Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الفرنسي ماركر يكرم الياباني كوروساوا بفيلم وهو يصور "الفوضى"

"آ. ك." وثائقي عن صاحب "الساموراي السبعة" يخوض لعبة الفن الحقيقي من داخلها

آكيرا كوروساوا يصور "ران" أمام كاميرا كريس ماركر (الموسوعة البريطانية)

ملخص

قرر المنتج سيرج سيلبرمان خلال اشتغاله على فيلم المخرج الياباني أكيرا كورساوا "ران" وأتته فكرة رائعة وهي أن يجعل لحظة عمل كوروساوا على الفيلم عام 1985 لحظة سينمائية خالدة، فطلب من المخرج الفرنسي كريس ماركر أعداد الفيلم الذي جاء سيرة مختلفة بعنوان "أ. ك"

قبل أربعين عاماً من هذه الأيام بالذات كان المخرج الياباني الكبير آكيرا كوروساوا يحقق في مناطق ريفية يابانية واحداً من أفلامه الأخيرة وهو الفيلم الذي يحمل عنواناً باليابانية هو "ران"، يمكن ترجمته إلى العربية بكلمة "الفوضى". وكان الفيلم من إنتاج السينمائي الفرنسي سيرج سيلبرمان الذي اندفع لجعل الفيلم ممكناً في وقت كان "إمبراطور السينما اليابانية" يعاني ما يعانيه في كل مرة يسعى فيها إلى تحقيق فيلم جديد. ففي اليابان وعلى رغم مكانة كوروساوا المطلقة في العالم، لم يكن ثمة أموال متوافرة لتمكين ذلك السيد السينمائي الكبير من خوض تجربة سينمائية جديدة تماماً كما كانت حال ساتياجيت راي في الهند ويوسف شاهين في مصر، لكيلا نذكر سوى هؤلاء الثلاثة الكبار الذين غالباً ما كانت حال واحدهم تقارن بحال الآخرين! ومن هنا لم يتح لأيهم أن يحقق إبداعاته الجديدة إلا بفضل رساميل جاءت من الغرب من طريق سيلبرمان بالنسبة إلى الياباني وجاك لانغ وأوبير بالسان بالنسبة إلى المصري وسكورسيزي وكوبولا وحتى جيرار ديبارديو بالنسبة إلى الهندي. كل هذا معروف وبات كما نعرف حالاً لا تتكرر اليوم. ولكن في ذلك الحين أسفر عن روائع نكاد نقول إن كبار السينمائيين من هؤلاء وغيرهم ختموا بها حياة إبداع لا يمكن أن تستعاد اليوم.

عالم من الفوضى

المهم اليوم أن المنتج سيلبرمان وخلال اشتغاله على فيلم كورساوا (الذي سيتبين لاحقاً فقط أنه عمل مقتبس بقدر كبير من التصرف عن "الملك لير" لشكسبير الذي كان طبعاً من كتاب كوروساوا المفضلين والذين يلجأ إليهم بشكل أو بآخر في كل مرة أراد أن يحقق فيها فيلماً كبيراً و... ذاتياً) وأتته فكرة رائعة وهي أن يجعل لحظة عمل كوروساوا على "ران" (عرض في ربيع عام 1985) لحظة سينمائية خالدة. وكانت الفكرة بسيطة لكنها أتت محملة بعدد لا بأس به من الدلالات. بل حتى بتكريم مزدوج: من ناحية لكوروساوا نفسه، ومن ناحية ثانية لواحد من كبار سادة السينما الوثائقية الأوروبية، الفرنسي كريس ماركر الذي كان معروفاً بحبه الشديد لكوروساوا وإعجابه الأشد بأفلام هذا الأخير. وهكذا ولد مشروع لم يكن ليخطر في بال أحد انطلاقاً من سؤال بسيط طرحه سيلبرمان على نفسه وعلى مساعديه: لماذا لا نكلف ماركر بتحقيق فيلم وثائقي يسجل تلك اللحظات السينمائية التاريخية؟ بكلمات أخرى أكثر بساطة وعملية: لماذا لا نطلب من ماركر تصوير فيلم عن كوروساوا ومع كوروساوا وهو يصور فيلمه الجديد هذا؟. وحين فوتح ماركر بالأمر لم يتردد لحظة بل نقل معداته من فوره إلى المناطق التي يصور فيها زميله الياباني مشروعه الشكسبيري الجديد وكانت النتيجة في نهاية الأمر فيلماً لا شك أنه أتى بعنوانه معه وما كان يمكن أن يكون له عنوان آخر طالما أن سيلبرمان نفسه قال: "يا حبذا لو لا يزيد عنوان هذا الفيلم في حروفه عن تلك الثلاثة التي يتألف منها عنوان "ران". صحيح أنه قدم ذلك المقترح على شكل مزحة تعجيزية؛ لكن ماركر التقط المزحة ليعنون فيلمه "آ. ك." ما يحمل الحرفين الأولين من اسم آكيرا كوروساوا. فهل ثمة من يمكنه أن يزايد؟ لقد بدت الفكرة من البداهة بحيث أن سيلبرمان طرب لها فكلفته ثمن زجاجة شامبانيا من أفخر الأنواع وشرب الحضور النخب بمن فيهم كوروساوا نفسه.

... ودارت الكاميرا

دارت الكؤوس قبل ساعات من انبلاج صباح اليوم التالي عن كاميرات ماركر تدور لتحقق ما يمكن اعتباره أبدع تكريم ناله فنان كبير على يد زميل كبير له. ولسنا في حاجة طبعاً إلى الإسهاب هنا في الحديث عن مكانة ماركر في السينما الوثائقية هو الذي تضاهي مكانته مكانة كوروساوا في السينما الروائية. ومن هنا كانت النتيجة فيلماً لم يبد في نهاية المطاف على الشكل الذي توقعه أصحاب المشروع أي نوعاً من "تصوير فيلم عن فيلم..." بل نوعاً من تحية فنان كبير لفنان كبير آخر. ولقد تم ذلك في لعبة تسابق فيها السينمائيان الكبيران لإبداء كل منهما أسمى آيات التواضع تجاه الآخر، بل حتى أرقى الممارسات الفنية والأخلاقية في عالم الفن. والحقيقة أن ماركر كان صاحب المبادرة في ذلك. فهو حرص منذ البداية على أن يقسم النص السيناريستي الذي كتبه ليس فقط من وحي سيناريو كوروساوا وطريقته في أفلمته، بل من وحي متابعته للتصوير يوماً بيوم في مزج بين ما يدور أمام كاميرا كوروساوا، وما يلتقطه من تعليقات هذا الأخير في أحاديثه مع تقنييه وممثليه الذين كعادتهم في العمل معه يبدون كأسرة واحدة. ففي نهاية الأمر كان كوروساوا لا يلجأ في عمله إلى تقنيين أو ممثلين أو حتى إلى حرفيين يعرفهم عن كثب، ومن هنا عرف ماركر كيف يصور التفاهم بالنظرات والصمت في مشاهد التقطتها كاميراه المرابطة خلف كاميرا كوروساوا. مشاهد سيقول كوروساوا لاحقاً حين شاهد نتيجة عمل ماركر أنها خير ما أبدعه كائن من حول إبداعه.

على طريقة الإسطمبات

ونعود هنا إلى تقسيم ماركر لسيناريو فيلمه انطلاقاً من سيناريو فيلم كوروساوا وقد قسمه إلى عشر مراحل ليس هذه المرة على طريقة تقسيم كوروساوا، بل استلهاماً من تقسيم كبار الرسامين اليابانيين للمشاهد التي يرسمون بها مراحل رحلات يجوبون خلالها طرق اليابان في مرحلة زمنية محددة تنتج عشرات الإسطمبات التي يمكن لكل واحدة منها أن تعيش حياتها مستقلة وتعلق منسوخاتها في البيوت كما يمكن لها أن تعيش مجتمعة حتى في كتب وروزنامات وما شابه ذلك. وبالنسبة إلى ماركر في "آ. ك." انقسم زمن عرض الفيلم وهو سبعون دقيقة إلى عشر مراحل – أو باليابانية: كنجي – أعطاها السينمائي الفرنسي عناوين مستقاة مباشرة من تيمات السينمائي الياباني الكبير وربما في إحالة مباشرة إلى التيمات الشكسبيرية نفسها: "معركة"، "صبر"، "إخلاص"، "سرعة"، "أحصنة"، "مطر"، "لمعان وذهب"، " "نار"، "ضباب"، وأخيراً... "فوضى" التي جعلها كوروساوا في الأصل عنواناً لفيلمه. والحقيقة أنه لئن كنا قد ألمحنا قبلاً أن هذه العناوين تحيل مباشرة إلى تيمات شكسبير فإنها إذ أتت هنا لتتخذ مسلكاً يرتبط بتيمات كوروساوا المعهودة نفسها، تنطلق في ذلك من استذكار تيمات هذا الأخير في أفلامه الكبرى، ولكن كذلك من كون كوروساوا يكاد يكون المتحدث الوحيد في الفيلم ومن منطلق أن ثمة في تعليقاته على ما صوّر – في مساء يوم تصوير منهك – إشارة إلى ما يرتبط من خلال ما صوره بالعناوين نفسها. وربما على أية حال بما يسفر عن تناقض فاقع. فمثلاً حين يعنون ماركر فصلاً في الفيلم يستغرق بضع دقائق بـ"أحصنة"، نجدنا نكتشف بسرعة أن البطولة في اللقطة الأولى هي لسيارة المرسيدس البيضاء التي تحضر كوروساوا صباحاً إلى موقع التصوير لتعود به مساء إلى موقع الإقامة، ونستمع إلى المخرج الكبير يعلق على ذلك التبدل في وسائل النقل بين الزمن الشكسبيري والزمن الراهن!

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تعليقات كالدرر

والحقيقة أن تعليقات كوروساوا أتت درراً على بساطتها ومن ذلك مثلاً تعليق يفتتح الفصل الأول وفيه يفيدنا السينمائي الكبير بأنه قد يكون لتقدمه في السن هنا مفعوله "ومع ذلك حتى خارج مسألة التقدم في السن، أصارحكم بأن ما من فيلم أتعبني في حياتي بقدر ما أتعبني هذا الفيلم. ففي لحظة أعتقد أنني وصلت إلى غاية ما، لكني سرعان ما أدرك أن الصعوبة الحقيقية إنما بدأت عند تلك اللحظة. تماماً كما الأمر خلال تسلق جبل فوجي. تحس أنك تجاوزت كل صعوبة فإذا بك تعجز فجأة حتى عن التنفس!...". وهو ما يقابله مثلاً في ختام الفصل الأخير من الفيلم تعليق يفلسف فيه كوروساوا روح السينما مدمدماً: "تكمن روح السينما في تصوير ما نرغب في رؤيته. تصوير ما يُنسى عادة. في المسرح مثلاً قبل حلول المأساة الأخيرة ثمة ممثل يقوم بحركة ما وتهبط الستارة... وهو أمر عادي وطبيعي. فللمسرح ضوابطه التي لا مهرب منها. أما هنا في السينما فالكاميرا تتسلل حرة إلى أي مكان وتتغلغل في كل الأركان والزوايا... لها هنا القدرة الكلية من دون أن يتمكن أحد من ردعها!".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة