Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لماذا سكت المؤرخ الفارسي رشيد الدين عن جريمة هولاكو؟

كيف يمكن للعلم أن يتعامل مع تبريرات ممارسه حين يسقط أمام امتحان التاريخ الذي لم يكتبه؟

جنكيز خان وحاشيته في رسم يعبر عن غنى إمبراطوريته (الموسوعة التاريخية)

ملخص

إذا كان عدد من الباحثين الغربيين ركزوا دائماً على أن كتاب "جامع التواريخ" لرشيد الدين فارسي، فإن المؤرخ روزنتال يقول في كتابه "علم التاريخ عند المسلمين" إنه كتب بالعربية أصلاً، وأن اسمه الأصلي "تاريخ الغازاني"

لعل المؤرخ رشيد الدين الذي سنتعرف عليه بتفاصيل إضافية بعد سطور، يمثل لنا النموذج الأفضل، أو الأسوأ في الحقيقة إذا شاء القارئ، على تهافت عالم التاريخ حين يسكت عن حوادث معينة لمجرد أن ذكرها يتضارب مع مصالحه الشخصية. وتبدأ حكايتنا هذه على أية حال من توضيح من رشيد الدين. فالحال أن قرناً كاملاً يفصل بين العصر الذي عاش فيه ابن خلدون، صاحب "المقدمة" و"كتاب العبر"، والعصر الذي عاش فيه رشيد الدين، الذي كان يعتبر في الأوساط العلمية والاستشراقية في الغرب، وقبل ظهور أعمال ابن خلدون، واحداً من أكبر المؤرخين المسلمين، وبخاصة منذ ترجم المستشرق كاترمير (وهو نفسه الذي حقق وترجم مقدمة ابن خلدون في القرن الـ19) كتابه المهم "جامع التواريخ". ولكن شتان بين التاريخ كما كتبه ابن خلدون في بدايات القرن الـ15 الميلادي، وذاك الذي كتبه رشيد الدين قبله. فإذا كان ابن خلدون اعتبر التاريخ علم عمران وتحليلاً للأحداث، فإن تاريخ رشيد الدين على التفاصيل المسهبة والمهمة التي وردت فيه، وعلى دقة كثير من معلوماته، كان في معظمه تبريرياً. ذلك أنه إذا كان صاحب "المقدمة" كتب مقدمته ثم تاريخه تحت وطأة عزلته ويأسه بعدما جهد للوصول إلى السلطة وتحقيق مآربه فيها، فإن صاحب "جامع التواريخ" وصل إلى السلطة حقاً، وتقلد الوزارة أو ما يشبهها أيام الخانات المغول.

أين كارثة الكوارث؟

ومن هنا لم يكن غريباً على كتابه الأساس هذا أن يخلو من أي ذكر لواحدة من أكبر الكوارث التي حلت قبل زمنه ببعض الوقت، بالحضارة الإسلامية ككل، ونعني بذلك غزو هولاكو لبغداد وتدميرها، بشراً ومباني وثقافة وحضارة. ذلك أن وصول هولاكو إلى بغداد والمذابح التي اقترفها جيشه في عاصمة الحضارة الإسلامية تلك، كان بإجماع المؤرخين مؤشراً إلى بداية انحدار تلك الحضارة حتى زوالها. ومع هذا من العبث لمن يقرأ "جامع التواريخ" أن يجد أية إشارة إليها، هذا لأن رشيد الدين كان يوم وضع كتابه لا يزال في خدمة الملوك الغزنويين أحفاد هولاكو وجنكيزخان. ومع هذا إذا نحينا "تناسي" رشيد الدين لما اقترفه هولاكو، بل حتى لما فعله بعض أسلافه وخلفائه في المجال التدميري نفسه، يمكننا أن نعتبر كتابه "الجامع" هذا أهم مرجع تاريخي يتحدث عن تاريخ المغول في الأقل، إضافة إلى كونه في ذلك الزمن المبكر (عند المنعطف بين القرنين الميلاديين الـ13 والـ14)، واحداً من أهم الكتب التي تناولت التاريخ الكوني منذ بدء الخليقة حتى العام الذي سبق موت المؤلف (عام 1317).

فارسي باللغة العربية

وإذا كان عدد من الباحثين الغربيين ركز دائماً على أن كتاب "جامع التواريخ" فارسي، فإن المؤرخ روزنتال يقول في كتابه "علم التاريخ عند المسلمين" إنه كتب بالعربية أصلاً، وأن اسمه الأصلي "تاريخ الغازاني". ومهما يكن من أمر يتألف كتاب "جامع التواريخ" في شكله النهائي من جزءين، أولهما مهدى إلى محمود الغزنوي، الذي حكم بين عامي 1295 و1304، وكان رشيد الدين مستشاراً له وبمثابة وزير، ومن المعروف أن محمود الغزنوي هذا كان هو الذي طلب من رشيد الدين أن يضع الكتاب. وفي الكتاب قسمان، في الأول يحكي تاريخ الترك وانقسامهم إلى قبائل، أما في الثاني فإنه يروي تاريخ المغول لا سيما تاريخ جنكيزخان مسبوقاً بتاريخ جدوده وأسلافه، ومتبوعاً بتواريخ الذين جاؤوا من بعده وصولاً إلى الخان الغزنوي محمد خودا بندا أولدجايتو (حكم بين 1304 و1317 وأهدى إليه رشيد الدين هذا الجزء من الكتاب). وهذا الجزء تحديداً هو الذي يتناول فيه رشيد الدين تاريخ الخليقة منذ آدم وأنبياء اليهود، حتى السلالات التركية الغزنوية والسلجوقية. وهو في طريقه يعالج تواريخ الشعوب التي كانت معروفة في زمنه: الأتراك والصينيون والعبرانيون والفرنج والهنود. أما ملحق الكتاب فيضم خرائط تصور أهم خطوط المواصلات، إضافة إلى الرسوم المنمنمة التي أضيفت إلى ترجمته الفارسية لاحقاً.

دهشة الباحثين الغربيين

والكتاب كما يجمع الباحثون يبدو كبير الأهمية خصوصاً بالنسبة إلى الفصول التي تعالج سيرة كل من جنكيزخان وهولاكو، ويبدي عدد من الباحثين الغربيين دهشتهم من أن الكتاب، إذ يرسم صورة وافية لشجرة عائلة هولاكو ويتحدث عن كثير من نسائه وأطفاله وأصهرته وأحفاده، وبعدما يروي تفاصيل الظروف التي بوأته العرش، ثم تفاصيل عهد ملكه وغزواته، لا سيما غزوته الشهيرة ضد الإسماعيليين و"الحشاشين" وصولاً إلى استيلائه على حصنهم المنيع ورمز وجودهم "حصن ألموت"، ومن ثم إسقاطه الخلافة العباسية أو ما تبقى منها في بغداد، يسكت تماماً كما أشرنا عن تدميره المدينة وكل ما ترمز إليه، إضافة إلى ذبحه عشرات الألوف من سكانها.

سكوت المضطر؟

الحقيقة أننا إذا "تفهمنا" موقف رشيد الدين من هذا الموضوع، هو الذي كان في ذلك الحين لا يزال يعمل لدى أحفاد المغول، أو يأمل بالعودة للعمل معهم، زمن إنجازه الكتاب بعد سنوات عدة من بدئه العمل عليه، يمكننا أن نفهم أسبابه، وندرك كيف أنه كان "مضطراً" إلى ذلك السكوت، حتى وإن كان ما اقترفه هولاكو، من تدمير لكل تلك الحضارة الإسلامية التي كان رشيد الدين لا يكف عن إبداء فخره بالانتساب إليها، معروفاً في زمنه وفي الأزمان التي تلته.

وهنا علينا أن نقول إن موقف رشيد الدين هذا لم ينفعه في نهاية الأمر، إذ إنه بعد أن أنجز كتابه وبعد أن خدم الخانات المغول طوال حياته، وبعد أن "زور" حتى حقائق التاريخ البديهية، لينال رضا سادته عنه ويواصل حياته في بلاطهم، في دعة واطمئنان وقد آلى على نفسه أن ينفق ما تبقى من حياته منكباً على العلم والتأليف، جرت رياحه بما لم تشته سفنه: كانت نهايته محكوماً بالقتل، ومقتولاً بالفعل في تبريز عام 1318، وتحديداً بأمر من الخان المغولي الحاكم آنذاك، أبي سعيد الذي وصل إلى الحكم قبل ذلك بعامين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

سيرة ما...

ولد رشيد الدين، واسمه الكامل رشيد الدين طبيب، عام 1247 لأسرة من الأطباء اليهود الذين كانوا يعملون في همدان في فارس. لكنه وكما يبدو اعتنق الإسلام باكراً، واتجه إلى المذهب السني الذي كان مذهب أهل الحكم من الخانات الغزنويين الحاكمين. وهو في بدايته وعلى خطى أسلافه عمل أول الأمر طبيباً في البلاط المغولي، إذ اعتبر من أفضل الممثلين للنخبة الإيرانية المثقفة التي كانت ذات نفوذ فكري كبير في بلاط الخانات. وهو محتفظ بمهنته كطبيب، سرعان ما ازداد نفوذه حتى صار مستشاراً للخان محمود الغزنوي، ممارساً صلاحيات الوزير كما أشرنا. وهو ظل على تلك الحال حتى عام 1304. وكان يمضي وقته كله في مساعدة محمود الغزنوي الذي كان يتطلع إلى مركزة السلطة، وتعزيز الإدارة ودعم التجارة والزراعة ونشر الأخلاق العامة في الأقاليم التي كان يسيطر عليها. وتوفي الخان محمود في عام 1304 من دون أن يتمكن من إنجاز مشاريعه الطموحة. وخلفه في الحكم الخان أولدجايتو، الذي تحول من المذهب السني إلى المذهب الشيعي وبدا غير مهتم كثيراً بالمشاريع الإصلاحية التي كان محمود ومستشاره رشيد الدين يتطلعان إليها. وهكذا من دون أن يصيبه مكروه جلل، وجد رشيد الدين أن نفوذه بدأ يضمحل. ولكن هذا النفوذ، أو ما تبقى منه، سرعان ما زال تماماً مع مجيء الخان أبي سعيد، الذي لم يستسغ أبداً نشاطات سرية يبدو أن رشيد الدين كان بدأ يمارسها، وهكذا أمر باعتقاله ثم بقتله واضعاً نهاية لحياته. يذكر هنا أن أبا سعيد نفسه كان الأخير أيضاً في سلالته، أما ما بقي بعد رحيل القاتل والمقتول فهو هذا الكتاب الذي أثار الاهتمام لأن مؤلفه، ولا سيما في الأجزاء المتعلقة بالخانات وبالدولة المغولية من كتابه كان يكتب من الداخل، ونعرف أن لهذا حسناته كما أن له سيئاته، فهو من جهة يمكن أن يعتمد عليه في التفاصيل، ومن جهة ثانية يمكن أن يلام على كثير من الأمور التي تنجم عن تضارب المصالح. ومن هذه غض رشيد الدين النظر في "جامع التواريخ" عن جريمة هولاكو الكبرى.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة