Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مئوية "طوابع لبنان"... إرث وطني تتناتشه السوق السوداء

تبدو الطوابع مجالاً للمتاجرة لدى بعضهم اليوم ولكن بالنسبة إلى الهواة فهم يجدون في مساحتها الصغيرة أجمل المشهديات والصور والغنى الثقافي

في مئوية الطابع اللبناني نعود للعصر الذهبي لهذه القصاصة الصغيرة ولهواية جمعها، وصولاً إلى احتكارها في السوق السوداء (ا ف ب)

ملخص

في مئوية الطابع اللبناني نعود للعصر الذهبي لهذه القصاصة الصغيرة من الورق ولهواية جمعها، وصولاً إلى أيامنا هذه التي تحول فيها الطابع إلى مجال للمتاجرة يستغله محتكرون في الأسواق المظلمة 

لهواة جمع الطوابع قصص تحمل في تفاصيلها أسرار هذا التعلق بورقة صغيرة يقلل كثيرون من أهميتها، وهي هواية عرفت أمجادها في العصر الذهبي منذ عقود مضت عندما سادت المراسلات البريدية باعتبارها وسيلة للتواصل.

أما اليوم، ومع أفول نجم الرسائل، وبعد أن حلت وسائل أخرى متطورة مكانها، فلم يتأثر ذلك الشغف الموجود لدى هواة جمع الطوابع.

ويختلف الطابع المالي تماماً عن الطابع الخاص بالمراسلات البريدية. إذ يُعتمد الأول في المعاملات الرسمية والإدارية والوثائق وتصدره وزارة المالية ويوقع عليه وزير المال. أما الثاني فيصدره وزير الاتصالات لاعتبار أن وزارة الاتصالات عُرفت سابقاً بوزارة البريد والبرق والهاتف. 

وفي مئوية الطابع اللبناني نعود للعصر الذهبي لهذه القصاصة الصغيرة من الورق ولهواية جمعها، وصولاً إلى أيامنا هذه التي تحول فيها الطابع إلى مجال للمتاجرة يستغله محتكرون في الأسواق المظلمة

أول الطوابع اللبنانية عام 1924

يعود المتخصص في جمع الطوابع وصاحب المعرض الدائم للطوابع في مدينة صيدا جنوب لبنان خليل برجاوي بالذاكرة إلى ما يصفه بالعصر الذهبي لهذا القطاع، عندما كانت المراسلات البريدية معتمدة بوصفها وسيلة للتواصل، فهو من مواليد عام 1964 وكان طفلاً تجذبه الألوان والصور المتنوعة في الطوابع البريدية فجمعها بشغف.

ومع الوقت راح يبحث عن الحكايات وراء هذه الطوابع ليكشف عالماً شاسعاً بصورة غير متوقعة، وانتقل عندها من عشق الألوان والصور إلى التركيز على المنحى الثقافي والتاريخي في بحثه عن قصة كل طابع بريدي.

ويتذكر طابع سيدة فاطيما الذي اكتشف من خلاله قصة الظهور المريمي على الأطفال، في غيض من فيض قصص وأسرار تكشفها مساحة الطابع الصغيرة.

مجموعة من 2000 طابع

يملك برجاوي حالياً أكثر من 2000 طابع ضمن مجموعة مكتملة تضم الطابع اللبناني الأول الذي صدر عام 1924 مع إعلان دولة لبنان الكبير، وفي تلك الحقبة دُمغت الطوابع بشعار "لبنان الكبير" باللغة الفرنسية، لكن في عام 1925 أوكل الفنان الفرنسي جوزيف دي لا نيزيريه مهمة تطوير الفنون تحت الاستعمار الفرنسي، وصمم آنذاك المجموعة اللبنانية الأولى التي ضمت 13 طابعاً بمناظر طبيعية لبنانية.

وصدر حينها الطابع الأول مع شعار الأرزة إضافة إلى طوابع أخرى من مختلف الأقضية التي شكلت حدود دولة لبنان الكبير.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي عام 1930 صدرت مجموعة لبنانية أخرى من 33 طابعاً، وبعدها مع الجمهورية الأولى وإعلان الاستقلال كانت الدول تتنافس على إصدار أجمل الطوابع، وصدرت آنذاك مجموعتان يذكرهما التاريخ، كما يقول برجاوي، صمم إحداهما فيليب موراني، وبعدها أوكلت إلى الفنان بول كورليف مهمة رسم مجموعة من الطوابع اللبنانية من عام 1945 حتى عام 1968.

ويقول برجاوي إن "الطابع هو سفير الدولة وينتقل بين أيدي الهواة لينشر قصصها، فهو ينقل صورة البلد بفن"، مؤكداً ما يتميز به من غنى وثقافة ليكتشف العالم كل الحقائق عنه من خلال صورة جميلة.

ويعبّر الهواة عموماً عن شغف للطابع الأصلي بكل ما فيه من جمالية ومن مشهديات يقدمها، ومن تصميمه الفني والصعوبة في إنجازه، لكنه فقد جماليته هذه شيئاً فشيئاً عندما لم يعد يعتمد في تصميمه على الرسم والزخارف، وبات يعتمد على الصور بالكاميرا وتقنيات الفوتوشوب والوسائل التكنولوجية الحديثة.

بين القيمة المادية والمعنوية

قيمة الطابع عبارة عن إبراء عن قيمة الرسالة، ووفق ما يوضحه برجاوي فقد كان هناك تفاوت في أسعار الطوابع بحسب وزن الرسالة والمسافة التي تُرسل عبرها، فتزيد أو تقل على هذا الأساس، كما أن ثمة اتفاقاً في المراسلات البريدية يدعو إلى المعاملة بالمثل بين الدول، لكن في وقت لاحق لا تعود قيمة الطابع البريدي مرتبطة بذلك بل بندرته والطلب عليه.

وبالنسبة إلى الهواة تزيد قيمة الطابع بحسب الحاجة إليه ليكمل مجموعته الخاصة، فغالباً ما يركز الهواة على مجموعات كاملة لا تكون محصورة في فترة زمنية محددة، علماً أن جمع الطوابع يكون بالاستناد إلى إصدارات وكتالوجات عالمية يمكن الرجوع إليها افتراضياً أو ورقياً، ويتابعها الهواة باستمرار بحثاً عن إصدارات جديدة.

واللافت هنا أن بعض إصدارات الطوابع يكون بأعداد كبيرة فيما بعضها الآخر يكون بعدد محدود، وهنا يصبح الحصول على هذا الطابع صعباً مما يعني تلقائياً زيادة في سعره وقيمته، كما من الممكن أن يسحب إصدار معين من الأسواق بسبب خطأ ما أو لأي سبب كان مما يؤدي إلى زيادة سعره، وهذا ما حصل مع طابع صدر عام 1996 بعد "مجزرة قانا" في الجنوب، فكان سعره الأساس لا يتخطى 1100 ليرة لبنانية (دولار أميركي واحد) حينها، لكن عندما باعت الدولة اللبنانية شركة "ليبان بوست" للبريد باعتبارها شركة خاصة أُعطيت مخزون الطوابع كاملاً، بما في ذلك طوابع "مجزرة قانا".

وعمدت الشركة حينها إلى دمغ الطابع لتميزه وجعله خاصاً بها عبر إضافة علامة الصليب إليه، مما أثار حفيظة المسلمين الذين تقدموا باعتراض استدعى سحب الإصدار من الأسواق وأتلف بعد أيام قليلة.

لكن طالما أن طابعاً ما صدر فلا يمكن إلغاؤه بأية وسيلة كانت، إذ يبقى موجوداً على المراسلات وبين أيدي الهواة، وزادت ندرة الطابع آنذاك قيمته وأصبح سعره 500 دولار عند البيع.

الطابع اللبناني في عالم المحسوبيات

ويصف برجاوي الطابع بالصحافي والمؤرخ والدليل والحكواتي ورئيس الجمهورية، فهو كل شيء في البلد بكل ما فيه من غنى وثقافة، ويقول "هو مرآة تعكس الوجه الحضاري للبلد، وهو وسام بكل ما للكلمة من معنى وله أهمية تفوق قيمة أي وسام أو تقدير يمكن أن يناله شخص، فحتى التمثال الذي يُشيد يمكن أن يزال من مكانه، أما الطابع فلا يمكن إلغاؤه من الأرشيف والرسائل ومن أيدي الهواة. ولذلك فمن يصدر طابع له باعتباره تكريماً تُخلد صورته إلى الأبد، وهو أرفع وسام يمكن أن يتلقاه".

ويكشف برجاوي أنه في الأعراف الدولية لا يُعطى طابع لشخص طالما هو على قيد الحياة إلا إذا كان رئيس جمهورية خلال فترة ولايته، مستدركاً "لكن في لبنان يُعطى على أساس محسوبيات وبطريقة عشوائية مما يفقده قيمته، فقد صدرت طوابع لأشخاص ثمة أحكام بحقهم أمثال رجل الأعمال كارلوس غصن وحاكم مصرف لبنان المركزي السابق رياض سلامة".

طوابع الاتحاد السوفياتي

بدأ ميشال قصابلي جمع الطوابع من عمر تسع سنوات، وحينها كان ينظر باهتمام إلى الرسائل البريدية باعتبارها وسيلة للتواصل، وعندما تصل كان يقص الطوابع منها لحفظها.

ويقول، "في الحرب خسرنا الطوابع التي كنا نجمعها فكانت بداية جديدة لنا بعد أعوام، إلا أن هذا أسهم في تعزيز هذه الهواية لدي، وعندما سافرت إلى الاتحاد السوفياتي بدأت أجمع الطوابع ضمن ناد للهواة ومن محال خاصة للطوابع النادرة، وفي مرحلة السبعينيات والثمانينيات كان هناك اهتمام خاص بجمع الطوابع في البلاد، علماً أن الطوابع كانت بأسعار رمزية وكذلك الألبومات، لتعزيز هذه الهواية باعتبارها حركة ثقافية مهمة.

ويكشف قصابلي أن في لبنان هواة يملكون طوابع بآلاف الدولارات لندرتها، كذلك في الاتحاد السوفياتي يشترون طوابع أحياناً بالملايين، ويؤكد أنه حالياً "انخفضت أسعار الطوابع بسبب الوضع المعيشي ولأن قدرات الناس تراجعت، كما أن اهتمام الناس بالطوابع تراجع".

الاهتمامات تختلف والغاية واحدة

ويجمع الهواة عادة الطوابع وفق مواضيع معينة، فمنهم من يظهر اهتماماً بجمع طوابع لطيور أو مناطر طبيعية أو رياضة أو تاريخ، وكل يحاول حصر اهتمامه بموضوع معين، كما يمكن أن يقرر بعضهم جمع طوابع من مختلف الدول.

وغالباً ما يحرص الهواة على التواصل مع آخرين لهم الاهتمام نفسه سواء من خلال لقاءات أو معارض، ويشير قصابلي إلى أنه أقام معرضاً للطوابع عن يوم الفضاء السوفياتي، مشيراً إلى أن الطوابع السوفياتية تتميز بتنوعها الكبير والمواضيع المختلفة التي فيها.

وفي الوقت نفسه فهو على تواصل دائم مع هواة لبنانيين كثر، إنما ثمة مشكلة في أن الهواية محدودة في لبنان وغالباً ما يكون التركيز على الطوابع المحلية.

ويكشف أن عامل الوقت وتاريخ الطابع لا يزيدان حكماً من سعره، فثمة طوابع من ستينيات القرن الماضي وسعرها لا يتخطى الدولار أو الدولارين، أما الطوابع البرازيلية واللاتينية فمتوافرة بكثرة وبأرخص الأسعار بسبب حركة الهجرة، هي متوافرة في كل منزل في لبنان لأنه في كل عائلة مغتربون سافروا إلى المنطقة.

مافيات الطوابع

أما التحدي الأكبر في أنه ما إن يصدر طابع حتى يسارع بعضهم إلى شرائه بكميات كبرى، فيكون من الممكن بيعه في وقت لاحق بأغلى الأسعار، وثمة من حوّل هذا المجال ليتخذ منحى تجارياً بوجوده، وهم عبارة عن "مافيات" يكون أفرادها على علم مسبق بالإصدارات القريبة ويقومون بحجزها مسبقاً قبل أن تتداول في الأسواق، مما يؤدي إلى انقطاعها سريعاً وارتفاع أسعارها بصورة جنونية بعد أن تكون قد فُقدت.

ولا ينكر قصابلي وجود مافيات تعمل بطريقة فوضوية في تجارة مربحة في هذا المجال، ومنهم من يتفق مع جهات معنية بإصدار الطوابع أحياناً.

شغف نسائي بالطوابع

ميراي مجدلاني من الهواة القلائل من العنصر النسائي في جمع الطوابع، وبدأت تتعلق بهذه الهواية من عمر 12 سنة، وعندما كبرت قررت جمع طوابع من لبنان وفرنسا حصراً لتركز عليهما.

ويبدو واضحاً أن لكل هاو شغفاً في هذا المجال يبعده من المنحى التجاري مهما ارتفع ثمن الطوابع، بما أن الطابع أهم بكثير من أن يستخدم لكسب المال.

تقول مجدلاني، "في ظل كثرة المراسلات  كانت للطوابع أهمية كبرى وكان من الممكن جمعها بسهولة، لكن تبدلت اليوم وسائل التواصل وصرنا نجمعها بطرق أخرى، لكنها غالباً تتأمن بأسعار أغلى".

ومن المشكلات التي تواجهها مجدلاني كمختلف هواة جمع الطوابع التجارة بالطوابع واحتكارها من قبل بعضهم، وعندما تزيد أسعارها بصورة تزيد من صعوبة اقتنائها، وبصورة خاصة ترتفع أسعار الطوابع النادرة أكثر ويستغل التجار زيادة الطلب عليها، وهم يتمكنون بعلاقاتهم الخاصة من احتكارها وحجزها.

وتشتري مجدلاني الطوابع بحسب إمكاناتها، وتذكر أن "مجموعة قانا" تعتبر الأغلى ضمن المجموعة اللبنانية، وقد تبيع أحياناً من الطوابع التي لديها عندما تكون لديها أعداد زائدة لتشتري ما ينقصها من هواة آخرين.

أزمة السوق السوداء

ومع استفحال الأزمات الأمنية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية في لبنان خلال الأعوام الماضية، ومع اختفاء مواد عدة من الأسواق مثل حليب الأطفال والدولار الأميركي والمحروقات وتوافرها في السوق السوداء، لم تكن الطوابع المالية بعيدة من هذه السوق، وهي أزمة خرجت بقوة إلى العلن بعد فتح دوائر عقارية أبوابها وازدياد الحاجة إلى هذه الطوابع، ليتبين أن هذه الطوابع ليست مفقودة بل محتكرة وتتوافر بأسعار قد تصل أحياناً إلى 10 أضعاف قيمتها.

وتكشف تقارير صحافية أن الطوابع تباع أساساً عبر وزارة المالية إلى معتمدين مرخصين يبلغ عددهم 700، لكن من يستفيد فعلياً هم 100 معتمد يسيطرون على السوق السوداء، مما يؤدي إلى احتكار الطوابع وصعوبة الحصول عليها، وينعكس تأخيراً على إنجاز معاملات المواطنين وارتفاع كلفتها.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات