Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

على خطى فان غوخ في آرل الفرنسية حيث تنكشف أسرار عالمه

يستقل كاتب المقالة القطار إلى جنوب فرنسا ليعاود اقتفاء خطى الفنان الهولندي الشهير فيكشف حكايا ملتوية تختلط فيها الحقائق بالخيال لتعاود رسم صورة مفاجئة عن حياة الفنان

لوحة فنسنت فان غوخ "ليلة مرصعة بالنجوم فوق الرون" عندما كان يعيش بمدينة آرل في منطقة بروفونس (متحف دورساي/باتريس شميت)

ملخص

في فبراير عام 1888 وصل فان غوخ إلى آرل جنوب فرنسا، حيث أنتج روائع مثل "دوار الشمس" و"ليلة مرصعة بالنجوم"، وعلى رغم معاناته هناك وتدمير بعض المواقع الأساس التي لا تزال آرل تحتفظ بآثار وجوده، إلا أن معرضاً في الـ"غاليري الوطني" البريطاني في سبتمبر 2024 يستكشف الفترة المؤثرة والمضطربة التي عاشها في بروفانس.

في فبراير (شباط) 1888 أمضى فنسنت فان غوخ 18 ساعة في القطار للوصول إلى آرل من مدينة باريس، ومع وصوله وجد غرفة في فندق كاريل الواقع ضمن سور المدينة القديم العائد إلى القرون الوسطى وبدأ بالرسم، وقد جاءت الأعمال المتوهجة ذات الإيقاع الدائري التي رسمها هناك على مدى العامين اللاحقين، الأعمال الخالدة مثل "دوار الشمس" (sunflowers) و"ليلة مرصعة بالنجوم" (The Starry Night) لتعيد تعريف جوهر الفن، إلا أن فان غوخ واجه أيضاً عدداً من الأعداء في بروفونس إذ بعد تبدد آماله بتشكيل مستعمرة فنية مع بول غوغان أقدم الفنان الهولندي على إلحاق الأذى بنفسه، فقطع أذنه وانتهى به الأمر في مستشفى المدينة ثم في المصح العقلي بسان ريمي القريبة بعدما ألمّت بهذا العبقري أزمة نفسية حادة، أو هكذا تخبرنا الأسطورة الشائعة.

هل يمكن لهكذا وقائع وأحداث شديدة الوقع أن تترك آثاراً في مكان حصولها؟ وهل لا يزال ممكناً الإحساس بأعمال ذاك الفنان المضطرب وبمروره المؤثر في بروفونس؟ اليوم مع اقتراب موعد المعرض الذي لا يفوّت والذي ينظمه الـ"غاليري الوطني" في لندن (The National Gallery) في آرل بسبتمبر (أيلول) المقبل تحت عنوان "فان غوخ: شعراء وعشاق" Van Gogh: Poets and Lovers، يبدو هذا السؤال حرياً بالإجابة. ولحسن حظنا وسعادتنا فإن الرحلة الآن بالقطار من باريس إلى المدينة الواقعة على ضفاف نهر الرون لا تتطلب أكثر من خمس ساعات، فتمثل رحلة حج مرفهة إلى هكذا مكان منذور للثقافة.

ومدينة آرل توسعت وتجاوزت أسوارها القروسطية من زمن حلول فان غوخ بها حتى يومنا هذا وقد غدا فندق كاريل مساحة خالية في شارع "أميدي بيشو" (Amedee Pichot)، إذ دمرته القاذفات الأميركية في الـ25 من يونيو (حزيران) 1944 حين كانت تستهدف جسر سكة الحديد العابر فوق نهر الرون. لكني مشيت الشارع نفسه ذاك الذي تصطف الأشجار على طرفه عبر المقبرة الرومانية الظاهرة في لوحة "ممر أليسكان" (The Alyscamps)، وهو الشارع الذي عمل فيه فان غوخ وغوغان معاً، ولا تزال أزقة المدينة في تلك المنطقة تحيطها جدران واهنة باهتة اللون، وأسطح قرميد ونوافذ موصدة. وهناك، في أسفل أحد تلك الأزقة وجدتُ "مؤسسة فنسنت فان غوخ في آرل" ضمن منشأ مكعب من خرسانة وزجاج أدمج في العمارة القديمة، وستستضيف هذه المؤسسة بهذا المكان لوحة "ليلة مرصعة بالنجوم فوق الرون" من متحف "دورساي" (Musee d’Orsay) من الواحد من يونيو الجاري لغاية الثامن من سبتمبر المقبل، قبل انتقالها إلى لندن في الخريف المقبل.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الوصول إلى رصيف الميناء حيث رُسم ذاك العمل الشهير لا يبعد سوى رحلة قصيرة سيراً على الأقدام بمحاذاة النهر. أطِلُ على الرون وأغدو على بعد خطوات قليلة من المواقع التي رسم فيها فان غوخ بعض أعظم تحفه، وهو مقهى المحطة والمعروف باسم مقهى "دو لا غار" (Café de la Gare)، المقهى المخلد بلوحة "المقهى الليلي" (The Night Cafe)، والمكان الذي سكنه فان غوخ لفترة قصيرة في ساحة لامارتين والظاهر في لوحة "المنزل الأصفر" (The Yellow House) حيث بخار القاطرات الأسود الفحمي يغطي السماء في الخلفية.

وكان هنا في هذا المكان أن جهز فان غوخ غرفة لاستضافة غوغان وقد علق على جدارها فوق السرير لوحة "دوار الشمس" التي يملكها اليوم الـ"غاليري الوطني". لكن للأسف فإن غارات الـ25 من يونيو التي دمرت أيضاً مقهى "دو لا غار" قضت على "المنزل الأصفر". هذا الموقع الآن يضم شرفة لاحتساء الشراب تابعة لـ"لا سيفيت آرلوسيان" (La Civette Arlesienne) – ثلاث كؤوس بيرة تتحضر ولا فنانين مقيمون على ما يبدو – إلا أن جسر السكة نجا ولا يزال موجوداً تزينه رسومات "الغرافيتي" ويكتنز احتمالات أن ينفث قطار فان غوخ دخانه وهو على سكة العودة (إلى آرل)، في أية لحظة.

خلفي إزاء بوابات المدينة، يتراءى مشهد لوحة فان غوخ "مدخل الحديقة في آرل" (Entrance to the Park in Arles). الحديقة الآن دوار عبور، وقد وضع مجلس المدينة بالخطأ لافتة تشير إلى موقع اللوحة على بعد 10 دقائق من المكان، في الـ "حديقة الصيف" (Jardin d’Ete)، المتنزه الحرجي بمحاذاة المسرح الروماني. وفي الحقيقة، ينبغي القول، أواجه خلال هذه الرحلة كثيراً من لافتات مماثلة غير دقيقة ومضللة بعض الشيء.

في ساحة الـ"بلاس دو فوروم" (Place du Forum) ثمة مقهى يقنعنا للوهلة الأولى بأنه المكان الذي رسمه فان غوخ بلوحة "شرفة مقهى في الليل" (Café Terrace at Night)، لكن أحد أبناء المدينة يخبرني أن هذا المقهى ليس سوى نسخة مقلدة عن الأصل، أسسه عام 2000 ثلاثة رجال أعمال اتهموا لاحقاً بالتهرب الضرائبي. إلا أن هذا المقهى، وبدلاً من أن يتسبب لنا بخيبة أمل، يبدو موائماً في الواقع. إذ إن فان غوخ بالنهاية وبتأثير من غوغان انغمس في وجهته الفنية الخاصة – نجوم كوكبة الدب الأكبر المتلألئة فوق النهر في "ليلة مرصعة بالنجوم فوق الرون"، يفترض أن تكون مرئية خلفه في سماء الليل.

معظم الحكاية التي تتحدث عن كونه وحيداً بائساً هي أسطورة مبالغ بها. إذ إن فان غوخ في الحقيقة كان يحب العِشرة وغالباً ما رسم أصدقاءه في آرل. وقد اصطحب الضابط الوسيم بول أوجين ميليي (موضوع البورتريه المدهشة التي رسمها وتحمل عنوان "العاشق" The Lover) برحلة عبر الحقول إلى دير مونتماجور، ذاك الهيكل القروسطي بأبعاده ونسبه المحاكية للقلاع الصليبية. هذا الموقع اليوم يقع على بعد 26 دقيقة بالحافلة من شارع جورج كليمونصو، وبعد البحث والتدقيق وجدت مكاناً أعرف أن فان غوخ كان سعيداً فيه، إذ كتب رسالة لشقيقه ثيو عن متعة سرقة أكواز التين في مونتماجور (Montmajour).

هناك بؤس بالتأكيد إن إراد المرء البحث عنه. ففي الصبيحة التي قطع الفنان أذنه بها جرت معالجة فان غوخ في مستشفى آرل، التي لا تزال موجودة وتحمل اسم "إسباس فان غوخ" (Espace Van Gogh). توقف [أيها الزائر] وأنت تعبر المدخل، وتصوّره هناك. فهو دخل لا بد من هذا الموضع وكان يتملكه الألم والخوف، لكن حتى هنا (في هذا المستشفى) قام فان غوخ بالرسم وقد جرت زراعة الحوش لإعطائنا فكرة عما يمكن أن يكون قد عاينه الفنان وهو يرسم "حديقة المستشفى في آرل" (Garden of the Hospital in Arles).

وفان غوخ سافر من آرل إلى سان ريمي قاطعاً 25 كيلومتراً بعربة نقل في مايو (أيار) 1889. الباص رقم 704 اليوم يقطع هذه الرحلة بـ 45 دقيقة، وفيما نقترب تبدأ التضاريس الملتوية لجبال الألب بالظهور وهي التي ظهرت بلوحات مثل "أشجار الزيتون وخلفها جبال الألب" (Olive Trees with the Alpilles in the Background). أحتسي شراباً وأتناول وجبة "بروفونسية" سريعة في "بار تاباك" (Bar Tabac)، ثم أسير في "جادة فنسنت فان غوخ" (Avenue Vincent Van Gogh) المواجهة. هذه التلة تمثل درب الآلام بالنسبة إلى الفنان، فتبدو لنا في الطريق محطات صلبه التي تشير إليها نسخ من لوحات مشاهده الطبيعية الاستثنائية والمفعمة بالأحلام.

وفي أعلى التلة هناك الجلجلة – "مصح سان بول دو موسول" (Saint-Paule-de-Mausole) حيث عانى فنسنت كثيراً. هذا المكان اليوم مفتوح جزئياً للجمهور وهنا تستمر اللافتات غير الدقيقة: إذ إن "غرفة نوم فان غوخ" جرى تحديدها في الجناح الخاطئ، والنافذة التي قيل لي إنه رسم منها مشهد جبال الألب هي النافذة الخاطئة أيضاً. لكن الأمر لا يهم، فهذا كلّه يمثل عالم فان غوخ، وثمة لمحات منه باقية في كل الأمكنة.

يقام معرض "فان غوخ: شعراء وعشاق" (Van Gogh: Poets and Lovers) في الـ"غاليري الوطني" في لندن ابتداءً من الـ14 من سبتمبر (أيلول) 2024

© The Independent

المزيد من فنون