ملخص
قتل النطف المجمدة يأتي في سياق استراتيجية قطع النسل التي اتبعها الجيش خلال حربه على غزة، وهذه قصة قصف مركز الإخصاب المركزي في القطاع
بعد سبع سنوات من الانتظار والعلاج المتواصل لعدم القدرة على الإنجاب بات الغزاوي أشرف أباً، وحضنت زوجته آية طفلهما الأول. شعرت العائلة بفرحة كبيرة، وبعناية فائقة كان الوالدان يشرفان على تربية المولود الذي مرت به الأيام سريعة حتى بلغ سنتين، لكن سعادتهما لم تكتمل، إذ حرمت العائلة من الصغير ومن القدرة على الإنجاب بصورة نهائية.
في غارة جوية إسرائيلية استهدفت منطقة نزوح أشرف أصابت الشظايا المميتة التي تتطاير من القنابل المدمرة التي تسقطها الطائرات المقاتلة على غزة طفل أشرف وآية، وعلى الفور أردته ضحية، كان الوالدان قرب الصغير لحظة مغادرته هذه الحياة.
قتل الطفل والحلم
يقول أشرف "رأيت دم طفلي يسيل ورأسه مقطوعاً، حينها تسمرت في مكاني، ولم أقوَ على فعل أي شيء من شدة الصدمة"، لكن آية هرعت لحمل صغيرها، وبعدما تأكدت بنفسها من موته صرخت بأعلى صوتها.
بعد أيام قليلة حاول أشرف مواساة آية، وطمأن قلبها بأنهما لا يزالان قادرين على الإنجاب مرة أخرى، أمسك الزوج بيدي حبيبته، وأخذ يعد على أصابعها حتى رقم ثمانية، وهمس لها "ألا تذكرين؟ نحن نحتفظ بثماني نطف داخل مركز الإخصاب، بعد الحرب سنجري عملية زراعة أجنة، وسيكون لنا طفل مجدداً".
رفع أشرف هاتفه واتصل بالطبيب الذي يتابع معه عمليات الإخصاب ليطمئن على نطفه المجمدة، لكن الرجل الذي يحلم بالأبوة أصيب بضربة أخرى، إذ أبلغه كبير علماء الأجنة في غزة بأن مركز الإخصاب تعرض لقصف مدفعي وماتت جميع الأجنة المجمدة.
فقد أمل الإنجاب
ذهل أشرف، وصدمت آية. فقدا الأمل الوحيد في القدرة على الإنجاب مجدداً، إذ يعاني الرجل ضعف الخصوبة وصعوبة إنتاج حيوانات منوية قوية، أما الأنثى فتعاني مرض السرطان في الدم ولا تستطيع الحمل من جديد، كما أنها تنتج بويضات مشوهة ولا يمكن تخصيبها.
يقول أشرف "كنا نحتفظ بأمل تكرار تجربة الإخصاب، غير أن إسرائيل لم تُبقِ لنا حتى هذا الأمل، لقد استهدفت الأجنة المخصبة في حربها على غزة، هذا كان آخر أمل لي أن أصبح أباً"، أما آية فهي حزينة للغاية ولا تقوى على الحديث، لكنها تقول "كنت أماً، وفقدت ذلك الشعور للأبد".
تدمير مختبر حفظ الأجنة
في العمليات العسكرية الإسرائيلية على النصف الشمالي من غزة، أصابت قذيفة عيادة الخصوبة الرئيسة في القطاع، وتمركز انفجارها في مختبر حفظ الأجنة المجمدة، وكانت هذه الغرفة تحوي 4 آلاف نطفة، ونحو ألف عينة سائل منوي.
يقول مدير معمل الأجنة في مركز البسمة للإخصاب الطبيب محمد عجور "تجميد النطف إحدى طرق المساعدة على الإنجاب، ويجرى في مختبرات وبنوك من أجل الحفاظ عليها أطول فترة ممكنة، تحت ظروف خاصة وبدرجة حرارة 196 تحت الصفر". ويضيف "تحفظ النطف في أنابيب، وضمن ظروف معينة، إذ توضع في خزانات النيتروجين السائل التي يحفظ درجات الحرارة، لكن مع الانفجار تمزقت أغطية خمسة خزانات للنيتروجين، وتبخر هذا الغاز بسرعة، مما أدى إلى ارتفاع درجات الحرارة وتدمير 4 آلاف نطفة، وألف عينة من الحيوانات المنوية والبويضات غير المخصبة".
عادة ما يلجأ إلى عمليات التجميد من يعانون مشكلات في الإنجاب، بخاصة فئة مرضى السرطان لضمان حفظ الخصوبة بعد تعرضهم للعلاج الكيماوي والإشعاعي الذي يؤثر في الأنسجة المنتجة للحيوانات المنوية والبويضات سلباً.
يوضح عجور أن أعداد العينات لدى مركزه تجاوزت 90 في المئة من أعدد العينات المحفوظة في مراكز قطاع غزة لأن المركز يعد البنك الرئيس لتجميد النطف والحيوانات المنوية والبويضات غير المخصبة.
120 ألف عائلة لن تنجب
قضت الضربة الإسرائيلية على الأمل الأخير لمئات الأزواج الفلسطينيين ممن يواجهون مشكلات في الخصوبة. يقول اختصاصي الحقن المجهري زكريا الشرفا "هذه الضربة العسكرية دمرت أجهزة المركز الطبي، وبسببها لن تتمكن 120 ألف عائلة من الإنجاب بعد ذلك، إذ لم تعد لديهم القدرة على إنتاج حيوانات منوية أو بويضات قابلة للتلقيح". ويضيف "منذ اندلاع الحرب على غزة حطمت إسرائيل آمال كثير من العائلات، وقطعت الخيط الذي تبني عليه أحلامها بالإنجاب، هناك قصص مؤلمة لأزواج كانوا يحلمون بالأطفال، لكن قذيفة واحدة سلبتهم ذلك الأمل، بينهم أسر تنتظر الإنجاب منذ 30 سنة، وحلمهم الآن لن يتحقق بعد أن كان هناك بصيص نور في نهاية الطريق".
في الواقع ليس هذا الضرر الوحيد، بل يوجد في قطاع غزة تسع عيادات تجري عمليات التلقيح الاصطناعي التي تجمع فيها البويضات من مبيض المرأة وتخصب بالحيوانات المنوية للزوج في المختبر، وتعرضت جميع هذه المراكز لأضرار بالغة، ولن تكون قادرة على العمل بعد الحرب.
"انحرمت من كلمة ماما"
تتنهد حنان السويسي وتقول بصوت خافت "جمدت عينات، وكنت أحلم أن أصبح أماً، لأن الأمومة شيء عظيم، لكن الغارة الإسرائيلية على مركز حفظ الأجنة جعلتني أفقد بصيص الأمل بالحياة، وليس في شعور الأمومة". وتضيف "لجأت لذلك القرار بعد أن باتت محاولات الإنجاب الطبيعية مستحيلة لأني أعاني مشكلات إنجابية، فلجأت إلى مراكز الإخصاب علني أستمع في المستقبل كلمة ماما". وتكمل "واجهت كثيراً من العقبات التي كانت تحول بيني وبين عملية تجميد البويضات، لكنها نجحت في نهاية المطاف، وكنت على وشك الخضوع لعملية زراعة أطفال أنابيب، لكن فجأة قامت الحرب ولم تهدأ بعد، في القتال لاحقت إسرائيل حتى الأجنة التي لم تخلق بعد".
في تقرير حقوقي اعتبرت الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان "ديوان المظالم" (مؤسسة حكومية، لكنها مستقلة إدارياً) أن تدمير إسرائيل لمركز حفظ الأجنة المجمدة يأتي في سياق استراتيجية قطع النسل التي اتبعها الجيش خلال حربه على غزة.
لكن في إسرائيل ينفي المتحدث باسم الجيش بيتر ليرنر ذلك، ويقول "نحقق في الضربة التي استهدفت مركز الإخصاب، نحن بالعادة لا نستهدف البنية التحتية المدنية عمداً، لكن للأسف مقاتلي 'حماس' يختبؤن في المرافق الطبية".