ملخص
قصص كثيرة تعرضها وسائل الإعلام البريطانية لضحايا كارثة "الدم الفاسد" التي تكشفت أخيراً واعتذرت منها الحكومة والمعارضة، فالنكبة الطبية حدثت خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي وتجاهلتها الحكومات المتعاقبة حتى بدأ التحقيق فيها قبل سبعة أعوام وأعلنت النتائج قبل أيام، لتجد الدولة نفسها أمام استحقاق صرف تعويضات للمتضررين بقيمة تزيد على 10 مليارات جنيه وفق التقديرات الأولية.
على امتداد نحو 35 عاماً تجاهلت الحكومات البريطانية المتعاقبة إصابة آلاف المواطنين بالإيدز والتهاب الكبد نتيجة "دم فاسد" نقل إلى أجسادهم عبر مؤسسات الصحة الوطنية، وهذه الكارثة الطبية لم تقع في يوم أو أسبوع أو شهر أو حتى عام، بل استمرت أعواماً كثيرة بين سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وأورث ضحاياها نكبتهم لأولادهم وأحفادهم وعائلاتهم قبل أن تقرر رئيس الوزراء الأسبق تيريزا ماي فتح تحقيق فيها عام 2017.
وظهرت نتيجة التحقيق بعد سبعة أعوام وأعلن قبل بضعة أيام اعتراف رسمي بخطيئة القائمين على قطاع الصحة والإدارة السياسية حينها، مما دفع رئيس الحكومة ريشي سوناك وزعيم المعارضة كير ستارمر إلى الاعتذار مما فعله أسلافهم، إضافة إلى صدور قرار رسمي بتعويض من بقي على قيد الحياة من ضحايا الكارثة وأفراد عائلات من قضوا نتيجة "الدم الفاسد" الذي انتشر في عروقهم حاملاً معه فيروسات نقص المناعة المكتسب وأمراض الكبد.
وتشمل التعويضات 4 آلاف شخص وتكلف خزينة الدولة ما يزيد على 10 مليارات جنيه إسترليني، أي ما يقارب 13 مليار دولار، لكن أبناءً فقدوا أحد ذويهم وأزواجاً خسروا أقرانهم قالوا إن المال لن يعيد عقارب الساعة للوراء، والألم الذي عاشوه لن يزول بطرفة عين، في حين أكد محامون يمثلون عائلات ضحايا أن التفاوض حول قيمة التعويضات لم ينته بعد، ولن يدخروا جهداً في تمكين موكليهم من المقابل العادل لمأساتهم.
جذور الكارثة
ينقسم ضحايا الفضيحة إلى قسمين شمل الأول أكثر من 1250 شخصاً كانوا يعانون صعوبة في تخثر الدم، فاستوردت الحكومة خلال سبعينيات القرن الماضي بلازما الدم من الولايات المتحدة لصناعة دواء لهذا المرض، وتبين لاحقاً أن الأمصال تعج بفيروسات نقص المناعة المكتسب وحوامل التهابات الكبد، فيما ضم القسم الثاني آلاف المرضى في مستشفيات الدولة خلال السبعينيات وحتى منتصف الثمانينيات، والذين قدم لهم "دم فاسد" يعاني المشكلات ذاتها، إما مستورد من الولايات المتحدة أو تبرع به أشخاص يقضون عقوبات في السجون البريطانية ومدمنون على المخدرات بأنواعها المختلفة في ذلك الوقت.
وفي المجمل فقد بلغ الضحايا المباشرين لنقل "الدم الفاسد" وقتها ما يفوق 5 آلاف شخص، ولكن الأمراض التي أصيبوا بها انتقلت إلى عائلاتهم فاتسعت رقعة المتضررين إلى أكثر من 30 ألف بريطاني، مات 10 في المئة منهم والبقية تضامنوا في حملة لإدانة الإهمال الحكومي في حقهم، والمطالبة بتعويضهم مادياً ومعنوياً عما لحق بهم من ضرر.
وكانت الدعامة الأولى في قضية ضحايا "الدم الفاسد" ضعف الرقابة والتدقيق على عمليات نقل الدم والتبرع به في الدولة، فلم تمنع بريطانيا المساجين المدمنين من التبرع بالدم حتى عام 1986، ولم تعتمد معالجة الدم حرارياً للتخلص من فيروس الإيدز إلا في العام ذاته، على رغم أن هذه التقنية عرفت أوروبياً وعالمياً قبلها بأربعة أعوام، إضافة إلى أن لندن لم تعتمد رسمياً اختبارات الكشف عن التهابات الكبد (C) حتى عام 1991.
وفي عام 1983 وقف وزير الصحة حينها كين كلارك أمام البرلمان معلناً أنه لا توجد دلائل على انتقال مرض نقص المناعة المكتسب عبر التبرع بالدم، وبعدها بأقل من ستة أعوام قالت رئيسة الوزراء مارغريت تاتشر إن المصابين بالإيدز من طريق نقل الدم يتلقون أفضل علاج ممكن في المستشفيات، وهذا كان بمثابة أول اعتراف رسمي بالمشكلة وأول إقرار بأن مرض نقص المناعة المكتسب قد يحدث خلال نقل عمليات نقل الدم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مؤشرات واستحقاقات
والحقيقة كما يقول رئيس حملة "المتضررين من الدم الفاسد" أندي إيفانز أن الكارثة تكشفت عام 1986 ولكن لم يكن بنية أحد احتواؤها، ورفضت الحكومات المتعاقبة منذ الثمانينيات فتح تحقيق فيها فبقيت تداعياتها تنتقل من جيل إلى آخر، ليس على المستوى الصحي فقط بل على صعد اجتماعية واقتصادية ونفسية أيضاً، وهكذا حتى جاءت تيريزا ماي خلال عام 2017 وكلفت لجنة برئاسة براين لانغستاف للتحقيق في ما سمته وسائل الإعلام المحلية "أسوأ كارثة علاجية" في تاريخ هيئة الصحة الوطنية منذ تأسيسها عام 1947.
رئيس اللجنة قال إنه قدم مؤشرات أولية لحكومة ريشي سوناك حول نتائج تحقيقه العام الماضي، لكن الاستجابة كانت بطيئة وهدد بوقف عمل اللجنة حال تجاهل النتائج، منوهاً إلى أن التحقيق رصد حالات إنسانية صعبة بين متضرري الكارثة، كما أظهر وجود تحديات علاجية في حالات كثيرة وصعوبات اقتصادية تواجه مرضى يحتاجون إلى علاج مستمر نتيجة الأمراض التي أصيبوا بها بعد تعرضهم للدم الفاسد.
وقبل 24 ساعة من إعلان نتائج التحقيق مطلع الأسبوع الجاري اعتذر رئيس الحكومة من الكارثة أمام البرلمان، وتبعه اعتذار لزعيم المعارضة كير ستارمر في المكان والزمان ذاتهما، أما الضحايا وعائلاتهم فتنفسوا الصعداء بعد مطالبات وتظاهرات استمرت عقوداً، ثم تداعت وسائل الإعلام المحلية لنشر قصص المعاناة كما يرويها أصحابها، فتسمع مثلاً عن شاب نبذه المجتمع بعد إصابته بالإيدز وعجز عن الزواج وتأسيس عائلة، وفتاة جلبت العار لعائلتها بعد تشخيصها بالمرض ذاته من دون أن تعرف كيف ومتى حدث ذلك؟
حالات مشابهة وأخرى مختلفة تكشفت عبر تحقيق تهربت بريطانيا من إجرائه لعقود، وعندما ظهرت النتائج وجدت الدولة نفسها أمام استحقاقات معنوية ومالية كبيرة لتعويض المتضررين وعائلاتهم، فأسست هيئة حكومية خاصة للتعامل مع مطالب الضحايا وقدرت قيمة التعويضات بأكثر من 10 مليارات جنيه إسترليني توزع على 4 آلاف شخص.
فئات التعويض
وحددت الحكومة خمسة محددات لتعويض ضحايا كارثة "الدم الفاسد"، أولها عدد المتضررين في العائلة الواحدة، والثاني تداعيات الإصابة اجتماعياً من ناحية تسببها بعزلة المريض أو إلحاقها العار به، والثالث عجز المصابين عن الإنجاب وتكوين عائلة، والرابع الكلف التي أنفقها المصاب على العلاج، ومن ثم الخسارات الاقتصادية بسبب الكارثة سواء على صعيد العمل أو الثروة أو الادخار وغيرها.
وتتوقع التقديرات الحالية للحكومة أن يصل تعويض المصابين بمرض الإيدز نتيجة "الدم الفاسد" إلى نحو مليوني جنيه إسترليني، أما مرضى الالتهاب الكبدي فيمكن أن يحصلوا على مبلغ مليون جنيه إسترليني، ناهيك عن استحقاقات بعشرات آلاف الجنيهات لأزواج وزوجات المرضى وأولادهم الذين عاشوا معاناة نفسية في أحيائهم ومدارسهم وجامعاتهم.
وتقول الحكومة إن كل متضرر من كارثة "الدم الفاسد" تسلم دفعة أولى من التعويضات بلغت قيمتها 100 ألف جنيه إسترليني، وهناك أكثر من 200 ألف جنيه ستدفع خلال أشهر، ويتوقع دفعة ثالثة قبل نهاية العام، أما محامو الضحايا فبعضهم قال لهيئة الإذاعة البريطانية إن المفاوضات في شأن الاستحقاقات المالية لم تحسم بعد وسيحرصون على أكبر تعويض ممكن لموكليهم عندما تبدأ الهيئة المعنية المستحدثة المفاوضات معهم قريباً.
وفي تقرير نشره مجلس اللوردات تبين أن هيئة الصحة الوطنية المعروفة بـ"NHS" عجزت عن إشباع الطلب على الدم محلياً خلال سبعينيات القرن الماضي، وكان أحد العوامل التي تسببت في زيادة الطلب إطلاق علاجات جديدة مصنوعة من منتجات الدم.
واستوردت الهيئة نحو 50 في المئة من الدم ومشتقاته خلال تلك الأيام، وخصوصاً من أميركا التي كانت تدفع أموالاً للمتبرعين، مما جذب أشخاصاً مصابين بالالتهاب الكبدي أو الإيدز.
وفي عام 1975 حاولت حكومة المملكة المتحدة الاكتفاء الذاتي من مخزون الدم لكنها لم تفلح، ولم تبدأ لندن بخدمات الفحص الروتيني للالتهاب الكبدي (B) إلا عام 1972 ولفيروس نقص المناعة البشرية إلا في 1985، والكبد الوبائي (C) إلا في 1991، أما اليوم فيتم اختبار دم المتبرع بحثاً عن قائمة أمراض كثيرة، فيما لا تستورد "NHS" إلا كميات صغيرة جداً من الزمر النادرة عندما لا يكون هناك متبرع بريطاني متاح.