Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الجزائري بين متاهة التفكير وفوضى التدبير

علموه بأنه الأحسن والأقوى والمواطن الذي ينتمي إلى شعب الله المختار

تأميم المحروقات حصل عام 1971 وقام به الرئيس الراحل هواري بومدين (أ ف ب)

ملخص

على الجزائري حين يحب وطنه، وذلك واجب عليه وفخر له، أن يحبه وهو مؤمن بأن بلده جزء من العالم وأنه ليس العالم.

 

منذ الأيام الأولى للاستقلال وجد الجزائري نفسه ضحية مصفوفات فكرية وأيديولوجية غامضة وشعبوية تنخر حاله، ففي غمرة الحماسة وحرارة بهجة الاحتفالات العارمة التي سادت البلد بعد الاستقلال الذي كان في الخامس من يوليو (تموز) 1962، قيل للجزائري إنه ومن الآن فصاعداً أصبح حراً طليقاً بلا قيود وأيضاً بلا مسؤولية منذ فجر الاستقلال علموه بأنه أصبح يعيش في بلد غني، وأنه يمشي وينام على ثروة لا تنفد، وكنوز ككنوز قارون لا مثيل لها في العالم، علموه بأن بلاده هي سلة أوروبا وخزائن قمحها وشعيرها الذي لا يوزن بميزان، وعلموه بأنه مواطن ينتمي لأكبر بلد في أفريقيا والعالم العربي من ناحية المساحة الجغرافية، وعلموه بأن بلده يساوي خمس مرات فرنسا المستعمرة السابقة الغاشمة والملعونة، وعلموه بأنه لن يكون من اليوم فصاعداً، أي من أول اليوم للاستقلال، تابعاً للأجنبي مهما يكن هذا الأجنبي، والأجنبي في نهاية الأمر في مخيال الجزائري يتجسد في صورة الفرنسي أو ذلك الذي يشبهه، وهو المريب.

وعلموه بأنه الأحسن والأقوى وأنه المواطن الذي ينتمي إلى شعب الله المختار، وعلموه بأنه سيد العالم كله من شرقه إلى غربه ومن جنوبه إلى شماله، وعلموه بل أقنعوه بأن عليه أن يتصرف دائماً كقائد لا كمقاد، وكرئيس لا كتابع، وأنه خلق للقيادة فقط فكل جزائري رئيس، وعلموه بأن العمل اليدوي فعل حقير سخيف، وأنه الإنسان الذي ينحدر من السلالة التي لا تشتغل بيدها، فالعمل اليدوي خاصية العبيد والعملة من الدرجة العاشرة وعلموه بأنه في بلد هو أجمل بلد في الكون وفي كل شيء، وأن هذا الجمال لن يزول ولن يحول.

علموه بأنه وبعد حرب تحريرية شرسة دامت قرابة ثمانية أعوام وكانت عظيمة ومثالية ومنتصرة وهذه حقيقة لا شك فيها، وخلفت مليوناً ونصف مليون من الشهداء وهذه حقيقة لا غبار عليها، وعلموه بأن بعد هذه الحرب له الحق بل من واجبه أن يستريح وأن يرتاح وأن ينام الليل والنهار، وألا يعمل في أي شيء!

علموه، بل روجوا طويلاً لفكرة قاتلة حتى أصبحت شبه قناعة، بأن من حقه كمواطن ينتمي إلى هذا البلد المستقل، هذا البلد فاحش الغنى بالغاز والبترول والذهب، أن يتقاضى راتباً شهرياً معتبراً طول حياته بالعملة الصعبة وبالدولار الأميركي من دون أن يحرك ساكناً، من دون أي يبذل أي مجهود جسمي أو فكري، وعلموه كل ذلك فأصيب بتضخم الذات وزاد اتكاله.

ثقافة الإهمال هذه والاتكال والاستقالة من العمل والتي سادت للأسف طويلاً أثرت وطبعت عقلية أجيال متلاحقة، والأدهى والأمر هو أنها لا تزال قائمة حتى الآن.

إن تأميم المحروقات الذي حصل في عام 1971 والذي قام به الرئيس الراحل هواري بومدين، هو حدث تاريخي مهم وما في ذلك شك، وهي محطة استقلالية أخرى شرفت البلد وتاريخها، لكن للأسف فتسويق هذا الإنجاز المهم في خطاب سياسي شعبوي زاد في تكريس الاستقالة عن العمل، وتعميم ثقافة الإهمال واللامسوؤلية والاتكال في المخيال الجزائري.

هكذا ولمدة 60 عاماً من الاستقلال تم بناء مجتمع قائم على "معونة الدولة"، وخلق مواطن يعيش على هذه "المعونة" القادمة من ريع المحروقات حتى أصبح الجزائري معلقاً عقله بسعر الغاز والبترول.

وفي مجتمع المعونة فسياسة الدولة البقرة الحلوب كل شيء مستورد، وفي المقابل لا يصدّر البلد سوى المحروقات على رغم كل الإمكانات المتنوعة التي يحوزها في السياحة والفلاحة والبحر والصحراء، البلد الذي كان ذات يوم غير بعي، خزان الحبوب لأوروبا وسلة فواكهها، يستورد كل شيء من المايونيز مروراً بالثوم ووصولاً إلى السيارات وأجهزة الكمبيوتر.

هذا المواطن البسيط هو ضحية سلسلة إعلامية وسياسية وأيديولوجية شعبوية، ففي واقع الأمر لا يختلف عن مواطني الشعوب الأخرى إلا أنهم لم يعلموه يوماً، وبكل وضوح فكري وسياسي، بأن بناء أمة معافاة سياسياً ومستقلة اقتصادياً هي عملية أصعب وأعقد من خوض معركة تحريرية مظفرة، وأن الاستقلال يظل منقوصاً ما دام البلد يشتري رغيفه من غيره.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لم يعلموه بأن الوطنية الصادقة العميقة والحقة لا تختصر في النشيد الوطني ولا في العلم الوطني، مع ما يحمله هذان الرمزان من قوة وما يمثلانه من طاقة في التعبئة وتوحيد البلد والشعور بالانتماء الوطني القوي.

لم يعلموه بأن العمل واجب وطني، وهو حق أيضاً وسقف أمان للفرد وللجماعة، ولم يعلموه بأن الاستقلال لا يعني أبداً الكسل ولا الخمول ولا الاتكال، بل هو عكس ذلك تماماً.

أعتقد بأن على الجزائري اليوم أن يعي بأن ساعة الاستراحة قد انتهت، وعليه أن يشمر عن ساعديه ويمسح حبات العرق ويمحو من رأسه فلسفة السهل وانتظار معونة الدولة، وأن يحارب الشعبوية التي تعشش في السياسة والاقتصاد وحتى في تحصيل العلوم.

على الجزائري اليوم، شأنه شأن جميع شعوب العالم، أن يتعلم أن عليه أن يضبط ساعته على ساعة المنافسة، وهي الساعة العالمية التي تلتصق بها العيون جميعها على اختلاف ألوانها، وليعلم بأنه في عصر العمل بكل معانيه، وفي زمن الذكاء والاجتهاد والمهنية.

على الجزائري حين يحب وطنه، وذلك واجب عليه وفخر له، أن يحبه وهو مؤمن بأن بلده جزء من العالم وأنه ليس العالم. 

اقرأ المزيد

المزيد من آراء