Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الحضور التشكيلي السوداني يتألق في المنفى الأفريقي

ضيق مساحات الحرية وانعدام البنية التحتية للفن دفعا الفنانين إلى هجرة بلادهم

لوحة للرسام السوداني ياسر علي (خدمة المعرض)

ملخص

باتت هجرة الفنانين التشكيليين السودانيين إلى بلدان العالم والبلدان الأفريقية، ظاهرة لافتة، وقد حملوا معهم فنونهم المميزة وخصائصهم الجمالية وانطلقوا في تأسيس تجارب جديدة. ولعل انتهاك النظام الديكتاتوري في السودان في العقود السابقة الحريات العامة ومعاداة الفنون قاد عدداً من الفنانين السودانيين للبحث عن ملاذات آمنة خارج بلادهم. وعبر السنوات تمكنوا من وضع شواهدهم البصرية في بلاد اختاروها وطناً لفنونهم.

حين يغمر المكان الإنسان يشكل هويته، وحين يحضر الفنان فيه تنسرب خبايا المكان في الهوية واللغة والرؤية للعمل الفني، فيتخلق كحصيلة للتفاعل بين الفنان والمكان. ربما هذا ما حدث للفنان التشكيلي السوداني الطيب ضو البيت الذي انتقل منذ أواخر التسعينيات من السودان إلى كينيا ليغدو بعد نحو عقدين من إقامته في البلد الشرق أفريقي الناهض، أحد مشكلي المشهد البصري فيها، عبر عمله في تصميم الأزياء متعاوناً مع أحد بيوت الأزياء الكينية. وضو البيت هو خريج كلية الفنون الجميلة في الخرطوم، وقاده قمع نظام الإنقاذ للحريات في العقد الأخير من القرن الـ20 إلى اتخاذ قرار الهجرة مختاراً دولة كينيا، التي كانت تحد السودان قبل استقلال جنوبه عن شماله، بعد دعوته إلى المشاركة بأحد معارضها التشكيلية. 

لم يكن ضو البيت الوحيد من الفنانين التشكيليين السودانيين الذين أقاموا في كينيا في تلك الفترة، نهاية التسعينيات، لكن إصرار النظام الديكتاتوري في السودان حينئذ، على انتهاك الحريات العامة ومعاداة الفنون، قاد عدداً من الفنانين السودانيين للبحث عن ملاذات آمنة خارج بلادهم. وعبر السنوات تمكنوا من وضع شواهدهم البصرية في بلاد اختاروها وطناً لفنونهم.

نسأل ضو البيت عن القيمة التي أضافتها هجرة الفنان السوداني إلى بلد آخر، مجاور لكنه مختلف اللغة والثقافة، وما حصيلة المشتركات الثقافية التي أهلت الفنان السوداني للإسهام في الفاعل في مشهد الفنون التشكيلية في وسط وشرق أفريقيا عموماً، فيعزو الأمر إلى التأسيس الأكاديمي المبكر نسبياً لكلية الفنون الجميلة والتطبيقية في الخرطوم خلال 1936 بالنسبة إلى نظيراتها في القرن الأفريقي، إضافة إلى التنوع البصري في السودان، بوصفه وليداً للحضارة السودانية القديمة ممثلة في النقوش الكوشية والمروية، وقد امتدت تأثيراتها إلى رؤى الفنانين السودانيين وهم يبحثون عن عناصر تشكل حداثة فنهم. يشير الطيب إلى عديد الكتابات التي تناولت الفن التشكيلي السوداني في الصحف الكينية، لافتة إلى مهارة التلوين المصقولة أكاديمياً، إضافة إلى الرمزية العالية.

يعمل الطيب الآن في تصميم المنسوجات في أحد بيوت الأزياء الكينية، منذ عام 1999، ويشارك في عدد من المعارض الفردية والجماعية والورش في أنحاء العالم، مما أتاح فرصة للتعريف بفنه، لن تتاح له إذا واصل مسيرته في السودان، كما يؤكد لـ"اندبندنت عربية".  

بين الفن والحرية والاقتصاد

على رغم الإشارات المتعددة لتأثير الفنانين التشكيليين الرواد، مثل إبراهيم الصلحي وأحمد شبرين وتاج السر أحمد على الفنون التشكيلية في شرق أفريقيا، وأفريقيا عامة، يرى الفنان التشكيلي القدير الأمين محمد عثمان أن من الصعب الجزم بذلك، لأنه لم يكن هناك لقاء مباشر حينها بين فناني تلك البلدان والفنانين السودانيين، كما أن معظم الفنانين السودانيين لم يعرضوا أعمالهم في منتديات إقليمية، ما عدا بعض الاستثناءات، لكنه يصف الوجود الفني السوداني للجيل اللاحق بأنه جزء مقدر من حركة الفن المعاصر في تلك البلدان.

لاحقاً، في تسعينيات القرن الـ20، وما بعدها، تشكل واقع جديد وجد فيه الفنانون التشكيليون السودانيون أنفسهم يتجهون لأسباب مختلفة إلى جيرانهم في شرق أفريقيا، إذ اتخذ عدد منهم كينيا محطة موقتة، أو مقراً للإقامة الدائمة، منهم حسن النقر وأحمد أبو شريعة وصلاح المر وأحمد الشريف وعصام عبود حسن فضل حسين حلفاوي وطارق سنادة وعادل بدوي سنوسي وياسر علي وبحر الدين آدم ومجدي آدم، وراشد دياب الذي ظلت أعماله تعرض لسنوات في غاليري واتاتو بكينيا، ومثل أحد جسور التعرف على الفن التشكيلي السوداني في كينيا وشرق أفريقيا عامة.

كان اتجاه عديد من التشكيليين السودانيين إلى كينيا على وجه التحديد، نتيجة مباشرة لمساحات الحرية المتاحة فيها، إضافة إلى حالة الاستقرار السياسي والاقتصادي، وجميعها عناصر لم تتوفر في بلادهم الأم السودان، كما يؤكد الفنان التشكيلي بحر الدين آدم الذي اختار أخيراً الاستقرار في العاصمة الكينية نيروبي، بعد سنوات طويلة قضاها بين مصر وتركيا ومدن أوروبية عديدة.

يمضي بحر الدين، الذي تخرج في قسم التصميم الصناعي بكلية الفنون الجميلة والتطبيقية في الخرطوم في عام 1996، في الكشف عن كنه العلاقة المتشابكة بين الفن والحرية والاقتصاد. فعلى رغم أن السودان يعد بلداً يضم مخزوناً بصرياً شاسعاً ومتنوعاً، يشحذ خيال الفنان، إلا أن انعدام البنية التحتية المهيأة لاستيعاب الفن، جعل منه بلداً طارداً للفنانين، فضلاً عن ضيق مساحات الحرية والتكبيل الاجتماعي. وعلى النقيض من ذلك فإن تشكل تلك البنى وانتعاش سوق الفن التشكيلي في نيروبي باعتبارها عاصمة مفتوحة على مختلف الثقافات في عمق القارة الأفريقية، جعل منها مدينة جاذبة للفنانين من أنحاء العالم والفنانين التشكيليين على وجه الخصوص.

تهيأ للمدينة التي نشأت قبل أكثر من مئة عام، كمحطة للسكة الحديد في الخط الرابط بين مومباسا وأوغندا، أن تكون مركزاً للمنظمات الدولية ووسائط الإعلام العالمية، لتضحي إحدى أبرز المدن في أفريقيا سياسياً وسياحياً ومالياً ومركزاً للأعمال التجارية، ومن ثم حاضنة وسوقاً للفن التشكيلي بسهولة.

في المقابل، تضيق في السودان فرص العمل أمام معظم الفنانين التشكيليين، فيلجأون إلى في الغالب إلى العمل في التصميم الغرافيكي أو في المكاتب الفنية للصحف اليومية، أما الكسب من طريق بيع أعمالهم الفنية فهو حالة نادرة كما يشير بحر الدين آدم، نسبة لضعف السوق، فمقتنو الأعمال الفنية في العاصمة الخرطوم يعدون بأصابع اليد، لذا فبالنسبة للتشكيلي السوداني ياسر علي، الذي يعيش في كينيا منذ عام 2004، فإن انتقاله إليها أتاح له التفرغ لمشروعاته الفنية، إضافة إلى ازدهار سوق الفن التشكيلي، مما مكنه من الاستمرار والتعمق في أعماله.  

يرجع ضو البيت ما وصفه بسيل هجرة التشكيليين السودانيين لنيروبي إلى الضغط الاقتصادي والسياسي الذي يعانيه الفنان السوداني في بلاده، إضافة إلى القيود المفروضة على الفن سواء من السلطات أو المجتمع، وما وصفه بالمضايقة المستمرة لحرية الإنتاج والعرض، وانعدام الخصوصية، على رغم التطور المشهود للفن التشكيلي السوداني، مما أثر أشد التأثير في البنية التحتية للفنون أجمع، والذوق العام، وأضعف أيضاً من المساحات الجمالية في عمارة المدينة السودانية.  

عالم بصري جديد

تمتص ذاكرة الفنان عناصر المكان الجديد شيئاً فشيئاً، وبينما تتشكل عوالم بصرية جديدة في خلد الفنان، تتخلق النوستالجيا وتفعل فعلها في العمل الفني، لذا يرى بحر الدين آدم، في حديثه إلى "اندبندنت عربية"، ضرورة خروج الفنان من المكان الذي كون وجدانه وذاكرته لمعايشة مكان آخر يمكنه من اختزان مفردات بصرية جديدة في لا شعوره.

تتجول عين ضو البيت في جولاته بين كينيا وأخواتها من بلدان شرق ووسط أفريقيا، بين الخضرة والمحيط والأشجار المعمرة والمنحوتات العظيمة، وهي العين التي تشكلت في فضاء مسطح بالسودان، عامر في الوقت ذاته بالامتداد اللانهائي والشسوع، فتمتزج المشاهد البصرية بين يراه حاضراً وما استبطن في ذاكرته البعيدة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لكن يرى ضو البيت أن أهم ما أضافته الهجرة من السودان إلى تجربته الفنية هو الشعور بالحرية، وهو شعور يقرب عين الفنان إلى العالم، ويضاعف قدراته التعبيرية، و"الهجرة أيضاً بوابة الفنان نحو الآخر، ومجال لاختزان تضاريس المكان الجديدة".

إضافة إلى عمله في تصميم الأزياء، يعيد الطيب تشكيل المواد القديمة والمستخدمة، في وجوه ذات صور وألوان مختلفة. إنه يعثر على الألوان التي عاشت سابقاً كاشفاً عنها عندما يخدش السطح لإظهار ما كان تحته، طبقة بعد طبقة، كعالم عالم الآثار وهو يبحث عن الكنوز المفقودة، يجد الخشب المهمل والنوافذ والمعادن الصدئة والأبواب وغيرها.

فضلاً عن ذلك، بدأ الطيب في استكشاف الرموز والأيقونات المستخدمة في الإعلان عن المنتجات، في كينيا، وأحدث أعماله مستوحاة من الإعلانات على طرقات المدينة.

يعتمد الفنان التشكيلي ياسر علي، الذي تخرج في كلية الفنون الجميلة والتطبيقية بالخرطوم، في 1997 ويعيش في كينيا منذ 2004، على مخزون الإرث السوداني، ويعكف على مشروع لم يضع له عنواناً حتى الآن، يستلهم وجوهاً سودانية متنوعة، تعبر عن المزيج الأفريقي العربي، ملتقطاً الملامح المشتركة بين وجوه مختزنة في الذاكرة أو من وحي الخيال الخالص، أو حتى من خلال ملامح الوجوه التي تمر به في مسيره اليومي، أو عندما يسافر إلى دول مجاورة لكينيا. وقد يجد المشاهد لهذه الوجوه جميع الأجناس التي تنتمي إلى منطقة شرق أفريقيا، وأيضاً الوجوه التي يصنفها ياسر بأنها محايدة ومنتشرة في عدد من أقطار أفريقيا، لكن على رغم ذلك يرى أن تأثير العالم البصري الجديد ما زال خفياً في أعماله.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة