Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الوظيفة الحكومية في مصر... جنة "الأفندي" الموقدة

لا تزال حلماً يداعب كثيرين رغم راتبها الهزيل وكأنها واجب الدولة "الأم" تجاه أبنائها المحتاجين إلى الأمان والرعاية

تظل الوظيفة الحكومية بمصر في مكانة متفردة عصية على الفهم وبعيدة من الإقصاء (اندبندنت عربية)

ملخص

على مدار عقود طويلة، تكاثرت الوزارات المصرية، وانبثقت هيئات فرعية من الهيئات الأصلية، وانشطرت مصالح وأقسام ومجالس وهيئات من القطاعات الأم وأحياناً الفرعية. ومع كل تكاثر وانبثاق وانشطار، جرى تعيين المئات والآلاف من الموظفين الحكوميين الجدد من دون النظر في مدى الحاجة إليهم أو جدوى الهيئة أو المصلحة الوليدة من الأصل

"أحمد ابن أختي يبحث عن أي وظيفة في المصلحة"، و"شيماء جارتنا كلّمت طوب الأرض ليتم تثبيتها في وزارة التربية والتعليم بدلاً من العقد محدود المدة"، و"صلاح ترك حسابات الكافيه (المقهى) الذي كان يدر عليه آلافاً حين وعدوه بوظيفة ثابتة بوزارة الكهرباء"، وفي كل بيت مصري قصة حقيقية عن بحث مضنٍ عن الأمان والاستقرار، وذلك في أحضان وزارة متهالكة، أو مصلحة قادرة على وأد الأحلام، وإجهاض الكفاءات، أو درجة وظيفية راتبها والعدم سواء.

وسواء تضخمت أعداد موظفي القطاع الحكومي في مصر، فبلغت ستة أو سبعة ملايين، أو تقلصت فلم تتعدَ الملايين الثلاثة موظف وموظفة، تظل الوظيفة الحكومية بمصر في مكانة متفردة، عصية على الفهم وبعيدة من الإقصاء.

أقصى ما يمكن عمله في منظومة "موظف الحكومة" التي تضخمت وتفاقمت وتعدت الغاية الأصلية منها، حتى ترهلت ترهلاً شديداً، هو تقليصها وقصقصة ريشها وتقليم أظافرها. على مدار عقود طويلة، تكاثرت الوزارات، وانبثقت هيئات فرعية من الهيئات الأصلية، وانشطرت مصالح وأقسام ومجالس وهيئات من القطاعات الأم وأحياناً الفرعية. ومع كل تكاثر وانبثاق وانشطار، جرى تعيين المئات والآلاف من الموظفين الحكوميين الجدد من دون النظر في مدى الحاجة إليهم أو جدوى الهيئة أو المصلحة الوليدة من الأصل.

ويضاف إلى ذلك التعامل السياسي مع منظومة "موظف الحكومة"، باعتبارها واجباً من واجبات الدولة "الأم"، وشكلاً من الرعاية، ونوعاً من دعم الدولة للمواطن، ووسيلة للإبقاء على نسبة الرضا الشعبي تجاه نظام الحكم ضمن الحدود الآمنة.

في خانة "الميري"

أمان الوظيفة الحكومية، الذي تغنّى به عزيز عثمان، محاولاً كسب قلب ليلى مراد عام 1948 في فيلم "عنبر"، لا يزال يسيطر على عقول كثيرين، على رغم الراتب المنخفض في أغلب الأحيان، فالحاضر يشير إلى أن "سعيد" (33 سنة) استقال من وظيفته الرياضية في نادٍ شهير قبل نحو عام، التي كانت تضمن له راتباً شهرياً يقدر بثمانية آلاف جنيه (165 دولاراً أميركياً) ليعين بفضل الوساطة في هيئة حكومية تابعة لوزارة، وذلك براتب قدره 3500 جنيه (72 دولاراً أميركياً) شهرياً قبل خصم التأمينات والضرائب!

قرار سعيد قوبل بلوم وتأنيب من قِبل البعض، الذي اعتبره سفهاً وإصراراً على التمرغ في "تراب الميري" على رغم ثبوت عدم جدواه مادياً واجتماعياً، فيما هنأه البعض الآخر، حيث يظل "الميري" الأمن والأمان والاستقرار، ولو كره خبراء الاقتصاد ومستشارو الإصلاح.

وحتى يصلح سعيد من وضعه الاقتصادي الذي تدهور بعدما أعطى الأولوية لأمن الميري وأمان ترابه، احتفظ بجانب من عمله في النادي بنصف الراتب الذي كان يتقاضاه بفضل علاقاته الطيبة مع رؤسائه. المثير أن ساعات عمل مصلحة والنادي واحدة، وهو ما يعني توجّه سعيد إلى المصلحة صباحاً، حيث "يمضي" (يوقع) لإثبات الحضور، ثم يتوجه إلى النادي، ويوقع أحد الزملاء نيابة عنه بعد الظهر لإثبات الانصراف.

 

انصرفت الملايين في مصر بعيداً من الميري وترابه، لكن ملايين أخرى تتعلق به، إن لم يكن فعلياً عبر الإصرار على استمرار العمل في الدوائر والمصالح الحكومية شحيحة الدخل، لكن وفيرة المنافع بدءاً من ضعف الرقابة، إذ من حضر كمن لم يحضر، مروراً بالتأمين الصحي والإجازات والإعارات والظروف الخاصة والعامة وترهل دولاب العمل، بحيث تتداخل الحقوق بالواجبات بالمسؤوليات بعدمها، وانتهاءً بشيوع مبدأ "على قد فلوسهم" المبرر للغياب والإهمال والفساد والتعيين بغرض الانتفاع، وربما توريثه للعائلة.

التعامل السياسي مع منظومة "موظف الحكومة" لاكتساب الرضا الشعبي تجاه نظام الحكم كدّس ملايين الموظفين من دون النظر في مدى الحاجة إليهم

رسمياً، أحلام كثيرين في مصر، سواء من الشباب حديثي التخرج أو ذويهم، ما زالت عالقة في خانة "الميري". ما زالت الوظيفة "الكحيانة" (غير ذات شأن اقتصادي أو اجتماعي) حلماً. إنها محطة يوثق فيها الشاب أو الشابة قدميه عبر التعيين، ثم ينطلق إلى آفاق عمل إضافي بعد الظهر، أو حتى أساسي في مواعيد العمل الحكومي الرسمية، أو الحصول على إجازة والتفرغ للزواج والحمل وتربية الأبناء. هو شكل من أشكال "الدعم" الحكومي لجموع المواطنين.

"رضوى" (40 سنة) تخصصت في علم الاجتماع بكلية الآداب. مجموعها في الثانوية العامة لم يؤهلها لتخصص آخر. ظلت تبحث عن عمل براتب معقول، وعملت سكرتيرة في شركة قطاع خاص، إذ مواعيد العمل من التاسعة صباحاً إلى الخامسة بعد الظهر، مع نظام إجازات صارم ومحدود جداً.

"الوظيفة حقي"

وحين تزوّجت، انتهجت الأسرة الشابة النهج المتعارف عليه، ألا وهو البحث عن وظيفة حكومية "مأمونة"، فساعات العمل محدودة جداً، والإجازات نهر لا ينضب، والإجازة من دون مرتب أمر متعارف عليه، لكن الترقيات مستمرة والتأمين الصحي سارٍ والمعاش مضمون. تقول رضوى إنها ضحّت بالراتب الجيد في سبيل "التفرغ"، لتربية أبنائها ورعاية أسرتها، وتذيّل مسيرتها "المهنية" بـ"هذا حقي ووظّفته لمصلحتي".

ثقافة استحقاق الوظيفة الحكومية ومزاياها من دون تقديم ما يساويها، عبّر عنه الكاتب وأستاذ الاقتصاد المصري الراحل جلال أمين، كتب تحت عنوان "في أصول المسألة الاقتصادية المصرية" (2012) محاولاً فك مفهوم "الدعم" الملتبس، الذي يعتبره الداء والدواء في الوقت نفسه.

يقول أمين "المستثمر الأجنبي في مصر يوظّف عمالاً وموظفين، ولا يدفع لأي منهم إلا مقابل إنتاج حقيقي يساوى أو يقارب ما يحصل عليه من راتب. المستثمر لا يعتبر مشروعه شكلاً من أشكال الإحسان أو العمل الإنساني، بل عمل اقتصادي يستهدف الربح. واستهداف الربح يفرض عليه أن لا يدفع لأحد أكثر مما يسهم به من إنتاج".

 

في المقابل، رأى أمين أن العكس هو سمة العمل في الحكومة، يقول "نسبة كبيرة من موظفي الحكومة تحصل على رواتب من دون مساهمة تذكر في الإنتاج. ومعهم من يحصلون على أكثر من مساهمتهم في الإنتاج ممن يحصلون على دعم من الحكومة لسلعة أو خدمة، من الخبز إلى الوقود إلى التعليم والعلاج. هؤلاء جميعاً، إضافة إلى موظفي الحكومة الزائدين على الحاجة، يحصلون على دخل حقيقي، سواء في صورة راتب أو دعم أو أسعار مخفضة، ولا تقابله مساهمة مساوية في الإنتاج، أو لا تقابله أي مساهمة على الإطلاق".

ولا ننسى أن جانباً معتبراً من قطاعات الحكومة تتمتع بكل تلك المزايا، وأيضاً تعطي رواتب أفضل من كثير من وظائف القطاع الخاص، فالمحاسب بوزارة الكهرباء قد يتقاضى أضعاف نظيره في الصحة، وعامل النظافة داخل وزارة البترول حظه أوفر كثيراً ممن يقوم بالعمل نفسه في الصحة.

ما يوجه دفة ذلك إلى تلك المصلحة "محدودة الدخل" أو يمنح الفرصة لآخر لدخول "وزارة الصف الأول" قد يكون ببساطة "الوراثة"، فشجرة العائلة ظلت تتحدث عن نفسها على صفحات الوفيات على مدار عقود. "رحل الأستاذ فلان المدير العام في مصلحة كذا، والفقيد والد كل من فلان وفلانة في المصلحة نفسها، وعم كل من علان وعلانة في مطابع المصلحة، وابن عم فلان وفلانة في عيادة المصلحة، وابن خال علان كبير مهندسي ورشة المصلحة وقائمة التشابك الأسري الميري كانت سمة يومية من سمات صفحات الوفيات".

تفاوت الأجور بين مؤسسات تصنّف حكومية دفع البعض إلى هجرة "الحكومة الفقيرة" إلى "الحكومة الغنية" ما أفرغ بعض القطاعات من الكفاءات

تفاوت الأجور بين مؤسسات جميعها تصنّف حكومية تدفع البعض إلى هجرة "الحكومة الفقيرة" إلى "الحكومة الغنية"، ما قد يتسبب في "إفراغ بعض القطاعات من الكفاءات" وفق تعبير رئيس الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة، صالح الشيخ، خلال جلسة برلمانية عام 2020، كشف خلالها عن أن رئيس الحكومة مصطفى مدبولي وجّه بإعداد دراسة عن التفاوت في الأجور داخل الحكومة، وأرسلت مخاطبات إلى مختلف الجهات الحكومية لبيان الرواتب، غير أن بعض المؤسسات لم ترد على رغم تكرار المخاطبة ثلاث مرات، مرجعاً ذلك إلى أن تلك الهيئات "لا تهتم" أو "لا تريد" الكشف عن رواتبها.

وعلى رغم أن كلمة موظف حكومة يجب أن تشمل كل من يتقاضى راتبه من خزانة الدولة، فإن القوانين تفرّق بين من يشمله قانون الخدمة المدنية، وهم الموظفون في معظم الوزارات، والعاملين في هيئات اقتصادية لها موازنة خاصة، مثل قناة السويس، وكذلك الموظفون في اتحاد الإذاعة والتلفزيون والسكك الحديدية وغيرها، إضافة إلى من لهم "كادر خاص" كالأطباء والمعلمين، ناهيك بالضباط والقضاة وأعضاء هيئة التدريس في الجامعات، ولكل منهم نظام خاص لاحتساب الرواتب.

ذلك الاختلاف وأحياناً الفوارق الشاسعة في المعاملة المالية تخلق في بعض الأحيان أزمات للدولة، فقد تظاهر عدد من أئمة وزارة الأوقاف عام 2011 أمام مجلس الوزراء للمطالبة بإصلاح مالي لأحوالهم، والشهر الماضي تظاهر عمال شركة غزل المحلة للمطالبة بشمولهم في قرار وضع حد أدنى للأجور بقيمة 6 آلاف جنيه (123 دولاراً أميركياً)، وهو القرار الذي أعلنه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي على أن يشمل "العاملين بالدولة"، الذين يختلف تعريفهم فهل هم العاملون في الوزارات الحكومية فقط أم تشمل شركات قطاع الأعمال العام، وهي الشركات التي تملك فيها الدولة حصة الغالبية، وكذلك بعض المؤسسات التي لا يشملها تعريف الحكومي أو قطاع الأعمال، مثل المؤسسات الصحافية القومية التي صدر لها قرار لاحق بأن يحصل العاملون فيها على الحد الأدنى للأجور.

جهاز حكومي عملاق

هل الجهاز الحكومي المصري أكبر مما ينبغي؟ سؤال طرحته الباحثة في "المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية" (2022) نسرين الشرقاوي، وقادها إلى تشريح تاريخي معاصر لمنظومة الوظيفة الحكومية.

تقول الشرقاوي إن الجهاز الإداري في مصر تضخم بسرعة كبيرة بعد ثورة يوليو (تموز) عام 1952، تحديداً في أعقاب سلسلة القرارات التي اتخذها الرئيس الراحل جمال عبدالناصر ذات الطابع الاشتراكي وحركة التأميم، ووعد الدولة بالتزامها بتوظيف جميع الخريجين، الذين تضاعفت أعدادهم بسبب سياسة مجانية التعليم، تزامناً وتوسع مهام الدولة وزيادة حجم القطاع الحكومي.

بعد وفاة عبدالناصر، وعلى رغم ميل الرئيس الراحل محمد أنور السادات إلى السياسات الرأسمالية التي تتعارض وفكرة "أمومة" الدولة ومسؤوليتها عن تشغيل المواطنين، فإنه لم يستطع، وربما لم يرد أن يغامر بتقليص التعيين الحكومي، وشهدت السبعينيات زيادة كبيرة في أعداد موظفي الحكومة. تشير الشرقاوي إلى أن "التعيين الجائر للموظفين" استمر حتى وصل إلى مرحلة الذروة في الفترة بين 1978 و1990، وبدأت ملامح التباطؤ في الفترة من عام 1995 إلى عام 2000. وجرى إلغاء "التزام" الدولة بتعيين كل الخريجين، وتزامن ذلك وإطلاق برامج الخصخصة في منتصف التسعينيات، وانخفضت الأعداد في ضوء برنامج إصلاح اقتصادي التزمت به الدولة.

 

يبدو الهيكل الإداري للدولة المصرية كبيراً ومتشعباً، فهناك 33 وزارة ملحق بها 14 مصلحة، إلى جانب 217 هيئة عامة، و27 محافظة بكل منها 11 مديرية خدمية، بإجمالي 297 مديرية، و175 مركزاً، و232 مدينة، و93 حياً، و837 شياخة، و4733 قرية، إضافة إلى أجهزة مدن المجتمعات العمرانية الجديدة وعددها 42 جهاز مدينة، وفق الدراسة السابقة.

وفق آخر الأرقام المعلنة من الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فقد بلغ عدد العاملين في الجهاز الإداري للدولة عام 2017 نحو 5 ملايين موظف، انخفاضاً من 5.8 مليون عام 2015، وأشارت الدراسة التي أعدّها المركز المصري للفكر والدراسات إلى أن عام 2017 شهد انخفاضاً في عدد الموظفين الحكوميين 13 في المئة، وعزا ذلك إلى إقرار قانون الخدمة المدنية الذي جعل التعيين في الوظائف الحكومية وفق ضوابط صارمة، إضافة إلى اعتماد آلية المعاش المبكر الاختياري.

وبدأت الدولة مشروعاً لحصر أعداد موظفيها بدقة، وبلغ عدد من جرى حصرهم حتى يوليو (تموز) 2022 ثلاثة ملايين و231 ألف موظف، وفق تصريحات تلفزيونية لرئيس الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة.

عبد الناصر التزم بتوظيف جميع الخريجين في القطاع الحكومي والسادات ومبارك سارا على نهجه خوفاً من المغامرة والسيسي أمر بوقف التعيينات لكن باب التوظيف ما زال مفتوحاً

في عام 1966، كان لكل 31 مواطناً مصرياً موظف حكومي يقدم لهم الخدمات الحكومية، ثم أصبح موظف واحد لكل 23 مواطناً في عام 1978، ثم موظف لكل 13 مواطناً في عام 2000، وحتى عام 2010. ومع انخفاض أعداد الموظفين في النصف الثاني من العقد الماضي بدأت المعدلات في التراجع حتى بلغت موظف لكل 18 مواطناً عام 2017، وتستهدف الحكومة أنه بحلول عام 2030 سيكون هناك 3.85 مليون موظف، بمعدل موظف لكل 40 مواطناً.

بترجمة تقليص أعداد الموظفين إلى أرقام، نجد أن مخصـصـات الأجور وتعويضات العاملين في الموازنة العامة للدولة للسنة المالية 2023 - 2024 نحو 470 مليار جنيه (9.72 مليار دولار) أو ما يعادل 4 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وفق بيانات وزارة المالية، بينما كان إجمالي مخصصات الأجور للعاملين في الدولة في مشروع موازنة العام المالي 2014 - 2015 نحو 228 مليار جنيه (4.72 مليار دولار)، بما يمثل نحو 26 في المئة من إجمالي الإنفاق العام.

زائدون على الحاجة

وكثيراً ما أشار المسؤولون المصريون إلى هؤلاء الملايين من الموظفين باعتبارهم "عبئاً مالياً" ورثوه من العهود السابقة. قبل نحو عامين، قال الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي على هامش مؤتمر اقتصادي إن أول قرار اتخذه قبل سبع سنوات كان وقف التعيينات في الحكومة. مشيراً إلى أن عام 2011 شهد ضمن ما شهد من أحداث، تعيين ما لا يقل عن مليون ونصف مصري ومصرية في وظائف حكومية "جرى تحميل رواتبهم على موازنة دولة مش (ليست) قادرة، وجرى رفع الرواتب في أشهر قليلة، لتصبح 230 مليار جنيه بعد هذه التعيينات في 2011، بعدما كانت 80 ملياراً فقط قبلها".

ما قاله الرئيس السيسي عن "قراره وقف تعيينات الحكومة" خلق "اعتقاداً" قوامه أن الحكومة لم تعد تعين أحداً. لكن الحقيقة هي أن باب التعيينات لم يُغلق، وهو ما أكده الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة غير مرة. ربما تكون نوعية الوظائف المعلن عنها محدودة، وربما تكون أنواع التعاقد تشجّع على التقاعد، لكن الباب يظل رسمياً غير مغلق.

 

حاجة العمل تتطلب فقط 30 في المئة من الهيكل الإداري للدولة حالياً، بحسب ما أعلنه رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي في مؤتمر صحافي عقد في مايو (أيار) 2022، وهو ما يقترب من تصريح سابق للرئيس السيسي في عام 2016 حول وجود 7 ملايين موظف حكومي، بينما هناك حاجة إلى خدمات مليون منهم فقط.

على رغم ذلك الفائض وفق التصريحات الحكومية فإن بعض قطاعات الدولة تعاني نقصاً واضحاً، فالتعليم يشهد عجزاً صارخاً بلغ 323 ألف معلم، بسبب وقف التعيينات وعدم وجود اعتمادات مالية، وفق ما أعلنه وزير التربية والتعليم السابق طارق شوقي أمام البرلمان في ديسمبر (كانون الأول) 2021، والرقم متوقع أن يكون ازداد في ظل حاجة الوزارة سنوياً إلى 20 ألف معلم جدد، لمواكبة الزيادة السكانية التي تضيف 750 ألف طالب جديد كل عام، ما دفع الدولة إلى إطلاق خطة لتعيين 150 ألف معلم على مدار 3 سنوات، لكن تلك الخطة إن جرى تنفيذها في مواعيدها لن تحل الأزمة كلياً، وتعني استمرار العجز بأعداد المعلمين.

الأطباء البيطريون ليسوا أفضل حالاً من المعلمين، إذ إن وقف التعيينات المستمر منذ عام 1994 أدى إلى قلة أعداد الأطباء البيطريين في المجازر والوحدات البيطرية، وفق طلب إحاطة في البرلمان تقدم به عضو مجلس النواب محمد عبدالله زين الدين، في فبراير (شباط) الماضي، الذي حذّر من وجود 150 طبيباً بيطرياً فقط على مستوى الجمهورية، ما يحدّ من حملات التفتيش على المحلات، ويهدد عمل الوحدات البيطرية.

تعيينات جديدة

شيخوخة الجهاز الإداري بعد عقد على منع التعيينات أو على الأقل التشدد في شروطها أدت إلى خلو 70 ألف وظيفة حكومية تعمل الدولة على إيجاد من يشغلها، وفق تقارير صحافية في العام الماضي، بما في ذلك 50 ألف وظيفة في قطاعي الصحة والتعليم.

تخفف الحكومة من "عبء" موظفيها استغرق سنوات من "وقف النزيف" بعدما رفعت شعار لا تعيينات وأهلاً بالمعاشات، فجيل مواليد الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، الذي شهد ذروة فترة التعيينات الحكومية في السبعينيات والثمانينيات، أصبح الآن على موعد مع نهاية حياته المهنية، ما يظهر في الأعداد الكبيرة التي تحال إلى التقاعد في السنوات الأخيرة.

مستشار رئيس الوزراء للإصلاح الإداري السابق هاني محمود، قال في تصريحات تلفزيونية عام 2020 إن التعيينات في الجهاز الحكومي بـ"أعداد قليلة جداً مقارنة بالمحالين إلى التقاعد"، وذلك في "التخصصات الملحة التي يحتاج إليها الجهاز الإداري، وذلك بعد موافقة رئيس مجلس الوزراء".

 

لكن الدولة تبدو غير قادرة على انتظار دورة الزمن، إذ تفتح الباب على مصراعيه لمن يريد المعاش المبكر، بل تمنحه أيضاً حوافز تشمل قيمة المعاش كاملاً وترقية إضافية، وفق تصريحات محمود الذي شغل سابقاً حقيبة التنمية الإدارية في الحكومة. ومنح قانون الخدمة المدنية الذي أقر عام 2016 الموظفين بالجهاز الإداري للدولة الحق في الخروج على المعاش المُبكر اختيارياً بعد تجاوز سن الخمسين، مع الحفاظ على كامل مستحقاتهم المالية.

حاجة العمل في مصر تتطلب فقط 30 في المئة من الهيكل الإداري للدولة ومليون ونصف عينوا بعد ثورة يناير والصحة والتعليم يعانيان النقص دائماً

مع انتقال الوزارات والهيئات الحكومية إلى العاصمة الإدارية الجديدة العام الماضي، أرادت الحكومة المصرية أن يشمل التطور الموظف أيضاً، فجرى تدريب 76 ألف موظف من الذين اختيروا للانتقال إلى العاصمة الجديدة، وفق تصريحات رئيس هيئة التنظيم والإدارة صالح الشيخ في مؤتمر صحافي في فبراير (شباط) الماضي.

بحسب الشيخ، فقد تضمنت التدريبات برامج حول إدارة الوقت وكيفية اتخاذ القرار ومكافحة الفساد وغيرها، إضافة إلى المجالات التخصصية. مشيراً إلى أن 117 جهة حكومية انتقلت للعاصمة، منهم 87 جهة انتقلت بالكامل، والباقي انتقل جزئياً.

مستشار رئيس الوزراء المصري للإصلاح الإداري سابقاً هاني محمود، قال في تصريحات لـ"اندبندنت عربية" العام الماضي، إن جميع الموظفين الذين وقع عليهم الاختيار للانتقال إلى العاصمة الجديدة وعددهم يقترب من 50 ألفاً خضعوا لاختبارات في اللغتين العربية والإنجليزية إلى جانب المهارات الشخصية، إذ تعاقدت الحكومة مع شركات تدريبية لتأهيل موظفيها قبل انتقالهم إلى المقار الجديدة.

وأشار محمود إلى أنه كان هناك حرص على عدم اختيار الموظفين الذين تقترب أعمارهم من سن التقاعد (60 سنة)، لضمان أن يكون الاستثمار في العنصر البشري مستداماً قدر الإمكان.وتقع العاصمة الإدارية على بعد نحو 60 كيلومتراً من القاهرة، ووفّرت الحكومة عدة طرق لانتقال الموظفين، منها شبكة مواصلات ومحطة مترو قريبة من العاصمة وقطار كهربائي، كما تمنح الحكومة بدل انتقال يتراوح بين 2000 و2500 جنيه (41 دولاراً أميركياً – 51 دولاراً أميركياً)، كما جرى توفير وحدات سكنية للموظفين بالحي الحكومي لمن يرغب في السكن بالعاصمة، وتصل المرحلة الأولى إلى 10 آلاف وحدة سكنية ويمكن الحصول عليها بتخفيضات ونظم سداد ميسرة.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات