Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الجزائري بين مفتاح السعادة وقبح العمران

أمام إعصار الاستعجال شيدت أحياء سكنية من دون روح وعبارة عن مراقد شعبية باردة

منظر النصب التذكاري للشهيد في العاصمة الجزائر (أ ف ب)

ملخص

حين يغيب الجمال العمراني في السكنات فإن سعادة المستفيد لا تعمر طويلاً، إن الإنسان ليس كائناً استهلاكياً فقط، إنه كائن ثقافي وجمالي وروحي.

المدينة الجميلة بعمرانها هي للفرجة أيضاً، للعين، هي غاليريه صالة عرض للفنون التشكيلية وهي رسم بديع بأبعاد رباعية وهي للنظر وللتأمل، والشوارع فيها قصيدة تمشي على الأقدام، فكل عمران جميل هو خلق فني إبداعي.

في بلدان شمال أفريقيا وحوض المتوسط، ليس هناك بلد أنفق على مشاريع السكن الاجتماعي مثلما أنفقت الجزائر، فمنذ ربع قرن (2000-2024) لم تتوقف برامج بناء ملايين المساكن الاجتماعية الموجهة للمواطنين البسطاء ومحدودي الدخل. وأقيمت هذه المشاريع في المدن الكبيرة والمتوسطة والصغيرة، بل مست أيضاً حتى القرى الصغيرة والمداشر في الأرياف المعزولة والبعيدة، ما في ذلك شك، ولا يمكن لجاحد أن ينفي ذلك، فهذه المشاريع تعد إنجازاً إيجابياً ونبيلاً حيال الفئات الهشة في المجتمع وما أكثرها.

وعلينا الاعتراف أيضاً بأن هذه السكنات كانت السبب في سعادة ملايين الجزائريين، الشباب والكهول والنساء والرجال والعمال والعاطلون، وحتى بعض الإطارات، وصحيح لم تكن هناك عملية توزيع عادلة ونظيفة بالمطلق، مما كان السبب في كثير من النقد وأيضاً من الاحتجاجات التي سجلت هنا وهناك ضد السلطات المحلية التي تشرف على وضع قوائم المستفيدين وضبطها وترتيب الأولويات فيها.

ومع ذلك، رافقت عمليات التوزيع لحظات من البهجة النادرة من قبل المستفيدين وعائلاتهم، فهذا الشاب الذي ظل يحلم بسقف يؤويه منذ طفولته، وهذه المرأة المسنة التي تتمنى أن تموت تحت سقف يسترها، وهذه الزوجة التي كثيراً ما حلمت بأن ترى أطفالها في غرفة مستقلة خاصة بهم، وهذان العروسان اللذان كثيراً ما حلما بغرفة حميمة، وهذا سائق تاكسي كثيراً ما انتظر أن يعود لسكنه فيأخذ حماماً دافئاً، كل هذه البهجة الصادقة محفوظة في تسجيلات الأهالي أو الإعلام. إنها لحظات سعادة لا تقدر ولا تحد ضفافها!

إنه مفتاح السعادة، يشهد هذا المواطن، إنها باب السماء شرعت، يضيف آخر!.

ما في ذلك شك، فالحصول على عمل ومسكن هو البوابة الأساسية بالنسبة إلى كل مواطن كي يبدأ حياة فيها نوع من الضمان وتحمل الأمل، غير أن الحياة لا تنتهي عند العمل والسكن، إنها أعمق من ذلك بكثير.

على رغم الاحتيال والفساد المسجل وهو كثير، إلا أن هذه البرامج المتنوعة والخاصة بالسكن الاجتماعي تشكل طريقاً نحو جزائر الدولة الاجتماعية، جزائر التكافل.

لكن في هذه السعادة المواطنية وفي هذا البعد الاجتماعي للدولة خللاً لا بد من الكشف عنه لأن تراكمه سيعوق مثل هذه المشاريع الاجتماعية ويبعدها من هدفها النبيل.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مع أن في الجزائر كثيراً من الجامعات وكذلك المدارس العليا التي تخرج سنوياً عدداً هائلاً من المهندسين المعماريين في تخصصات مختلفة وبتكوين نوعي مميز، إلا أن ما أنجر من سكنات، على المستوى الجمالي العمراني، يبدو قبيحاً ومشوهاً لا يتناسب مع الذوق العمراني للألفية الثالثة.

مدفوعة بحال من الاستعجال السياسي وواقعة تحت ضغط أزمة السكن الحادة والمتراكمة منذ الستينيات، أهملت السلطة المركزية والسلطات المحلية التابعة لها الجوانب الجمالية في ما أنجز من عمران سكني، بذلك لم تتمكن هذه المشاريع الاجتماعية الأساسية من الجمع بين المفيد والممتع وبين المضمون والشكل وبين النافع والجميل.

وأمام إعصار الاستعجال الاجتماعي، شُيدت أحياء سكنية من دون روح، أحياء، بل مدن هي عبارة عن مراقد شعبية باردة.

وحين يغيب الجمال العمراني في السكنات فإن سعادة المستفيد لا تعمر طويلاً، إن الإنسان ليس كائناً استهلاكياً فحسب، بل إنه كائن ثقافي وجمالي وروحي أيضاً.

لقد بنيت آلاف الأحياء السكنية، وظلت حتى من دون أسماء، وظل الناس يتداولون أسماء إدارية غريبة لهذه الأحياء مثل حي 2000 سكن، حي 1700 سكن، حي 1300 سكن، حي 500 سكن وما إلى ذلك، مع أن الجزائر بلد عامر بأسماء شخصيات وطنية ودولية كبيرة ومعروفة، منهم الفنانون التشكيليون والموسيقيون والكتاب والصحافيون والأطباء والمفكرون... إن منح اسم كاتب أو فنان لحي سكني هو في حد ذاته حالة ثقافية.

وصرفت الدولة أموالاً طائلة في بناء هذه السكنات المتنوعة والموجهة لشرائح اجتماعية مختلفة ومتفاوتة، ولكنها لم تنتبه، بل فاتها، بناء مكتبة صغيرة ومكتبة وسائطية وقاعة عرض سينمائية بسيطة ومسرح الجيب، فلا وجود لحي أو مدينة حية من دون ثقافة وفن، إنهما الأسمنت الروحي والجمالي والأخوي الذي يجمع ويهندس الحياة بين ساكنة آتية من جهات مختلفة.

ضحية للعجلة السياسية وتحت ثقل الأزمات الاجتماعية بنت الجزائر أحياء ومدناً تؤوي ملايين البشر من دون حدائق للتنزه وسط الأشجار والعشب الأخضر والورد والمرافق التابعة لها، حدائق حقيقية وليس ساحات عمومية لركن السيارات، فكل هذا ممكن وبسيط جداً.

إن الأحياء الجديدة التي بنيت خلال ربع القرن الأخير، في كل الجزائر/القارة، في الشمال والهضاب العليا وفي الجنوب، تكاد تكون على تصاميم هندسية واحدة وموحدة، إنها تتشابه ولا تشبه شيئاً!، فهذه الأحياء الجديدة تشبه أشباحاً من الأسمنت مخيفة.

في كل ما أنجز من أحياء ومدن، وخلال 25 عاماً، لم نتمكن من تشكيل شارع كبير واحد بمقاييس عمرانية جمالية عالمية، فهناك أحياء من دون أشجار، أو يتم اقتلاعها بمجرد غرسها، وهذا محزن كثيراً، ولا أرصفة منظمة ومرتبة كما في المدن المحترمة.

وتذكّرنا هذه الأحياء الجديدة بعماراتها الصماء الفارغة إلا من الساكنة التي تشبه المراقد بصورة المساكن التي كانت تشيد في العهد الشيوعي الستاليني.

لقد تمكنت الجزائر المعاصرة من بناء سقف للجميع تقريباً، وهذا إنجاز نبيل ومدهش وغير مسبوق، لكنها أخفقت في بناء سقف للحياة ضمن هذه الأحياء، سقف لحياة تشاركية وجميلة، حتى لتبدو هذه الأحياء من دون روح ومن دون هواء.

وإذا كانت هذه هي حال مشاريع بناء السكنات الاجتماعية التي تولتها الدولة، فإن الخواص ليسوا أفضل من ذلك، فقيمة القبح مشتركة بين الاثنين، وكأن الجزائري يعشق الأسمنت المسلح والشبابيك الحديدية!.

إن البورجوازية المشبوهة، أو بالأحرى جامعي الأموال الغامضة، بنت فيلات كثيرة لكنها في غالبيتها عبارة عن كتل أسمنتية مكونة من طابق أرضي مشكل من كراج ومحال لبيع المواد الغذائية العامة والقصابة أو ما يشبه هذه النشاطات التجارية، ثم من فوقه طابقان مكونان من غرف كثيرة تذكرنا بغرف الملاجئ أو النزل!.

إن الرؤية العمرانية النفعية الفاسدة التي لا تفرق بين عمران المدينة والعمران الريفي والذوق الجمالي المشوه نجدهما حاضرين في كل مكان وفي كل بناء من قرية بوكانون في أقصى الشمال الغربي، مروراً بحاسي بحبح في الوسط الجنوبي وصولاً إلى بئر العاتق في أقصى الشرق، ومن حي سعيد حمدين بأعالي مدينة الجزائر العاصمة إلى الخروب على أطراف قسنطينة إلى عين الحمام بضواحي تيزي وزو وصولاً إلى مسرغين في المدخل الغربي لوهران!.

ولم ينفذ من ذلك التشويه حتى الموروث العمراني الذي غنمته، وبكل جدارة، الجزائر المستقلة عن الاستعمار الفرنسي، وهو الموروث العمراني الذي من المفروض أن يصنف كتراث وطني محمي، ليظل شاهداً على مرحلة عمرانية من تاريخ المدينة الجزائرية، شاهداً على مرحلة سياسية تميزت بالقهر والعنصرية الكولونيالية، حتى هذا الموروث يتعرض يومياً للتحطيم، إذ تهدّم فيلات كولونيالية عمرها أكثر من قرن ونصف، ذاكرة مهمة للأجيال المقبلة، وتبنى عمارة بئيسة بطوابق متعددة بديلاً عنها، بشقق وكراجات ومحال تجارية من دون أي اعتبار لطبيعة عمران الحي السكني برمته. شيء محزن حقاً!.

إن صورة المدن هي على صورة الثقافة الغالبة في أمتها، صورة لها ومنها، فلقد أصبح الأمر مستعجلاً وخطراً وعلى الدولة توقيف هذا القبح الموحد الزاحف على عمران البلاد، فسقف للإيواء ليس بريئاً، والبيت جزء من الهوية، والعمران مؤشر إلى مستوى معرفة كيفية العيش وإلى مستوى معرفة كيف نحب الحياة وكيف نحب بعضنا بعضاً.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء