ملخص
نعود هنا لكتاب "حياتي" لكازانوفا نفسه، إذ يخبرنا أنه يحكي لقارئه حكاية هنرييت "التي كانت أكبر حكاية حب حقيقية عاشها ذلك العاشق الكبير"، ولكن من دون أن يوفر أية معلومات حولها ببساطة، "لأنني أنا نفسي لم أعرف عنها شيئاً، وربما أعتقد في بعض لحظات الشوق أنها أصلاً لم توجد أبداً في حياتي بل هي وليدة مخيلتي، لولا بضع كلمات رأيتها دائماً محفورة بجوهرة حادة لخاتم كنت أنا من أهديتها إياه، تنم عن كونها امرأة حقيقية".
عند بدايات اندلاع الثورة الفرنسية ووصول شراراتها إلى طول أوروبا وعرضها عند بدايات العقد الأخير من القرن الـ 18، كان ثمة سيد مهذب عجوز يجلس وحيداً في قصره المنيف في غابات بوهيميا وسط القارة، يبدو متفرداً بين الناس جميعاً في لامبالاته تجاه ما يحدث في العالم المحيط به، فهو كان منكباً على أوراقه، وقد وصل إلى سن الشيخوخة، وإلى إنجاز كتابة نحو 2000 صفحة بحروف صغيرة من المستحيل القول إنها على علاقة بما يحدث في العالم.
كان الرجل يكتب على تلك الأوراق وبسرعة عجيبة وكأنه يسابق الزمن، فما الذي كان يكتبه؟ ليست سوى قصة حياته، ولأن اسمه كان السيد جاكومو كازانوفا فقد كان من الواضح أن ما يكتبه حقاً من خلال تلك القصة حكاياته مع النساء أو، بحسب تعبيره هو نفسه، "حكاياتي مع النساء اللواتي ارتبطت بهن وأحببنني بأكثر كثيراً مما أحببتهن".
ونعرف تاريخياً أن كازانوفا مغامر في عصر التنوير الكبير الذي ولد في البندقية عام 1725 ليموت بعد ذلك في قصره في بوهيميا عام 1798، وفي وقت كانت الثورة الفرنسية قد تحولت إلى الإرهاب لم يهتم طوال حياته إلا بنفسه وغرامياته ومغامراته، وصولاً إلى كتابته عن ذلك كله في الكتاب الذي خلفه في ثلاثة مجلدات ضخمة بعنوان "حياتي".
أنانية عاشق تنويري
طبعاً نحن لا نأتي بجديد حين نتحدث عن هذا الكتاب ولا حين نشير إلى أنانيته المطلقة، ولا طبعاً إلى نسائه اللواتي يحدثنا على صفحات "حياتي" عما لا يقل من 150 امرأة منهن أقام معهن علاقات حقيقية، تمخض معظمها عن ورطات كادت تصل به أو بهن أحياناً إلى حد التصفية الجسدية، بخاصة على أيدي رجالهن، ووصلت به في مرات كثيرة إلى زنازين السجون.
لكن الجديد وربما المفاجئ الذي قد يمكن التوقف عنده هنا ليس سوى هنرييت، فهي الوحيدة بين النساء جميعاً التي تمكنت، على غير انتظار من صاحب العلاقة، أن تفطر قلبه حتى من دون أن يعرف عنها أشياء كثيرة، بل ها هو يؤكد في كتابه أنه لم يعرف أبداً ماذا كان اسمها الحقيقي، فهي بالتأكيد لم تكن تدعى هنرييت لكنها في المقابل "كانت وتبقى أجمل امرأة قابلتها في حياتي، والوحيدة التي أحببتها من كل قلبي وبقيت مشتاقاً إليها بعدما افترقنا للمرة الأخيرة"، وقد مضت أشهر قليلة جداً على تعارفهما، وهذا ما يؤكده هو نفسه في الأقل عبر كتابه وبلغة لا بد من ملاحظة أنها تفيض بالشوق والأسى حتى حين قد بات عجوزاً يكتب قصة حياته، وقد زادت سنّه عن ثلاثة أرباع القرن تقريباً.
وهو على أية حال يروي لنا الحكاية بنفسه وفي لغة وأسلوب كانا لافتين، كما أثار في القرن الـ 20 عواطف واحد من أقسى كتاب هذا القرن وه إدموند ويلسون الذي لم يشتهر بعواطفه الجياشة، لكنه خص الصفحات التي يحكي فيها كازانوفا عن حبه لهنرييت بكثير من الشجن، واصفاً إياها بأنها "تحمل على قصرها أروع قصة حب دوّنها قلم أديب في تاريخ الأدب العاطفي".
لا حاجة إلى الكذب
ما هي حكاية هنرييت وما حكاية كازانوفا معها؟ للجواب ها نحن نعود هنا لكتاب "حياتي" لكازانوفا نفسه، إذ يخبرنا مباشرة أنه يحكي الآن لقارئه حكاية هنرييت "التي كانت أكبر حكاية حب حقيقية عاشها ذلك العاشق الكبير"، ولكن من دون أن يوفر لذلك القارئ أية معلومات حولها، وذلك ببساطة "لأنني أنا نفسي لم أعرف عنها شيئاً، وربما أعتقد في بعض لحظات الشوق أنها أصلاً لم توجد أبداً في حياتي، بل هي وليدة مخيلتي لولا بضع كلمات رأيتها دائماً محفورة بجوهرة حادة لخاتم كنت أنا من أهديتها إياه، تنم عن كونها امرأة حقيقية".
ثم هناك طبعاً عاطفته وشجنه اللذين يرتبطان بها وحدها "منذ لحظة لقائنا الأول"، والعواطف والشجن في هذا العالم لا تكذب أبداً، كما نعرف، بخاصة بقلم شخص كزير النساء هذا الذي لم يكن أبداً في حاجة إلى الكذب.
ولنترك هنا قلم كازانوفا هذا يحدثنا عن غرامه الوحيد كما عبر عنه في أخريات حياته حين نجده يقول مؤكداً "إن أولئك الذين يعتقدون بأن ليس ثمة امرأة واحدة في هذا العالم يمكنها أن تجعل الرجل سعيداً طوال 24 ساعة في اليوم الواحد، من المؤكد أنهم لم يتعرفوا في حياتهم على امرأة تماثل هنرييت، تلك المرأة التي كان السرور الغامر قلبي يزداد تفاقماً حين أتحدث إليها وأستمع إلى ما تقوله خلال النهار، فيتعادل الشعور العظيم لدي مع ما أشعر به حين تكون بين ذراعي طوال الليل".
ومع ذلك ها هو كازانوفا يخبرنا كيف أن هنرييت تلقت ذات يوم "ونحن في غمرة السعادة معاً دعوة ملحة للتوجه إلى فرنسا لدواع عائلية"، ولما لم يكن من تلبيتها الدعوة مفر توجهت إلى هناك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الفراق في جنيف
ولقد رافقها كازانوفا حتى جنيف في طريقها إلى موطنها في فرنسا، وفيما كانت تودعه استحلفته بكل غالٍ لديه ألا يسعى أبداً بعد الآن للبحث عنها ومعرفة مكانها، وفيما كانت العربة تغادر بها إلى فرنسا عاد العاشق المغوار حزيناً كئيباً لغرفته في فندق لابالانس الذي كانا قد أقاما فيه تلك الليلة في جنيف، "وهناك لاحظت شيئاً مريعاً على زجاج واحدة من نافذتي الغرفة، وجدت كتابة محفورة بالتأكيد بالحجر الكريم الذي يزين الخاتم الثمين الذي كنت قد أهديته لها، وكانت الكتابة تقول: وإنك لسوف تنسى هنرييت إلى الأبد".
صعقت العبارة كازانوفا جاعلة إياه يفكر ملياً في تلك المرأة ويكتشف من جديد أنه أحبها حقاً وبصورة عميقة واستثنائية، وهو الذي لم يسبق له أن أحب في حياته أياً من اللواتي كان غزا قلوبهن قبل ذلك، وشعر أن حبه هو أروع حب عاشه فؤاد إنسان في تاريخ البشر، غير أنه ما إن انقضت ساعات على ذلك الموقف المشبع بالأسى حتى أيقن بأن حكايته انتهت "بعد أن جربت بدوري ما جربه ملايين الرجال من قبلي، أي الوقوع في الحب الحقيقي، وأنا الذي كنت أعتقد أن مثل هذا الأمر لا يمكن أن يحدث إلا للآخرين"، غير أنه كان مخطئاً في هذه النقطة الأخيرة، فالحكاية لم تنتهِ هنا بالنسبة إليه هو في الأقل.
بعد زمن طويل
الحقيقة أن كازانوفا وبعد أعوام عدة من مروره بذلك الموقف الذي حرك يومها دموعه وبدا له نادراً أو حتى فريداً في حياته، ها هو ومن جديد يمر بمدينة جنيف نفسها وقد راحت تلك الزيارة تشحن ذاكرته بصور وحكايات بعثها الماضي إليه، خالقاً لديه شعوراً مزدوجاً بالحب الخالص والشجن الحنون، وربما كان هذا الشعور هو الذي قاده ومن دون أن يقصد ذلك إلى فندق لابالانس نفسه، وهنا نراه يتابع رواية حكايته قائلاً "كان ذلك يوم الـ 20 من أغسطس (آب) 1760، وفيما رحت داخل الغرفة أقترب من النافذة إياها نظرت بما يشبه الصدفة إلى زجاج النافذة من دون أن آمل في شيء، فإذا بي تطالعني تلك العبارة القديمة المحفورة نفسها على الزجاج بالحجر الكريم وتقول لي على لسان هنرييت الحبيبة" وإنك لسوف تنسى هنرييت إلى الأبد"، وهنا إذ تذكر في جزء من الثانية تلك اللحظة السحرية التي حفرت فيها هنرييت قولها الخالد ذلك، ذُهل الرجل حين استعاد تلك اللحظات "التي استأجرنا فيها تلك الغرفة قبل 13 عاماً حين انفصلت هنرييت هنا عائدة لفرنسا" فارتمى على سريره وقد أدرك من جديد أنه وقع فريسة الحب الحقيقي الذي "لا يمكن للمرء أن يعيشه سوى مرة واحدة في حياته، يعيشه مرة واحدة إلى الأبد لينسى في ظله كل العلاقات الأخرى التي أقامها في حياته مهما كان من شأنها وشأن الطرف الآخر فيها".