ملخص
فازت رواية "كايروس" للكاتبة الألمانية جني إربنبك بجائزة "البوكر الدولية" ووصفت لجنة التحكيم الرواية الفائزة بترجمتها الإنجليزية بكونها "خارجة عن المألوف" فهي "جميلة ومزعجة، شخصية وسياسية في آن واحد". الرواية تدور حول قصة حب مدمر بين طالبة شابة ورجل استخبارات كان نازياً ثم أصبح شيوعياً.
الانهيار والتفكك، وزوال عالم من دون أن يبقى له أثر، والإحساس بالغربة في الوطن: هذه هي الهموم الأساسية التي تشغل فكر الكاتبة الألمانية جني إربنبك، وهي هموم وثيقة الصلة بحياتها الشخصية، وبتاريخ مدينة برلين التي ولدت فيها. عندما بلغت إربنبك الثانية والعشرين، انهار سور برلين، وتفككت ألمانيا الشرقية، وزالت من الخريطة السياسية. تخلص الألمان الشرقيون من ديكتاتورية الحزب الواحد، وحصلوا على حريتهم. لكن ذلك لم يكن مجاناً. أو كما قالت إربنبك في مقال قديم لها: "لم تكن الحرية هبة، بل كان لها ثمن، والثمن هو حياتي كلها التي عشتها حتى تلك اللحظة. من الآن فصاعداً أصبحت طفولتي في المتحف". هذه المشاعر نجدها واضحة كل الوضوح في روايتها الأخيرة "كايروس" التي حصلت بها إربِنبك مع مترجمها مايكل هوفمان على جائزة "البوكر الدولية" لتكون بذلك أول كاتبة ألمانية تحصل على هذه الجائزة المرموقة التي تُمنح لأفضل عمل أدبي مُترجم إلى اللغة الإنجليزية، والتي يعتبرها المتخصصون أهم جائزة أدبية بعد جائزة نوبل.
نقرأ في "كايروس": "في بعض الأحيان، عندما تكون كَتارينا بمفردها في شقتها، يحدث أن تجد نفسها فجأة تتكئ على إطار الباب أو النافذة وتنهمر دموعها، لأن فكرها لم يعد له وجهة أو هدف. فحيثما كان هناك أمل ومستقبل، أصبح كل شيء الآن متشابكاً، وفي فوضى مريعة من الاحتمالات. ما كان مألوفاً، يوشك أن يختفي. سواء كان جيداً أم شراً مألوفاً. وكذلك الأشياء الناقصة التي تحبها كَتارينا، ربما لأنها هي الأقرب إلى الحقيقة. بدلاً من ذلك سيظهر الكمال قريباً - ويمحو أو يبتلع كل ما لا يستطيع الصمود أمامه: من الملابس التي تخيطها بنفسك، إلى المنازل الآيلة للسقوط في حي برنتسلاور برغ، من حجارة الشارع الناقصة، إلى الكلمات التي تشير إلى أشياء لم يعد أحد بحاجة إليها. ستدفع الأسطح الناعمة، الخالية من العيوب، التفكيرَ في كل ما هو زائل إلى غياهب النسيان. سيختلف طعم الخبز، وفي الشوارع سيمر غرباء أمام متاجر غريبة، ويقودون سيارات غريبة، وفي جيوبهم نقود غريبة. والأحياء التي كانت موطناً لكَتارينا حتى الآن، لن تكون أبداً هادئة وخالية مثلما عرفتها طوال حياتها".
"إجماع مدهش"
مُنحت جائزة "البوكر الدولية" لإربنبك بـ"إجماع مدهش"، مثلما أعلنت إليانور واتشل، رئيسة لجنة التحكيم؛ وأضافت أن "كايروس" "خارجة عن المألوف" فهي "جميلة ومزعجة، شخصية وسياسية في آن واحد". وأبرزت رئيسة لجنة التحكيم قدرة إربنبك على كتابة "نثر مضيء"، يصف "تعقيد علاقة غرامية، وكذلك أجواء برلين الشرقية". إن الرواية "تبدأ بالحب والعشق، لكنها تدور أيضاً حول السلطة والفن والثقافة".
في "كايروس" - وهو اسم إله اللحظات السعيدة في الميثولوجيا اليونانية - تحكي إربنبك قصة حب مدمرة جمعت بين طالبة في التاسعة عشرة من عمرها وكاتب يكبرها بأربعة وثلاثين سنة؛ كان نازياً، ثم أصبح شيوعياً، لتكتشف في النهاية أنه كان يستغلها ويتجسس عليها لمصلحة أمن الدولة (شتازي). وتجري أحداث هذه القصة في برلين الشرقية، في السنوات الأخيرة قبيل انهيار سور برلين، وقبيل انضمام ألمانيا الشرقية إلى ألمانيا الغربية.
وكان النقد الألماني قد احتفى بروايتها "كايروس" عند صدورها عام 2021، واعتبرها الناقد بيتر مور "واحدة من أفضل وأصدق الروايات التي تتناول انهيار ألمانيا الشرقية". أما الناقد فولكر فايدرمان فيشير إلى أن رواية "كايروس" لم تصل على رغم جودتها إلى القائمة الطويلة لجائزة الكتاب الألماني (الشبيهة بالبوكر في المنطقة الناطقة بالألمانية) ولا إلى قائمة جائزة معرض لايبتسغ للكتاب، مُرجعاً ذلك إلى سيطرة الألمان الغربيين على لجان التحكيم، و"الضجر الألماني الغربي" من موضوع الرواية. مع أن كثيرين يرجعون سبب نجاح أعمالها المترجمة إلى الإنجليزية تحديداً إلى تناول إربنبك للتاريخ الألماني الشرقي وتضفيره مع حياة أبطال رواياتها. ويمكن القول إن إربنبك مشهورة في الخارج أكثر منها في ألمانيا، ويرشحها البعض لنيل جائزة نوبل في الأدب.
ثلاث روايات مترجمة إلى العربية
ولدت جني إربنبيك عام 1967 في برلين الشرقية (آنذاك)، وهي سليلة عائلة أدبية، فهي ابنة الكاتب جون إربنبك الذي توقف عن الكتابة بعد انهيار ألمانيا الشرقية، أي في الوقت ذاته تقريباً الذي بدأت فيه ابنته الكتابة، وكأنه سلمها الراية، وتوقف. أما أمها فهي المترجمة الشهيرة دوريس كيلياس التي ترجمت إلى الألمانية عدداً كبيراً من الأعمال الأدبية العربية المعاصرة، ومنها أعمال نجيب محفوظ وإبراهيم أصلان وبهاء طاهر وجمال الغيطاني ومحمد شكري وميرال الطحاوي، أما جدها من ناحية الأب فهو الأديب فريتس إربنبك، وجدتها هي الكاتبة هِدا تسنر.
درست إربنبك علوم المسرح في جامعة هومبولت في برلين الشرقية، ثم درست الإخراج المسرحي الغنائي، وفي عام 1933 عملت كمساعدة مخرج للكاتب والمسرحي هاينر مولر في أوبرا "تريستان وإيزولده" التي عُرضت في مهرجان بايرويت الدولي. بعد ذلك عملت مخرجة مسرحية في ألمانيا والنمسا. وفي الوقت ذاته بدأت الكتابة، وفي عام 1999 أصدرت باكورة أعمالها الأدبية، وهي نوفيلا "حكاية الطفلة العجوز" التي ترجمها محمد جديد إلى العربية وصدرت لدى دار قدمس السورية في عام 2009. وتدور الرواية حول امرأة في الثلاثين من عمرها تجوب الشوارع مع دلو فارغ، وتتظاهر بأنها طفلة في الرابعة عشرة. وفي حديث سابق قالت إربنبك إنها كتبت روايتها عقب سقوط جدار برلين، وأشارت إلى أن الرواية تشبه إلى حد كبير الوضع في ألمانيا الشرقية حيث كان الإنسان (قبل سقوط سور برلين) لا يريد أن يكبر أو أن يتحمل المسؤولية، لكن حياته كانت منظمة، والدولة تعوله. ثم سقط الجدار، وأصبح وضع كثيرين مثل وضع هذه الطفلة التي لا تعرف من أين أتت أو إلى أين تذهب.
بعد هذه النوفيلا أصدرت إربنبك روايتها "الفجيعة" (2008) التي ترجمت أيضاً إلى اللغة العربية، ونقلها المترجم القدير نبيل الحفار، وصدرت العام الماضي في طبعة ثانية لدى دار الكرمة المصرية. وتسلط "الفجيعة" الضوء على حياة اثني عشر شخصاً تناوبوا السكن في منزل على ضفة بحيرة براندنبورغ بالقرب من برلين، وتمتد أحداثها إلى أكثر من مئة عام من التاريخ الألماني: من القرن التاسع عشر إلى جمهورية فايمار، ومن الحرب العالمية الثانية إلى جمهورية ألمانيا الديمقراطية الاشتراكية، وأخيراً إعادة توحيد ألمانيا وعواقب ذلك.
"نهاية الأيام"
بعد "الفجيعة" أصدرت إربنبك في عام 2012 رواية "نهاية الأيام" التي حصلت بها في عام 2015 على جائزة "إندبندنت للأدب الأجنبي" (أي في العام التالي لحصول العراقي حسن بلاسم على هذه الجائزة عن عمله "المسيح العراقي". وقد تغير اسم الجائزة في ما بعد إلى "جائزة البوكر الدولية"). و"نهاية الأيام" رواية تتأمل في الحياة المحتملة لفتاة ولدت في المجر النمساوية في بداية القرن العشرين، ثم تموت في المهد، ويهرب أبوها في أعقاب ذلك ليعيش حياة قلقة كمهاجر في الولايات المتحدة، بينما تحترف أمها الدعارة. تطرح الكاتبة السؤال: ماذا كان سيحدث لها إذا واصلت الحياة؟ ما هي الحيوات الممكنة التي ستحياها؟ ترسم إربنبك مصائر بديلة للفتاة مستعرضة عبرها تاريخ القرن العشرين، فنرى الفتاة تعيش مرة مع عائلتها في فيينا وتعاني من المجاعة القاسية هناك إلى أن تنتحر يائسة، وفي تنويعة أخرى تهرب الفتاة التي تعتنق الشيوعية من وجه النازيين في النمسا إلى موسكو وتبدأ هناك في الكتابة لكنها تلقى حتفها في معسكرات العمل السوفياتية، ومرة أخرى تصبح كاتبة مُحتفى بها في ألمانيا الشرقية، وفي تنويعة أخيرة تعايش الفتاة انهيار سور برلين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تستعرض إربنبك في هذه الرواية ذات البناء المركب دور المصادفة، أو القدر، في حياة الإنسان، وكيف يمكن أن تأخذ حياة الإنسان مساراً مختلفاً تماماً إذا تغيرت تفصيلة صغيرة في حياته.
وفي عام 2015 صدرت رواية "ذهب، يذهب، ذهاباً" التي تتناول أزمة اللاجئين في ألمانيا، ولقيت عندئذ حفاوة نقدية كبيرة، ونالت جوائز عدة، منها جائزة "توماس مان". تدور أحداث الرواية في برلين، وفيها يقابل ريشارد، الأستاذ الجامعي المتقاعد، مجموعة من الأفارقة اللاجئين إلى ألمانيا الذين يعتصمون في "أورانيّن بلاتس"، احتجاجاً على منعهم من العمل وعدم منحهم حق اللجوء. ولأن ريشارد متقاعد يشعر بالوحدة، فإنه يسعى إلى التعرف بهؤلاء الرجال، وبالتالي إلى مشكلاتهم، وإلى نظام اللجوء القاسي. يحاول ريشارد أن يقدم لهم يد العون، ويرافق بعضهم إلى المحامين أو إلى الجهات الحكومية، ويشرع في تدريس اللغة الألمانية لهم.
وترجم صلاح هلال الرواية إلى العربية في عام 2018، وصدرت لدى دار صفصافة القاهرية بعنوان "وطن محمول".
وعلى رغم ترجمة ثلاثة أعمال روائية لإربنبك إلى العربية، فهي مجهولة إلى حد كبير في العالم العربي. وقد تُرجمت أعمال إربنبك إلى نحو ثلاثين لغة، وحصلت على العديد من الجوائز المحلية والدولية، وآخرها هي جائزة "البوكر الدولية" التي رُشحت لها خمس مرات من قبل. وربما يحيي فوزها بهذه الجائزة المرموقة الاهتمام بأعمالها في المنطقة العربية.