Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جان جاك روسو والجذر التاريخي لتدمير إنسانية الإنسان

فيلسوف التنوير يتهم أول من وضع سياجاً حول قطعة من الأرض معلناً أنها ملك خاص له

 جان جاك روسو الأب الشرعي لـ "هيبية" القرن الـ 20 (غيتي)

ملخص

يحاول جان جاك روسو في كتابه "خطاب حول أصل التفاوت وجذوره بين البشر" أن يقنعنا بأن كل الشرور وضروب البؤس والمظالم التي هي في أساس التفاوت بين البشر، كما أنها في الوقت نفسه تنتج جدلياً عن ذلك التفاوت، إنما تنتج في الحقيقة عن الأوضاع الاجتماعية

"إن أول كائن بشري وضع سياجاً حول قطعة من الأرض وقال هذه الأرض أرضي، ووجد أناساً آخرين كانوا من البساطة إلى درجة أنهم صدقوه، وقد كان المؤسس الأول للتجمع المدني".

هذه العبارة الأكثر شهرة بين العبارات المأثورة عن المفكر الفرنسي جان جاك روسو، وهي واحدة من التأكيدات الفائقة الأهمية التي إذا انتزعت من الإطار الذي وردت فيه ضمن سياق نص أساس ورائد لهذا المفكر التنويري، صارت ذات معنى وأهمية ذاتيين، إذ استغنى غالباً عن إعادتها لإطارها الطبيعي لدراسة حيثياتها.

والإطار الطبيعي لهذه العبارة هو كتاب روسو "خطاب حول أصل التفاوت وجذوره بين البشر"، ويعد واحداً من أهم كتب مفكر القرن الـ 18، بل وواحداً من أهم الكتب الفكرية التي صدرت خلال تلك المرحلة الحاسمة من تاريخ الفكر الغربي أواسط ذلك القرن، يوم كان التنوير نصوصاً تتتالى وأفكاراً تترسخ وعقلانية تسود الفكر الغربي كله، وضروب وعي تتجمع وتتضافر لتنتج تلك الحركة الفكرية التي مهدت للثورة الفرنسية وغيرها من الثورات الفكرية التي لم يكن من الضروري على أية حال أن تتحول بسرعة إلى ثورات وتغيرات سياسية.

وفقد الإنسان سعادته

أصدر روسو كتابه هذا عام 1754 ووقف فيه إلى جانب الارتباط البشري بالطبيعة وعفوية بدائيتها على الضد مثلاً، من هوبس الذي كان يرى أن التمدن هو الذي جعل الإنسان أقل وحشية وشراً ومن ديني ديدرو الذي كان يرى أن كلمة "حرية" كلمة "خاوية لا معنى لها"، وبالنسبة إلى روسو في هذا الكتاب كما في كثير من النصوص الأخرى، لم يكن الإنسان على مدى تاريخه كله سعيداً وطيباً إلا حينما كان بعد في الحال البدائية، لم تعصف به ضروب التمدن وضرورات الحياة الاجتماعية، ويقيناً أن مثل هذه التأكيدات الواردة في هذا الكتاب كانت ما جعل روسو خلال الثلث الأخير من القرن الـ 20 يعد الأب الشرعي للحركات الهيبية وحركات العودة للطبيعة.

ومنبع هذا مثلاً هو الوصف الذي يورده روسو في أحد فصول هذا الكتاب لعلاقة الإنسان البدائي، أي إنسان ما قبل المجتمع، بالحرية وعلاقة ذلك بالسعادة، إذ يقول على سبيل المثال متحدثاً عن ذلك الإنسان "ها أنذا أراه يجلس من جديد تحت السنديانة قافزاً نحو الساقية الأولى التي يراها عاثراً على سريره تحت الشجرة نفسها التي تناول في ظلها وجبة طعامه، وها هو ذا يتجول في غابات لا أثر فيها لمصنع أو لصناعة لا أثر فيها لكلام من أي نوع، لا أثر فيها لأي حرب أو أية علاقة، إنه في حياته تلك لا يحتاج إلى أي من رفاقه في الكون ولا يشعر بأية حاجة إلى أذيتهم أو رغبة في إيذائهم، بل حتى يمكن ألا يكون تعرف إلى أي منهم بصورة إفرادية، إنه فرد بدائي ملتحم بالطبيعة لا تحركه الأهواء ويعيش وضعاً يكفي فيه نفسه بنفسه، ولا يعرف سوى حال الضياء النابعة من مثل هذه الحال التي يعيش".

صورة غارقة في المثالية

إن هذه كما نرى هي الصورة المثالية التي يرسمها روسو هنا للسعادة وللحرية، وبالتالي للإنسان كما كان في الأصل وكما يجب أن يكون من جديد، فما الذي بدل حال الإنسان بحال على مر التاريخ؟ وبالتالي كيف خلق التفاوت بين البشر؟ وكيف أدى هذا التفاوت إلى إلغاء الحرية وزوال السعادة؟ وتلكم هي على أية حال الأسئلة التي يحاول روسو في هذا الكتاب الشيق أن يجيب عنها، فروسو منذ بداية صفحات هذا الكتاب يحاول أن يقنعنا بأن كل الشرور وضروب البؤس والمظالم التي هي في أساس التفاوت بين البشر، كما أنها في الوقت نفسه تنتج جدلياً عن ذلك التفاوت، إنما تنتج في الحقيقة عن الأوضاع الاجتماعية، ومن أجل حل هذه المعضلة يرى روسو أن المهمة الأساس التي يتعين على إنسان اليوم أن يقوم بها هي أن يتذكر هذا الواقع وأن الإنسان الحديث إنما بات أشبه بتمثال الإله الوثني القديم غلوكوس، هذا التمثال الذي تمكن الزمن ومياه البحر والعواصف من تشويه سماته أكثر وأكثر إلى درجة أنه بعدما كان يشبه رفاقه الآلهة الوثنية، صار اليوم أكثر شبهاً بالحيوانات الضارية"، ومن هنا "بات على الإنسان أن يجعل مرجعيته الإنسان نفسه في حاله البدائية يوم لم تكن روحه قد فسدت بعد بفعل الأهواء وشتى أنواع الأخطاء التي يقترفها".

وفي إطار تأكيده هذا يستند روسو إلى مبدأين أولين سابقين للعقل كما يقول، أولهما ذاك الذي يتعلق برفاه الإنسان وحفاظه على وجوده، والثاني هو المبدأ الذي يتعلق بنفور الإنسان من رؤية البشر الآخرين يعانون أو يفنون.

بدائية جوالة

وروسو إذ ينطلق من الفرضية التي تقول إن بنية أجسامنا وسماتها لم تتبدل في صورة جذرية، يرى فيها الإنسان البدائي كائناً يعيش حياة بدائية جوالة يعيش ككائن حر، وصحيح أن هذا الكائن لن يكون عليه أن يتبع غرائزه في صورة مستدامة، لكن في إمكانه أن يتصرف على هواه وسجيته من أجل هذا يعيش معزولاً خارج المجتمع وتقتصر أهواؤه على إرضاء رغباته الطبيعية، إلى درجة أنه لا يعرف خلال وجوده أية تعقيدات عاطفية أو خيالية، وهنا في التعارض مع زميله الفيلسوف الإنجليزي هوبس، ينكر روسو أن مثل هذا الإنسان قد يكون سيئاً في طبيعته شريراً، بل إنه بسبب بدائيته يبدو ممتلكاً حساً عفوياً بالشفقة والتعاطف، مما يجعله يهرع غريزياً إلى معاونة كل أولئك الذين قد يجدهم يعانون، خصوصاً أن ضروب التفاوت بين البشر في مثل هذه الحالات تكون جوانية وبالتالي طبيعية، وتتفاوت في القوة والصحة و الجمال وما إلى ذلك.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 وإذ يصل روسو في تحليله إلى هذا المستوى من الحديث عن الإنسان البدائي كمثال يحتذى، يصل إلى الحديث عن المجتمع منذ اللحظة التي يقرر فيها فرد ما أن يمتلك أرضاً، فيكون المجتمع ويبدأ التحضير لعملية تطوره البطيئة أولاً والمتسارعة بعد ذلك، إذ إنه يشعر بالحاجة إلى الاستقرار وتتأسس الأسر وتبنى الأكواخ، ثم تتكون الصناعات الصغيرة والزراعة ثم الاقتصاد التبادلي البسيط، وكل هذا يحمل في جذوره بدايات الملكية الخاصة وصولاً إلى ازدياد الحاجات والمتطلبات وضروب الرفاه، ويبدأ الناس في التسابق للحصول على الثروات من طريق كل الوسائل المتاحة بما فيها تلك الوسائل الشريرة، إذ إن البشر يكتشفون في خضم ذلك ضرورة أن يحسنوا أوضاعهم على حساب البشر الآخرين، ومن هنا تفرض نفسها لعبة السيطرة والتفاوت بين الغني والفقير والقوي والضعيف، ويصبح الجميع أشبه بذئاب ضارية، بعضهم يفترس لكي يحصل على المزيد، وبعضهم الآخر لكي يحافظ على ما لديه، أما المجتمع المدني الحقيقي الأول فيتأسس حينما يتمكن القوي المنتصر من إقناع الآخرين بأن عليهم أن يتكاتفوا معاً تحت قيادته، حفاظاً على كينونتهم ضد الآخر الغريب المستعد لافتراسهم، وهكذا هنا مع تكون الطبقات تتكون مشاعر العصبية وكراهية الآخر وتندلع الصراعات والحروب.

نقطة انعطافية

حينما صدر هذا الكتاب فهم معاصرو روسو أنه أكثر مما هو بيان تاريخي يدعو للعودة إلى البدائية، فهو صرخة ضد استشراء الظلم والفساد في زمنه، ومن هنا صفقوا لهذا الجانب فيه، بل إن صدور الكتاب كان نقطة انعطافية في تاريخ النظريات السياسية على مر الأزمان، وهذا تحديداً ما جعل روسو (1712 - 1778) يعد من أكبر المفكرين التنويريين الذين مهدوا للثورة الفرنسية، إلى جانب فولتير ومونتسكيو والموسوعيين، ولم يكن هذا الكتاب سوى حلقة في مؤلفات روسو الكثيرة التي لا تزال تعيش بيننا شديدة المعاصرة والتأثير، ومن بينها "إميل أو التربية" و"يلويز الجديدة" و"الاعترافات"، وخصوصاً "العقد الاجتماعي" الذي يسير عميقاً في تحليل الأفكار التي تطالعنا في "خطاب حول أصل وجذور التفاوت بين البشر".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة