ملخص
الموقف العراقي المتحفظ يلقي بظلاله على مصير العملية العسكرية التركية ضد حزب العمال ويثير تساؤلات في شأن النتائج.
منذ أشهر يقرع الأتراك طبول حرب يروجون أنها ستكون "نوعية وغير مسبوقة"، وستشنها أنقرة خلال الصيف المقبل للقضاء على معارضيها الأكراد من مسلحي "حزب العمال الكردستاني" في عمق الأراضي العراقية من جهة إقليم كردستان.
لكن الخطوة لم تلق الاستجابة التي كان يتمناها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من صناع القرار العراقي للمشاركة في العملية، وذلك خلال زيارته بغداد في أبريل (نيسان) الماضي، على رغم ما تمخضت عنه من إبرام نحو 20 اتفاقاً ضمن اتفاق إطار إستراتيجي على مستوى الأمن والطاقة والاقتصاد.
ولا يزال الغموض يلف توقيت انطلاق العملية، أو حتى مدى إصرار الأتراك على المضي في الخطوة من طرف واحد لملاحقة مسلحين متحصنين منذ نحو أربعة عقود داخل بيئة جغرافية شديدة التعقيد، مما ولد تساؤلات حول مدى إمكان ذهاب أنقرة بعيداً في العملية من دون مشاركة عراقية، وهل هناك مؤشرات على الأرض حول شنها، علماً أنها تواصل هجماتها في إطار عملية أطلقتها منذ أبريل 2022 باسم "المخلب - القفل".
توجس عراقي
وسبق أن أعلن مسؤولون أتراك أن العملية تهدف إلى "توسيع المنطقة الآمنة بعمق يصل إلى 40 كيلومتراً، وستركز على وجود الإرهابيين (العمال الكردستاني) في الأراضي العراقية عند المثلث الإيراني – العراقي - التركي، وبشكل أقل على المثلث مع سوريا، أي قضاء سنجار في غرب محافظة نينوى.
وفي أحدث موقف جدد وزير الدفاع التركي ياشار غولر قبل يومين، تحذيره لحزب طالباني وثيق الصلة بإيران، والشريك الرئيس في حكومة أربيل التي يقودها نظيره "الديمقراطي" بزعامة مسعود بارزاني المقرب من أنقرة، من مغبة مواصلته دعم حزب العمال الكردستاني.
وتستند القراءات إزاء تردد أنقرة في شن العملية، إلى غياب استجابة عراقية للمشاركة عسكرياً بما في ذلك قوات الحشد الشعبي الشيعية المقربة من طهران، وفق المتخصص الأمني والاستراتيجي أحمد الشريفي، الذي قال إن "مثل هذه الخطوة بالنسبة إلى العراقين تعني ضمناً الدخول في مواجهة مع حزب العمال، وهذا سيكون خطأ استراتيجياً".
وتساءل "كيف يمكن الدخول في حروب جبلية قاسية ومكلفة، والعراق من حيث التقييم في غنى عنها، وهو أساساً غير معني بهذا الملف، ولا يرغب في أن يخوض حرباً بالنيابة، طالما أن لأنقرة القدرة على تأمين الكتف الحدودي، لذا فإن هذا التردد يأتي خشية الفشل والتبعات سياسياً وعسكرياً".
تخطي الأهداف
وصفت مصادر ومواطنون أكراد في القرى الحدودية الأجواء قرب الحدود بـ"الهادئة نسبياً"، ونفوا "ملاحظة أي مؤشرات حول وجود نشاط عسكري تركي استثنائي يمكن أن يوحي بتحضير الأتراك لشن عمل عسكري محتمل". وقال مصدر مطلع إن "وتيرة عمليات القصف، بخاصة تلك التي كانت تشن عبر الطائرات المسيرة، تراجعت بشكل ملحوظ في الأسابيع القليلة الماضية، إذ لجأ مسلحو حزب العمال إلى إجراء تغيير في آلية تحركاتهم أسهم في الحد من خسائرهم".
لكن وسائل إعلام مقربة من "العمال" كشفت نقلاً عن شهود عيان عن بدء الجيش التركي بناء قاعدة عسكرية جديدة قرب قضاء العمادية شمال محافظة دهوك.
وتكمن المخاوف العراقية في أن تتخطى الأهداف التركية في ضرب العماليين نحو الذهاب إلى إعادة الانتشار والتموضع من منطلق البعد السياسي والأيديولوجي، وهو ما يؤكده الشريفي بالقول، "ما زال الأتراك يرفضون الانسحاب من قاعدتهم العسكرية في بعيشقة (سهل نينوى)، التي أنشئت بداعي تدريب العراقيين لمواجهة تنظيم (داعش)، على رغم مرور سبع سنوات على دحر التنظيم، لا بل عززوا من قدراتهم القتالية في القاعدة، مما يعني أن لديهم هدفاً خفياً لفرض الإرادة على إقليم كردستان الواقع في مرمى التنسيق المتبادل بين أنقرة وطهران، وهذه معادلة خطرة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويذهب الشريفي إلى أن التحفظ العراقي "ستكون له انعكاسات مباشرة على الاتفاقات مع أنقرة، ومنها ملف المياه وحتى مشروع طريق التنمية العراقي، فالاتفاق حدد 10 سنوات يلزم فيها الأتراك بإطلاق حصة العراق المائية من دون تحديد الكميات في مقابل تقييد العراقيين من خلال ربط عمل وتطوير واقعهم الزراعي بأنقرة، وهذا معناه رهن أمن العراق الغذائي بالأتراك في مقابل المياه، في حين يفترض ألا يخضع صانع القرار السياسي العراقي لابتزاز كهذا، علماً أن العراق بلد مؤثر وفاعل وحليف استراتيجي للأميركيين، وبإمكانه عبر الأمم المتحدة تأمين حقوقه من خلال القوانين الدولية".
وتقدر منظمات حقوقية عدد الضحايا المدنيين الذي قتلوا أو أصيبوا جراء عمليات القصف التركية والإيرانية على الإقليم خلال العقود الثلاثة الماضية بنحو 850 مدنياً، وبحسب منظمة "CPT" الأميركية فإن الجيش التركي شن خلال العام الماضي أكثر من 1500 قصف مدفعي وجوي.
ويتفق المتخصص في الشؤون العسكرية الفريق المتقاعد جبار ياور مع الشريفي في شأن صعوبة نجاح أنقرة في مسعاها، "إذ كانت تأمل بمشاركة بغداد وأربيل برياً للوصول إلى جبل قنديل على الحدود العراقية - الإيرانية البعيدة عن الحدود التركية بأكثر من 100 كيلومتر، وإلى جبل سنجار الذي يعد معبراً لمقاتلي الحزب بين تركيا ومناطق شمال شرقي سوريا، وعلى أفضل الأحوال ربما حصلت أنقرة على ميزة إبقاء العراقيين صامتين إزاء وجود قواتها الآني والعمليات التي تشنها"، لافتاً إلى أن "العمليات العسكرية التركية مستمرة أساساً على الحدود بطول 200 كيلومتر، وبعمق 10 إلى 40 كيلومتراً، ولها ثكنات عسكرية يصل عددها إلى نحو 78 ثكنة".
وترفض أنقرة مقترحاً عراقياً ينص على مشاركتها في لجان لحماية الحدود ومنع الخروقات في حال سحب قواتها، على غرار ما تحقق من نتائج في ملف الأكراد المعارضين لطهران.
ويؤكد الفريق ياور أن "الأتراك يعتمدون حالياً على الضربات الجوية بواسطة الطائرات المسيرة لقصف أهداف نوعية وشخصيات قيادية، ونجحوا في تحجيم أنشطة العماليين وإبعادهم عن ساحتها"، مستدركاً "لكنهم (الأتراك) يدركون صعوبة تحقيق نتائج من دون دعم عراقي، بخاصة أن حزب العمال يعد ورقة تستخدمها الأطراف ومنها بغداد وطهران، وعليه فإن الموضوع سياسي أكثر مما هو عسكري، كما أن الحكومات التركية تستخدم هذا الملف دائماً كورقة في قضاياها الداخلية والانتخابات".
الكلمة الفصل
في المقابل تظهر مواقف حزب العمال عن اتخاذه استعدادات بعد أن نجح في التكيف مع ضربات الطائرات المسيرة التي ألحقت به خسائر كبيرة، ويبدو مطمئناً إلى أثر الموقف العراقي الرافض للمشاركة ومن خلفه إيران، ناهيك عن ظروف أنقرة التي تعاني تدهوراً اقتصادياً، وتبقى مخاوفه بشكل أكبر في المناطق الكردية في سوريا.
في هذا الإطار يعتقد الباحث في الشؤون الكردية كمال جوماني أن "أردوغان يسعى إلى تطبيق سيناريو سرليناكا ضد نمور التاميل، وهذا صعب إذا ما أخذنا في الاعتبار تدهور الاقتصاد التركي بالحسبان، ثم إن بروز العماليين منذ عام 2015 كطرف فاعل في مواجهة تنظيم (داعش) واتساع رقعة نفوذه، تخطى دائرة الشأن الداخلي التركي نحو السياسة الخارجية، وقد يكون للعملية مردود سلبي في علاقات أنقرة الدولية".
وأوضح أن "أي تعاون عراقي - تركي لن يتحقق من دون طهران التي ترى في احتمال إنهاء حزب العمال تعزيزاً لنفوذ الأتراك، كما لا تضمن طبيعة الجهة التي ستظهر لاحقاً في هذه الحدود، وقد تكون جماعات سنية متطرفة ربما بدفع من إسرائيل وأميركا".
وفي شأن إمكان حصول الأتراك على موقف عراقي وفقد مبدأ المصالح المشتركة، يقول جوماني إن "مشاركة العراقيين في هذه الحرب ستكون نسفاً للمنطق السياسي، إذ ليس لهم فيها لا ناقة ولا جمل، أما بخصوص المصلحة المشتركة فإن لأنقرة مصلحة أكبر، كون العراق يعد أحد أهم المستوردين لديها، وهو يصدر لها النفط، وتبقى مسألة المياه التي يمكن أن تحل بالمساومة في الملفات الاقتصادية وليس الدخول في صراع عرقي".
أطراف المعادلة
من جانبه يستند الباحث في الشؤون السياسية والإستراتيجية سرمد البياتي إلى معطيات تعزز من استحالة شن أنقرة عملية كبرى من دون العراقيين، ومنها "تعويل الأتراك كثيراً على مشروع طريق التنمية العراقي، وهذا نوع من العمليات التي تولد تداعيات أمنية وسياسية خطرة على المشروع، بعكس ما تبرر أنقرة بأن العملية تهدف إلى تأمين الطريق الذي لا يمر بإقليم كردستان لمسافة لا تتجاوز 18 كيلومتراً".
ويعزو البياتي احتمال تردد الأتراك في شن العملية إلى "فشل كل الحلول العسكرية السابقة منذ أربعة عقود نتيجة ظروف المنطقة الجبلية الصعبة واتساعها، ذلك أن الملف متشابك ومحاط بظروف جغرافية ومعادلة معقدة، فعلاقة حزب العمال متوترة، في الأقل ظاهرياً، مع حزب بارزاني في أربيل، لكنها متينة مع حزب طالباني في السليمانية، وهذا التناقض نجده مع بقية القوى على الجانب الاتحادي، في وقت دخلت بغداد وأنقرة في اتفاقات بمليارات الدولارت، ولدينا إيران أيضاً التي لها نفوذها".
ونوه إلى أن "الحل الوحيد يجب أن يكون دولياً، لأن لا أقليم كردستان له القدرة على مقاتلة حزب العمال، ولا بغداد مستعدة للدخول في حرب خاسرة، سوى أنها اكتفت باعتبارهم خارجين عن القانون، علما أن ’العمال‘ غير مستعد قطعاً للانسحاب على غرار أقرانه المعارضين لطهران".