأفق الليبي؟
إذا كانت التجاذبات والتوترات لم تنقطع إلا قليلاً بين المعسكرين المتخاصمين في ليبيا، فإن جولات الحوار والتفاوض السابقة كانت تعطي هدنات متقطعة لهذه التجاذبات، أو في الأقل تحتويها أسابيع أو أشهراً بحسب الأحوال، وتمنع من تدهورها المتواصل، وكانت تقدم مسكنات وهمية وقصيرة الأجل، ومع ذلك كانت لها فائدة وهي ترجمة ما يطلق عليه في إدارة الصراعات والأزمات استبدال أعمال عنيفة بالمفاوضات، وكانت بالفعل تحسن الأمزجة المعنية بالصراع الليبي وتعطي هدنات متقطعة بالتالي، تعود الأمور إلى أسوأ أو أهدأ من ذي قبل بحسب الأحوال والضغوط والتجاذبات الخارجية.
وفى الحقيقة فإن التدهور الراهن هو النتيجة الطبيعية لاستنزاف الجهود الأممية الفاشلة لكل هذه المحاولات بلا طائل لاستنادها إلى أسس وهمية واهنة وهي "اتفاق الصخيرات"، وعدم امتلاك أي من المبعوثين اللاحقين لبرناردينو ليون (مبعوث سابق للأمم المتحدة إلى ليبيا) لإثارة ضرورة الخروج من هذه الورطة التي صنعها ليون، ومن ثم استمرار التخبط والاضطراب الذي لن يتم الخروج منه إلا بحلين لا يبدو لي أن هناك ثالثاً لهما، الحل الأول هو فرض تسوية وانتخابات أممية تشرف عليها المنظمة الدولية بعد تدخل عسكري لنزع سلاح الميليشيات وفقاً للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، إذ تُعقد هذه الانتخابات وتُفرض نتائجها، وهذا الحل تعوقه حالة المجتمع الدولي الراهن، وحق النقض "الفيتو"، وحالة السيولة الدولية، وتحول ليبيا إلى ساحة صراع للنفوذ الدولي والإقليمي، أما الحل الثاني فهو الحسم العسكري بواسطة أحد المعسكرين للتوصل إلى حالة الدولة الطبيعية ولو لفترة زمنية موقتة، وهو أمر لا يقل صعوبة في ضوء التوازنات الدولية والإقليمية الراهنة، أي إن هذه التوازنات هي العقبة في تطبيق أي من الحلين .
وفى غياب هذين النهجين تبقى الحقيقة الرئيسة التي ربما ستؤثر بقوة في معالم الحسم في مرحلة مقبلة وهي ترسيخ النفوذ التركي واكتسابه أبعاداً غير مسبوقة في المجتمع الليبي الذي كان يعرف عنه مقاومة الغزاة الأجانب، ولكنه يبدو متقبلاً بشدة من قوى الإسلام السياسي وقوع ليبيا في أيدى النفوذ والحكم التركي، وهو أمر لن يكون من السهل استقراره ليس فقط لمعارضة قوى عديدة داخلية ولكن أيضاً إقليمية ودولية.