Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سد النهضة يثير قلق الشارع المصري ويفتح ساحات الاتهامات بين المواطنين

الحديث عن الأزمة اتخذ طابع المصالح والأيديولوجيات... وجنون التسييس يجتاح مواقع التواصل

أثارت الأخبار المتناثرة عن تعثر المفاوضات بين مصر وإثيوبيا في شأن سد النهضة اهتمام المصريين (رويترز)

المتجوَّل والمعايش والمتابع الشارع المصري سيجد أن اسم "سد النهضة" مدمجاً هذه الأيام في أغلب الحوارات الشعبيَّة، صحيحٌ أن مسمياته تختلف من مجموعة إلى أخرى، حيث الخلفيَّات التاريخيَّة غير متوافرة والعوامل الجغرافيَّة غير وافيَّة، والأبعاد السياسيَّة غير حاضرة، والتوازنات الإقليميَّة غير وافيَّة، لكنْ السد حاضرٌ في حديث المصريين واهتماماتهم بشتّى فئاتهم وطبقاتهم.

اختلفت الطبقات واتفقت الهموم
فروق الطبقات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة والتعليميَّة المتراوحة في مصر تتضاءل، وأحياناً تتبخّر في أوقات الأزمات المؤثرة في الجميع، بغض النظر عن المستوى والمقدرة والمعرفة.

معرفة بعض المصريين بـ"سد النهضة" ليست وليدة الأمس أو أوّله، واهتمام هذا البعض به ليس ظاهرةً عجيبةً أو سمةً فريدةً، لكن اهتمام الجميع به هذه الآونة وإخبار من لا يَعْلم من قِبل من يَعْلم هو الجديد والمثير.

أثارت الأخبار المتناثرة هنا وهناك عن تعثر المفاوضات بين مصر وإثيوبيا في شأن سد النهضة اهتمام الملايين، وفي جولات التفقّد المسائي لما يجري من هرجٍ ومرجٍ على أثير الشاشات الصديقة والمعاديَّة، المتوائمة مع التوجهات والمتناقضة تتوقف الأصابع الداقة بعصبيَّة على "الريموت كونترول" كثيراً أمام الإشارات إلى ما يجري في إثيوبيا من مُضيّ قدماً في بناء السد وتأمينه إسرائيلياً.

البعضُ يكتفي بالتغطيَّة بعيون مصريَّة، ويستسلم إلى القلق. والبعضُ الآخر يلتقط الخيط، ويَمضي داقاً على الريموت باحثاً القنوات الشارحة والمحللة، وفريقٌ ثالثٌ يُمسك بتلابيب أهوائه الإسلاميَّة السياسيَّة، فيهرع إلى القنوات التي توافق هواه، معتبراً إياها عين الحقيقة الشرعيَّة وقلب الوقائع الفعليَّة كما تراها "الجماعة".

وفريقٌ رابعٌ أقل عدداً، لكنْ أعقد تركيباً وأعمق تفكيراً يغوص في أعماق البحث في مواقع إثيوبيَّة، ويتجوَّل في تقارير معلوماتيَّة وما تيسَّر من استخباراتيَّة تحت ستار عناوين بحثيَّة، ويبحث عن تصريحات مَضت، وأخرى جاريَّة لأطراف السد الضالعة للخروج بصورة لعلها تكون استشرافيَّة.

مستقبل سد النهضة
استشراف مستقبل سد النهضة المتعثرة مفاوضاته بين مصر وإثيوبيا يتزامن وزوبعة الفيديوهات لـ"المقاول الفنان" و"الناشط المهندس" وعدد من الثوريين الداعين إلى ثورة بالشوارع المصريَّة.

هذا التزامن لم يسلّط الضوء على الفيديوهات على حساب السد، أو ينتصر للسد بديلاً للفيديوهات في قائمة الأخبار المثيرة التي يتابعها المصريون من كثب، بل ما حدث شعبياً هو ربط بين الحدثين.

يسميّه البعض تفكيراً تآمرياً، ويوصمه البعض الآخر باعتباره وسواساً قهرياً ينتاب الشعوب العربيَّة بأن الكوكب يتحالف ضدهم، ويراه آخرون بأن الأحداث المتلاحقة من فيديوهات غريبة، وتغطيات إعلاميَّة إخوانيَّة غارقة في العدائيَّة للدولة المصريَّة، وميل واضح في الإعلام الغربي للتعامل مع الأحداث باعتبارها بوادر ثورة شعبيَّة عارمة، رغم أن الشوارع والمقاهي والمؤسسات والبيوت لا تعكس ذلك، لا تعني سوى ربط بين حرب مواقع التواصل الاجتماعي الشعواء ومحاولات الإيقاع وفرصة المُضِي قدماً في "سد النهضة" مع تعنت في المفاوضات المصريَّة مع إثيوبيا، ورفض الاتفاقات التي ظهرت بوادر الإجماع عليها قبل أشهر.

أشهر ما يُقال بالشارع المصري هذه الأيام إنه "السدُ الذي يُبنى بغرض منع مياه النيل عن مصر"، تقال الجملة البسيطة بطرق شتّى. بعضها تزيّنه نعوت المعرفة، والبعض الآخر تطغى عليه فطرة الشعور بالخطر.

يقول سائق الأجرة الأربعيني، "السدُ يعود إلى أيام (الرئيس الأسبق) مبارك، لكنّه (مبارك) كان قد تقدَّم في العمر، ويبدو أن موضوع السد سقط من ذاكرته، ومن ثمَّ حساباته. سد بهذا الشكل وهذا الهيلمان لا يمكن أين يكون وصل إلى الدرجة التي تستدعي بناء قاعدة صواريخ لحمايته إلا لو كان بناؤه مرَّ بمراحل كثيرة على مدار سنوات طويلة. نحن نجني أحد ثمار عصر مَضَى بحلوه ومره، وتجاهل سد النهضة مرارة من المرارات".

جنون التسييس
وإذا كان سائق الأجرة نأى بنفسه ومعلوماته عن سد النهضة عن التسييس وألوان الأيديولوجيات التي تلطّخ كل كبيرة وصغيرة هذه الأيام، فإن غيره لم يفعل.

سيدتان تنتظران في عيادة طبيب أمراض النساء والتوليد الشهير وجدتا الحديث الذي عادة يجمع بين الغرباء في قاعات الانتظار الطويل يجذبهما إلى خانة سد النهضة.

قالت الأولى، التي كانت تدس في حديثها بمناسبة ودونها عبارة "لستُ سيساويَّة والله"، "الرئيس (السيسي) ورث إرثاً بالغ الصعوبة: اقتصادٌ منهارٌ، فوضى عارمة، إرهابٌ، أمنٌ متردٍ، غضبٌ شعبيٌّ على كل الأصعدة، سياسة خَربة، احتقانات طائفيَّة، احتكاكات طبقيَّة، وسد النهضة الذي يتحمَّل المسكين تبعاته اليوم".

 

وما إنْ سمعت السيدة الأخرى كلمة "مسكين" حتى انتفضت غاضبة سائلة مستنكرة: "مسكين ليه بقى إن شاء الله؟!"، وفي إطار معارضتها العارمة الرئيس المصري، واستعراضها ملفات "الإطاحة بمرسي"، و"ما حدث في رابعة"، و"الاقتصاد الذي يهيمن عليه الجيش"، و"الاختفاء القسري" و"المعتقلين" ضمن "سد النهضة الذي يعرض مصر لخطر العطش بسبب الانقلاب على الحكم الشرعي"، ظلت تُقسم أغلظ الأيمانات بأنها ليست (إخوان)، لكن تحترمهم.

احترام الاختلافات الأيديولوجيَّة والسماح بمساحات للفروق السياسيَّة لم يعد من الأمور الواردة هذه الآونة. فبينما قنوات مصنَّفة بأنها معاديَّة مصر مهادنة الإخوان تدق على أوتار تقول إنها ثوريَّة، تدق قنوات محليَّة على أوتار تقول إنها وطنيَّة.

القنوات المحبة الإخوان والممولة من قِبل قياداتهم أو داعمين قياداتهم وأهدافهم دخلت على خط "سد النهضة" هي الأخرى. لهجات التشفي ونبرات احتفاليَّة بتعثر المفاوضات المصريَّة الإثيوبيَّة تنضح بها الفقرات ونشرات الأخبار وعناوين الموضوعات.

يقول أيمن سليمان، 34 عاماً مهندس، "أحرصُ على المرور على عدد من القنوات الإخباريَّة مساءً. لم أعتد الاكتفاء بوجهة نظر واحدة، وفي سنوات الاستقطاب والخيانات أتمعَّن في هذه الجولات حتى أحصل على صورة شبه كاملة. ورغم أن القنوات المصريَّة لا تمدني بمعلومات وافيَّة عن سد النهضة أو سيناريوهات مدروسة لمستقبله، فإن قنوات أخرى تحوَّلت إلى ناطق رسمي باسم الدولة الإثيوبيَّة، وهذا كفيلٌ بعدم الثقة فيما تقدمه".

أخبار بنكهات أيديولوجيَّة
ما يقدمه كثير من القنوات الفضائيَّة والمواقع الإخباريَّة "أخبار"، لكن بنكهات متروحة متضاربة لإرضاء جميع الأذواق.

تقول منال هلال، 45 عاماً باحثة في علوم التسويق الإعلامي، "الحديث عن (سد النهضة) هذه الأيام أصبح شأنه شأن أغلب أخبار العالم بلون المصالح ونكهة المنافع وطعم توازنات القوى".

وتضيف، "مع الأسف يتزامن هذا التوجُّه الخطير في الإعلام بكل أنحاء العالم وملف سد النهضة ذي الآثار المهمة والخطيرة بالنسبة إلى مصر. ولذلك فإن المعلومات لدى قطاعات عريضة من المصريين عن السد بعضها وليد اليوم، ومن ثمَّ متلوَّن بألوان مصالح اليوم السياسيَّة والدوليَّة والإقليميَّة".

وتابعت، "نحن قصَّرنا في حق أنفسنا، لأننا والأنظمة السياسيَّة السابقة لم تعط المسألة الاهتمام المطلوب في حينها. لذا يجد المصريون أنفسهم اليوم، وفي ظل الظروف الاقتصاديَّة الضاغطة، وسنوات ما بعد ثورة يناير (كانون الثاني) الصعبة يستقون معلوماتهم من مصادر إمَّا غير موثقة، وإما غارقة في التسييس ومحاولات الاستقطاب".

يشار إلى أن موقع "سد النهضة" حُدد بعد دراسات، قام بها "مكتب الاستصلاح الأميركي" United States Bureau of Reclamation.

حُدد موقع السد، حسب دراسات أُجريت بين عامي 1956 و1964، إلا أن الأحداث السياسيَّة العاصفة بإثيوبيا عام 1974 حالت دون تنفيذ المشروع الضخم، حسب وثائق إثيوبيَّة.

وفي عامي 2009 و2010، ظهرت بوادر جديَّة وفعليَّة لبدء عمليَّة البناء، وفي مطلع عام 2011 تسارعت وتواترت، إذ فجأة وُقّعت الاتفاقات، وبدأ البناء الفعلي في عجلة شديدة.

وفي الـ30 من مارس (آذار) عام 2011، أُعلن في إثيوبيا نيَّة بناء السد، وفي اليوم التالي الـ31 من مارس (آذار) أُعلن منح تعاقد البناء، وقيمته 4.8 مليار دولار أميركي لشركة إيطاليَّة أصبح اسمها "ساليني كونستروكتوري" في عام 2014، وذلك دون مناقصة تنافسيَّة، وبعد 48 ساعة، وتحديداً في الـ2 من أبريل (نيسان) من العام نفسه 2011، وُضِع حجر الأساس.

مواقع التواصل الاجتماعي
أساس المعرفة الحاليَّة عن سد النهضة لدى الكثيرين مستقى من مواقع التواصل الاجتماعي، وهي المنصات الغارقة حتى الثمالة في تدوير وإعادة تدوير الآراء والمواقف، باعتبارها معلومات وحقائق.

"السد مؤامرة"، "السد خير لمصر"، "السد خراب لمصر"، "السد جريمة نظام مبارك"، "السد جريمة المجلس العسكري وقت إدارته شؤون البلاد في عام 2011"، "السد مخطط إسرائيلي"، "السد مؤامرة تركيَّة قطريَّة إخوانيَّة"، وتدوينات وتغريدات بعضها يبتلعه أثير العنكبوت دون صخب، والبعض الآخر يبرزه الأثير نفسه ليعاد تدويره ويبزغ نجمه، ويتّسع جمهوره بين مؤيدٍ مهللٍ ومعارضٍ ومنددٍ.

تغريدة "لماذا تعثرت مفاوضات سد النهضة الآن، وهجوم القنوات على مصر الآن، وهجوم تركيا على مصر الآن، ولماذا محمد علي ووائل غنيم واليناريجيَّة والإخوان الآن؟ الهدف استدراج الجيش المصري في حرب مع إثيوبيا ليهلل الإخوان، ويعودوا لتصدّر المشهد"، حصلت على آلاف من القلوب المعجبة وإعادة التغريدات، كما حصدت مئات من التنديدات والمعارضات من داخل وخارج البلاد.

ومن خارج البلاد حازت تغريدة "خلي بالك النظام يقع، والثورة التي يقوم بها المصريون الآن ستلغي كل الاتفاقات، وسيزول النظام لنتمكّن من استرجاع حق مصر في سد النهضة، ويعود الحكام الشرعيون إلى الحكم، ويُزاح الجيش بعيداً عن المشهد" مئات القلوب المعجبة، وآلافاً من التنديدات والاتهامات التي وصلت إلى الشتائم والسباب.

السد والثورة
وفي السياق نفسه، تسبب الربط الذي ذكره الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، قبل أيام في المؤتمر الثامن للشباب بين تشييد سد النهضة وثورة يناير (كانون الثاني)، أو بالأحرى آثارها في مزيدٍ من الاصطفاف، كلٌّ على جبهته.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

قال السيسي في جلسة (تأثير نشر الأكاذيب على الدولة في ضوء حروب الجيل الرابع)، "سأقول لكم شيئاً، وأودّ أن يسمعه كل المصريين، ولم أتحدث عن ذلك سابقاً بشكل علني، سأخبركم بغلطة واحدة، أو ثمن واحد دفعناه وسندفعه، بغلطة اُرتكبت في 2011، لم تكن أبدا تُبنى سدود على نهر النيل إلا في 2011".

المدافعون عن الثورة والمستدعون إياها في موجات من النوستالجيا، حيث الحنين الثوري انتقدوا الربط رغم يقينهم بالخطر القائم. وعلى جبهة ليست بعيدة، مثَّلت كلمات الرئيس عن ثورة يناير (كانون الثاني) وسد النهضة أرضاً خِصبة لجماعة الإخوان وداعميها من أفراد وقنوات ودول إلى إفراد مزيدٍ من المساحات للهبد والرزع.

هبد ورزع من النوع المضاد تفجّر بسبب هذا الربط، فكثيرون ممن تضرروا من الآثار الجانبيَّة لأحداث يناير (كانون الثاني) 2011، أو آمنوا بها لكن سرعان ما ركبت موجاتها الثوريَّة جماعات دينيَّة وأخرى تبحث عن مصالح شخصيَّة وإقليميَّة فكفروا بها، لقطوا خيط الربط فتمعنوا في تصويب السهام إلى أحداث عام 2011، وتحميلها مغبة السد.

وفي خضم هذا المشهد العنكبوتي المحتدم تحت وطأة حروب الترند والهاشتاغات ومحاولات نشر وجهات نظر وآراء ومواقف في شأن السد، لكن أغلبها ليس إلا مداخل لشؤون سياسيَّة أوسع وأمنيَّة أكبر، تعود السيادة إلى الشارع حيث واقع مغاير لتداول المعلومات في شأن "سد النهضة"، وتنظير مخالف لما وراء الأزمة الحاليَّة، حيث رؤى مختلفة، وتعبيرات متنوّعة، ودرجات تفاعل وانفعال متفاوتة، لكن تبقى الركيزة الأساسيَّة واحدة، حيث شعور بالقلق، وإحساس بضرورة التصرف السريع والإجراء النافذ، وقائمة أولويات يُعاد ترتيبها بصفة شعبيَّة فطريَّة منعاً لتشتت الجهود في أجواء ملتبسة.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات