Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

شاتوبريان يستكشف "شرقيته" في رحلته "من باريس إلى القدس"

الكاتب الفرنسي تجول في الشرق الروحاني سعياً وراء تأكيدات لأفكار دينية وحضارية وفنية كانت لا تزال راسخة

شاتوبريان (1768 – 1847) مؤرخ حضارات في ربوع الشرق (غيتي)

ملخص

عن كتابه "المسار من باريس إلى القدس" الذي يعتبر من كتب الرحلات المهمة يقول الكاتب الفرنسي شاتوبريان "إن مساري، إنما هو مسار رجل انطلق أصلاً إلى حيث يمكنه أن يرى السماء والأرض والماء معاً... ثم عاد إلى دياره وفي رأسه بعض الصور الجديدة، وفي فؤاده بعض المشاعر الإضافية"

عند بدايات القرن الـ19 كان الكاتب الفرنسي شاتوبريان يشتغل على عمل أدبي له سيظهر لاحقاً بعنوان "الشهداء". وليضفي على عمله هذا، من ناحية الصدقية التاريخية، بعداً واقعياً كان يتطلع إليه، جمع كثيراً من الملاحظات والقصاصات والانطباعات من رحلة كان قام بها قبل ذلك، أي بين صيف عام 1806 وصيف عام 1807، إلى الشرق الأدنى، محولاً كل ذلك في ما بعد إلى الكتاب الذي يعرف منذ ذلك الحين بـ"المسار من باريس إلى القدس"، وهو الكتاب الذي صدر للمرة الأولى في عام 1811، ليعد إحدى القمم في أدب الرحلات الفرنسي، وكذلك المثال الذي احتذاه، من بعد شاتوبريان، عدد كبير من كتاب فرنسيين، لعل في مقدمتهم ثيوفيل غوتييه وجيرار دي نرفال، زاروا الشرق الأقرب إلى أوروبا، وكتبوا عنه، وظلت كتاباتهم تقارن دائماً بنص شاتوبريان هذا، الذي يرى بعض الباحثين أنه يسير في خط متواز تماماً، مع حملة نابليون إلى الشرق وكان إحدى البدايات الجيدة للاستشراق الفرنسي الحديث.

أما شاتوبريان نفسه فإنه قال، في صدد حديثه عن كتابه هذا "إن مساري، إنما هو مسار رجل انطلق أصلاً إلى حيث يمكنه أن يرى السماء والأرض والماء معاً... ثم عاد إلى دياره وفي رأسه بعض الصور الجديدة، وفي فؤاده بعض المشاعر الإضافية"، بيد أن الكتاب يبدو لنا اليوم أكثر من هذا بكثير، على رغم أن رحلة شاتوبريان الشرقية كانت قصيرة - زمنياً - مقارنة بغيرها من الرحلات الفرنسية المماثلة، ومحدودة في المكان.

بعد تردد مبدئي

قسم شاتوبريان كتابه سبعة أقسام ليتحدث في كل قسم منها عن منطقة، أو مدينة، من المناطق والمدن التي زارها. فهو في القسم الأول يتحدث عن سفرته إلى اليونان، التي منها ابتدأت "الرحلة الشرقية". وفي الثاني عن "الأرخبيل" والأناضول والأستانة. أما في القسم الثالث فنجده متنقلاً بين جزيرة رودس ومدينتي يافا وبيت لحم الفلسطينيتين، وصولاً إلى البحر الميت. أما القسم الرابع، فإنه يخصصه كله لمدينة القدس - واسمها عنده أورشليم -. ولا يكتفي بهذا، بل إنه بعد تردد يفرد القسم التالي، الخامس، للحديث عن القدس نفسها أيضاً. أما في القسم السادس فإنه يحدثنا عن تجواله في مصر، قبل أن يكرس القسم السابع والأخير لرحلة يقوم بها إلى تونس، تقوده في النهاية في رحلة العودة إلى دياره فرنسا. وقد كان من الواضح في ذلك الحين أن شاتوبريان كان متردداً بعض الشيء قبل أن ينشر تفاصيل تلك الرحلة "السباعية" في كتاب، إذ إنه بعدما نشر "الشهداء" في عام 1807 محملاً إياها عناصر كثيرة مما جمعه من انطباعات وأفكار وصور... استغرقه الأمر أربعة أعوام قبل أن يقرر في نهاية الأمر نشر الكتاب، وكان أثناء ذلك انتخب عضواً في الأكاديمية الفرنسية. فما هذا الكتاب، بعد كل شيء؟

تأكيد لرؤية مسبقة

هو في الدرجة الأولى مجموعة نصوص تؤكد رؤية شرقية كان شاتوبريان حازها من قبل. فهو كان أغرم بالشرق وروحانيته وسحره منذ زمن. لذلك وحتى من قبل وضع أي قدم له في رحلته الشرقية، انكب على المكتبات وعلى كتب التاريخ يقرأ ويستزيد. كما انكب على لوحات الفنانين، وعلى قراءة "ألف ليلة وليلة"، وعلى مراجعة كل حرف خطه قلم عن ذلك الشرق البعيد - القريب - الساحر - المتعب، كما سيقول. من هنا حين سافر، كان من الواضح أنه يعرف تماماً ماذا ينتظره. ومن هنا كذلك، نكاد نلاحظ الاختفاء التام لحس الاكتشاف والفضول في كتابه. بدلاً منهما، هناك إحساس من يتجول في أرض يعرفها، وسبق له أن تصور في خياله كل جزء من أجزائها. ولعل هنا يكمن ذلك الإحساس بشيء من الثقل لدى القارئ، الذي يشعر في فصول وصفحات عدة بأن الكاتب، بدلاً من أن يتعامل مع ما يراه ويصفه، يثقل كاهل النص بالمعلومات والمعارف التاريخية... وخصوصاً بأسماء قد لا يعني معظمها شيئاً للقارئ الأوروبي. في اختصار، يبدو شاتوبريان هنا، مثل أستاذ اصطحب تلامذته في رحلة خلوية أو بين آثار... ثم، في كل مرة كان التلاميذ يحاولون أن يتفرجوا ليندهشوا، كان صوت الأستاذ يأتي شارحاً مفسراً محملاً بالحقائق والوقائع التاريخية، التي قد تتناقض تفاصيل بعضها، مع عفوية المنظر وجلاله.

حج إلى مهد الحضارات

غير أن رؤية شاتوبريان الروحية لهذا الشرق، وإمعانه في إيراد التفاصيل الطريفة أحياناً، يأتيان هنا للتعويض على أي إحساس بالثقل. ولنتذكر هنا أيضاً، أن شاتوبريان نفسه كان شرح لنا منذ مقدمة الكتاب أن ما يقوم به هنا إنما هو نوع من الحج إلى مهد الحضارات القديمة، نوع من الوقوف على الأطلال لتصور ماضيها ثم أخذ العبر. ومن هنا ذلك الطغيان في الكتاب لامتداح الماضي المجيد، لدى كل حضارة من الحضارات، في مقابل التنديد بكل ما يمت إلى الحاضر بصلة. ومن هنا أيضاً وأيضاً، ما نلاحظه في صفحات الكتاب من استعادة للذكريات الفنية والأدبية، وسط تأمل للأفكار الفلسفية والأخلاقية. إن شاتوبريان في بعض الأقسام يبدو مستمتعاً غاية المتعة بتذكر أحداث بعينها حين يكون في مكان وقوعها بالتحديد. وهو إذ يتذكرها لا يفوته أن يتذكر ما كتب عنها من أشعار وروايات، وهكذا في مثل هذه المواقع يبدو مثل من يفتح ملفات فكرية إبداعية بأسرها. ولا سيما، حين يذكره موقع ما من المواقع بأحداث روحية أو تاريخية... وخصوصاً دينية، إذ إن شاتوبريان يعرف جيداً أن هذه المنطقة من العالم هي مهد الأديان السماوية، إذ كل حجر وكل نهر وكل بقعة صحراوية تذكر بالأديان التي مرت وأصحابها. ومن الواضح أن هذا الجانب من دلالات كتابة شاتوبريان هنا يبدو مرتبطاً كل الارتباط بكون الرجل يتحرك في المكان، ثم يحرك خياله وقلمه من حوله، وقد خيل إليه أنه امتلك سر الماضي وسر الفكر الإنساني... وما عليه الآن إلا أن ينقل هذا السر إلى الآخرين مشركاً إياهم في اكتشافاته. وهو من ناحية ثانية يسعى إلى إثارة عواطف قرائه في كل صفحة... والحال أنه ينجح دائماً في المسعيين، بل إنه يعتبر، إلى حد ما، من أوائل الذين لفتوا أنظار أوروبا إلى القضية اليونانية حين كان شعب اليونان بدأ يناضل في سبيل استقلال بلاده عن الدولة العثمانية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كتاب في البال

كان كتاباً رائداً إذاً، هذا الكتاب لشاتوبريان، ورائداً بالتحديد من منطلق أنه كان في بال معظم الكتاب الفرنسيين، وغير الفرنسيين، الذين إذ زاروا الشرق كان واحداً من همومهم الأساس أن يحاكوا هذا الكتاب ويتفوقوا عليه، ومن بينهم دي نرفال وفلوبير... غير أن أياً منهم لم يضاه ذلك المعلم الأول في المجال الذي اختاره هذا لكتابته. أما الوحيد الذي دنا منه فكان كاتباً من نوع آخر: كان خادمه جوليان، الذي كان يرافقه في رحلته، وكان يدون يوماً بيوم ما كان يشاهده، ليضع في النهاية، هو الآخر، نصاً لم يطبع إلا بعد ذلك بعقود طويلة، وتحديداً في عام 1901، وكتب عليه أن مؤلفه هو "جوليان خادم شاتوبريان". وقد حمل الكتاب نفسه العنوان الذي كان هذا الأخير أعطاه لكتابه.

وفرانسوا - رينيه دي شاتوبريان (1768 - 1847) ولد في سان - مالو غرب فرنسا لأسرة ذات مجد قديم. وقد عرف لاحقاً بنشاطاته الفكرية والسياسية... وبرحلاته المتعددة. وهو عين في عام 1803 في منصب دبلوماسي في روما، ممثلاً الحكومة الفرنسية، بعدما كان سجن واضطهد بسبب مشاركته في حرب الأمراء ضد الجمهورية... لكنه بعد إعدام الدوق انغيان، استقال ليبدأ بعد ذلك رحلته الشرقية. وفي عام 1815 بعد نشره كتاب "من بونابرت إلى آل بوربون" هرب، إثر عودة نابليون... ثم بعد سقوط هذا عين وزيراً، ليخلع عاماً بعد ذلك حين وضع كتاباً حدد فيه شروط عودة الملكية. وقد ظلت حياته السياسية بين مد وجزر حتى رحيله، بيد أن هذا لم يمنعه من مواصلة إصدار كتبه الفكرية والتاريخية، التي سيكون أهمها "مذكرات من وراء القبر" كتابه الأشهر على الإطلاق.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة